انتهاكات الاحتلالتربية وتعليمفلسطيني

أحلام “توجيهي غزة” تبخرت مرتين.. الطلبة اصطفوا في طوابير الطعام بدل مقاعد الامتحان

المسار …

في طابور طويل خلف عربة تقل خزان مياه صالحة للشرب، كان مهند حسن (19 عاما) يقف ويحمل بيديه جالونين من البلاستيك، ينتظر وصول دوره لملئهما، والعودة بهما إلى منزل جده، حيث تقيم أسرته، ووقتها كان أقرانه من الضفة الغربية، يتجمعون في داخل المدارس المخصصة لتقديم مبحث اللغة الغربية وهو المادة الثانية في امتحانات الثانوية العامة، بعد أن حرمت الحرب للمرة الثانية على التوالي طلبة غزة من التقدم للامتحانات.

طوابير الطعام بدلا من مقاعد الامتحان

بعد دقائق انتظار أمام هذا الطابور تخللها مشاحنات بين السكان، حيث يخشى الجميع نفاد الكمية قبل إتمام مهمتهم، ففي هذا الوقت تقلص انتاج محطات التحلية، بسبب منع سلطات الاحتلال إدخال الوقود إلى غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، تمكن مهند من انجاز مهمته، وهناك تحدثت “القدس العربي” مع هذا الشاب على زاوية أحد شوارع مخيم النصيرات وسط القطاع، وسألته عن شعوره بعد ضياع حلم الثانوية العامة، فقال مهند بعد أن أخرج من صدره تنهيدة “هذه السنة الثانية التي أحرم منها من الامتحانات”.

وكان هذا الشاب قد انتقل لمرحلة الثانوية العامة قبل شهر واحد من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في أكتوبر 2023، وحتى ذلك اليوم كان مهند يتوجه برفقة أصدقائه إلى المدرسة الثانوية في المخيم صباحا، وفي المساء كان يحرص على حضور دروس تقوية أخرى، للاستفادة أكثر في فهم الدروس العلمية في الرياضيات والفيزياء، ويقول “كنت من المتفوقين وكنت آمل دراسة الطب”، ويضيف “الآن بعد حرماني وزملائي من الامتحانات لفترتين متتاليتين الحلم تلاشى، وبات همي مساعدة الأسرة”، ويوضح أنه اضطر سابقا إلى إتلاف كشاكيل وكتب تمكن من نقلها إلى مسكنه الجديد، بعد اضطراره لحرقها في موقد النار، لتجهيز طعاما للأسرة، بسبب نفاد غاز الطهي.

المدارس مراكز إيواء

وحولت الأسر النازحة الغرف الصفية في المدارس إلى مكان للإقامة الطويلة، فقد أزيحت مقاعد الدراسة جانبا، أو استخدم بعضها كأثاث للنازحين، أو وقود لنار الطهي، وبدلا منها وضعت مراتب النوم وبعض المستلزمات الأساسية، فيما وضعت الأسر النازحة بعض الأقمشة والأغطية على نوافذ التهوية، أقامتها داخل الغرف الصفية، المطلة على ممرات يسلكها النازحون على مدار اليوم، وتقول سالي إحدى طالبات الثانوية التي نزحت لأحد المدارس لـ”القدس العربي”: “كانت علاقتي بالمدرسة تستمر لساعات قليلة أتلقى فيها الدروس، والآن حياتي كلها في المدرسة، أنام وأصحو وأجهز الطعام”، وتضيف “الأمر مزعج ومتعت جدا، لكن لا سبيل آخر”، وقد عبرت هذه الفتاة عن الألم الشديد الذي شعرت به حين أدركت أن حلم الثانوية العامة، والانتقال للمرحلة الجامعية قد تبخر، وقالت هذه الطالبة بحسرة “الحرب حطمت أحلامنا”.

حولت الأسر النازحة الغرف الصفية في المدارس إلى مكان للإقامة الطويلة، فقد أزيحت مقاعد الدراسة جانبا، أو استخدم بعضها كأثاث للنازحين، أو وقود لنار الطهي

وقصة مهند وسالي هي قصة آلاف الطلبة في غزة، بعد أن تضاعفت أعدادهم على مدار عامين دراسيين، وفي العام القادم، ستتضاعف مرة أخرى أعداد هؤلاء الطلبة، بوصول طلبة جدد لمستوى الثانوية العامة، وهم من الطلبة الذين كانوا في بداية الحرب مسجلين في الصف الأول الثانوي.

