
المسار …
غزة : الطفلة ميار (10 أعوام) ترتجف من البرد في مدرسة الإيواء في حي الزيتون شرق غزة، تضع يدها الصغيرة على الحائط المتشقق وتبدأ في الرسم.
مهد من رماد وفرشاة من لهب
ليست زهرة عادية، بل طفلة مثلها، تحمل في عينيها حزنًا أكبر من سنّها، وتلوّح للعالم بيد مبتورة. بجوارها كتبت بخط مائل: «لسّا في أمل.. غزة حترجع زي ما كانت”.
لم تكن ميار فنانة في مدرسة، ولا تعلمت الرسم على يد رسام عالمي، لكنها، كما تقول لـ “القدس العربي”: «احنا عملنا من الركام لوحات فنية على إنه فيه أمل إنها ترجع غزة زي ما كانت”.
كأنها بإزميل البراءة تحفر في جدار الحرب فسحة ضوء.
لوحات الوجع المفتوح
في حي الشجاعية، وعلى جدار منزل تحوّل إلى ركام، خطّ الشاب أدهم (23 عامًا) عشرات الأسماء. لم يكن كاتبًا ولا فنانًا، بل ناجيًا من الموت. منزله قُصف فاستشهد إخوته الأربعة، ولم يجد وسيلة لتخليدهم سوى الجدار المهدم.
“عمر وأسامة تحت الأنقاض»، كتبها تحت حجر متصدع. «وهنا قُصفت روح سارة»، و«هذا المكان شهد ارتقاء طلال».
ويقول أدهم «يعني أنت اليوم لما بتقرأ الجملة هذه لحالها، نفسيًا بتتعب، وجود شهداء، وجود جثث، هنا شهيد، هنا شهيد، في كل مكان شهيد. مش بس تحت الأنقاض، صارت في الشوارع”.
كانت دموعه تخطّ ما لم تسعه الحروف. صارت الجدران دفترًا للحكاية التي لا تنتهي.
حين يصبح الغرافيتي مقاومة
لم يعد الفن في غزة ترفًا. منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول / أكتوبر 2023، ومع تفاقم المجازر والانهيار الإنساني، تحوّل الغرافيتي إلى سلاح غير مرئي. جدران المنازل والمدارس والأنفاق والعيادات البديلة، كلها تحوّلت إلى لوحات حيّة تصرخ للعالم بما لا تنقله عدسات الأخبار.
وفي تقرير صدر عن “شبكة الفنانين الفلسطينيين الشباب” في نيسان / أبريل 2025، جرى توثيق أكثر من 180 جدارية نُفّذت خلال الحرب الجارية، معظمها بأدوات بسيطة مثل الفحم، الطباشير، قطع الحديد الصدئ، وحتى رماد الحرائق.
الرسام الغزي “محمد طلال”، الذي فقد مرسمه في تل الهوا، يقول لـ “القدس العربي”: «الرسومات اللي بنرسمها توحي إن فلسطين باقية، وستظل باقية. الفن موجود رغم الدمار، رغم الحصار، رغم كل شيء. إحنا بنحوّل المكان الميت لحياة”.
عمارة من دم وكفن
في مدينة غزة، رُسمت إحدى أشهر الجداريات خلال هذه الحرب. على امتداد عمارة سكنية مدمرة، جسّد بها فنان شاب لوحة تُظهر أبًا يحتضن طفله الملفوف بالكفن الأبيض. الوجهان مرسومان بدقة مروّعة، والعينان مغمضتان كأنهما في وداع أبدي. كتب الفنان أسفلها: «هنا ينتهي الوطن.. ويبدأ الحنين».
التُقطت صورة اللوحة من قبل العديد من وسائل الإعلام، وانتشرت عالميًا في آذار / مارس 2025، وحظيت بتفاعل واسع في المنصات الفنية الأوروبية. ووصفها الناقد الفني الفرنسي جان دومينيك بأنها “أقوى عمل غرافيتي خرج من منطقة حرب منذ لوحة (الصرخة) السورية في 2016”.
فن إنساني بلا أدوات
بسبب الحصار الكامل ونقص الأدوات، يلجأ الفنانون الشباب في غزة إلى استخدام الفحم الناتج عن القصف، الطين المعجون بماء ملوث، بقايا الطلاء القديم، وحتى عصائر النباتات المجففة، لرسم جدارياتهم. وفي كثير من الأحيان، تُرسم الجداريات بسرعة وفي ساعات الفجر خشية الاستهداف.