مشاكل مستقبلية

ويقول إبراهيم غنيم، ويعمل مدرسا في إحدى المدارس الثانوية، إن انتظام الدراسة في غزة، سيخلق مشكلة كبيرة خاصة في المرحلة الثانوية، فأعداد الطلبة لن تكون متناسبة مع عدد الفصول والطاقم التدريسي الذي كان متوفرا قبل الحرب، ففي الوقت الذي تضاعفت فيه أعداد الطلبة ثلاث مرات، تراجع عدد الطاقم التدريسي، بعد ارتقاء عدد منهم ضحايا في الحرب، فيما تقلص عدد الفصول الدراسية، مع تدمير إسرائيل المتعمد عشرات المدارس، ويقول هذا المدرس مستشعرا خطر التعليم في المرحلة القادمة “حتى لو أنجزت المهمة بالطرق الإلكترونية أو البدائية بوضع الطلبة في الخيام، ستكون هناك مشكلة أخرى، فما تبقى من جامعات غزة، لا يستطيع التعامل مع هذا العدد الكبير من الطلبة دفعة واحدة”.

وتؤكد وزارة التربية والتعليم أن نحو 80% من المؤسسات التعليمية دمرها الاحتلال خلال الحرب، ومنها من دمر خلال إيوائه للنازحين، حيث طال التدمير 352 مدرسة حكومية بشكل بليغ، بينها 111 مدرسة جرى تدميرها بشكل كامل، إضافة إلى تعرض 20 مؤسسة تعليم عالٍ لأضرار بالغة، حيث تم تدمر 60 مبنى تابعا للجامعات بشكل كامل، وبسبب العدوان هناك 788 ألف طالب في القطاع ما زالوا محرومين من الالتحاق بمدارسهم وجامعاتهم، من بينهم الآلاف من طلبة الثانوية العامة، فيما أسفر العدوان عن استشهاد أكثر من 16 ألف طالب، وإصابة أكثر من 26 ألفا آخرين، فيما ارتقى 914 معلمًا وإداريًا وأصيب 4.363 بجروح منذ بدء الحرب.

ومن خلال مقابلات عدة مع طلبة الثانوية العامة وعائلاتهم، اتضح أن الطلبة الذين حرموا من الامتحانات العام الماضي، كانوا في بداية العام الدراسي الحالي، وخلال فترة التهدئة التي امتدت لـ 42 يوما، أحرص على تلقي الدروس ومراجعة المنهاج، على أمل استمرار الهدوء والتقدم للامتحانات، فيما تلاشت أحلام الجميع مع أول غارة إسرائيلية على غزة بعد استئناف العدوان من جديد يوم 18 مارس الماضي.

أحلام ممنوعة

الطالبة سارة قنن من مدينة خان يونس جنوبي القطاع، واحدة من طالبات الثانوية المحرومات من تحقيق أحلامهن، فرغم حرصها على نقل كتبها ودفاتر الدراسة إلى خيمة النزوح في مسكن العائلة غرب المدينة، بعد تدمير منزلها في اجتياح الجيش الإسرائيلي العام الماضي للمدينة، وحرصها كذلك على متابعة الدروس إلكترونيا رغم المشقة، حيث لا يتوفر الاتصال بالإنترنت بشكل متواصل، إلا أنه أصابها ما أصاب باقي أقرانها، بخيبة أمل كبيرة، لعدم تمكنها من تقديم الامتحانات، وتؤكد أنها لم تترك دراستها في أحلك ظروف الحرب، وأنه في كل يوم كان يمر ويقترب من موعد الامتحانات، كان الأمل يحذوها بحل قريب للأزمة، يمكن طلبة غزة من التقدم للامتحانات، وأن شغفها للدراسة جعل الأمر يستمر حتى اليوم المخصص لبدء الامتحانات، وتقول “مفروض أكون أقدم امتحانات الثانوية مثل باقي الطلبة في الضفة والعالم، لكن في غزة بسبب الحرب لا في تعليم ولا مدارس ولا جامعات”.

وقد خصصت أسرة هذه الفتاة مكانا لها في خيمة النزوح، تضع فيه كتبها، وتستخدمه لمراجعة الدروس، وتكمل سارة “فترة النزوح حافظت على الدراسة بشتى الطرق، على أمل التقدم للامتحانات والنجاح بتفوق، لكن للأسف اليوم الحلم تلاشى”، لكن هذه الطالبة المتفوقة تقول إنها ستكمل مسيرة تعليمها حتى لو زادت الأمور قساوة.