الطالبة الجامعية روان الدردساوي (21 عامًا) من منطقة التفاح في غزة، تقول لـ “القدس العربي”: «أنا رسمت عيون أمي اللي فقدتها بالقصف. حبيت أوثق ملامحها على جدار المدرسة اللي بنام فيها. ما كان معي شي غير صباع فحم وسطل مي، بس لما خلصت الرسمة، حسّيت إنها لسه عايشة فينا».
رسائل من تحت الرمادليست هذه الرسومات فقط تعبيرًا شخصيًا، بل تحوّلت إلى رسائل موجهة للعالم. بعض الجدران كُتبت عليها عبارات بالإنكليزية والفرنسية.
“We are still alive. Don’t close your eyes on Gaza. Hope grows in ruins.”
الرسام الغزي “فؤاد عليان”، الذي فقد نصف عائلته في قصف مخيم النصيرات، يقول لـ “القدس العربي”: «الرسالة توصل للعالم اللي برا إنه إحنا رغم الألم فيه أمل. حتى لو صوتنا مش واصل عبر الإعلام، فرسوماتنا بتكمل المهمة”.
امتداد لتاريخ فلسطيني طويل
لم تبدأ هذه الظاهرة مع الحرب الأخيرة. فغرافيتي المقاومة في فلسطين يمتد إلى زمن الانتفاضة الأولى، حين استخدم الفلسطينيون الجدران في الضفة الغربية وقطاع غزة كشكل من أشكال التعبئة والتحريض والتوثيق. لكن في هذه الحرب، ومع غياب الإعلام الحر، تحوّلت الجدران إلى صحف مفتوحة وشاشات عرض تحت الحصار.
ووفق دراسة للباحث الفلسطيني د. إياد أبو طه (جامعة الأزهر – غزة، 2024)، فإن الغرافيتي في غزة أصبح “وسيلة توثيق بديلة” يعتمدها الجيل الشاب لتعويض انقطاع الإنترنت وتقييد الإعلام المحلي والدولي.
من تحت الردم.. إلى معارض أوروبا
بعض الصور الملتقطة لهذه الجداريات خرجت من غزة عبر صحافيين أجانب وناشطين دوليين. وقد عرضت 12 لوحة من غزة في معرض “فن تحت القصف” الذي أُقيم في برلين في نيسان / أبريل 2025، بدعم من منظمة “فنانون بلا حدود”، وخصص جزء من ريعه لدعم التعليم الفني في المدارس المؤقتة في غزة.
ويقول الفنان الألماني من أصل فلسطيني سامي الخطيب، منسق المعرض: «ما رأيناه في صور غزة لا يمكن تصنيفه إلا كصرخات مرئية من الجحيم، لم أرَ مثل هذا الصدق في أعمال فنية من قبل».
المخيمات… صالات عرض الصمود
مدارس “الأونروا” التي تحوّلت إلى ملاجئ، باتت اليوم صالات عرض غير رسمية. على جدرانها رسومات لأطفال عن أمهاتهم، عن أسماك في بحر ممنوع، عن علم فلسطين يغطي القمر، وعبارات مثل: “رجعونا على بيوتنا. الشوكولاتة مش حلم كبير. بدي أرجع أدرس”.
المرشدة النفسية “أماني عوكل”، العاملة في مركز تأهيل للأطفال، تؤكد لـ “القدس العربي”: «الرسم هو أسلوب تعافٍ نفسي. كثير من الأطفال اللي فقدوا أهلهم أو بيوتهم، صاروا يعبّروا عن صدماتهم بالجدران. هذه الرسومات لازم تتوثق، لأنها شهادة على جريمة مستمرة”.
الحكاية بلون الدمع والفحم
في مدينة أحرقتها الحرب، حيث لا يبقى من البيوت إلا ظلها على الرمل، يقف طفل، أو شاب، أو فتاة، يحملون طبشورة أو قطعة فحم، ويخطّون على الجدار: «كنا هنا.. وما زلنا”.
هذا الغرافيتي ليس فنًا للزينة، بل هو فعل بقاء، هوية تُنقش حين تُطمس كل الهويات، وصوت يصرخ حين يصمت العالم. من بين الركام تولد الحكاية، وتنهض غزة.