المسار : في ظلّ حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزة، تواصل سلطات الاحتلال سياسة التعتيم الإعلامي عبر منع دخول الصحافيين الأجانب إلى القطاع. وفي المقابل، تلجأ إلى أدوات دعائية تقوم على استقدام وفود صحافية أجنبية في رحلات مدفوعة، بهدف التأثير في الرأي العام الخارجي وترويج روايتها، متجاهلة جرائم القتل الجماعي والتجويع والتهجير القسري.
ووقّعت 27 دولة على بيانٍ مشترك يطالب إسرائيل بإنهاء الحظر المفروض على دخول الصحافة الأجنبية إلى قطاع غزة بعد أكثر من 22 شهراً على بداية حرب الإبادة، وبضمان حماية الصحافيين الفلسطينيين داخل القطاع المحاصر. وصدر البيان عن التحالف من أجل حرية الإعلام، وهو مجموعة دولية للدفاع عن حرية الصحافة، ومن أبرز الدول التي وقعت عليه: بريطانيا وألمانيا وأستراليا وأوكرانيا. وجاء في نص البيان الخميس: “في ضوء الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة، نحن، الأعضاء الموقعين في التحالف من أجل حرية الإعلام، نحث إسرائيل على السماح الفوري للإعلام الأجنبي المستقل بالدخول، وتوفير الحماية للصحافيين العاملين في غزة”. ونبّه إلى أن “الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام يلعبون دوراً أساسياً في تسليط الضوء على الواقع المدمر للحرب”، متابعاً: “الوصول إلى مناطق النزاع أمر حيوي للقيام بهذا الدور بفعالية. نحن نعارض جميع المحاولات لتقييد حرية الصحافة ومنع دخول الصحافيين في أثناء النزاعات”. وأضاف: “الاستهداف المتعمد للصحافيين أمر غير مقبول. القانون الإنساني الدولي يوفر الحماية للصحافيين المدنيين في أثناء النزاعات المسلحة”، مطالباً بفتح “تحقيق في جميع الهجمات ضد العاملين في وسائل الإعلام ومحاسبة المسؤولين عنها وفقاً للقانونين، المحلي والدولي”.
وبحسب لجنة حماية الصحافيين، قتلت إسرائيل منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ما لا يقلّ عن 192 صحافياً وعاملاً في الإعلام في غزة والضفة الغربية ولبنان، كما تحقّق في 130 حالة أخرى. فيما تفيد أرقام مكتب الإعلام الحكومي في غزة بأن عدد الشهداء الصحافيين في القطاع وحده وصل إلى 239.
وجاء البيان بعد سلسلة من البيانات والنداءات التي أطلقتها أخيراً مؤسسات إعلامية وصحافيون حول الأوضاع المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون، ومن بينهم الصحافيون في قطاع غزة، جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل. وفي يوليو/ تموز الماضي، عبّرت مجموعة من أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم عن “قلقها الشديد” على أطقمها الصحافية في غزة، مؤكدةً أنّ العاملين فيها “صاروا غير قادرين بشكل متزايد على إطعام أنفسهم وعائلاتهم”، وسط انتشار المجاعة.
وفي هذا السياق، أعلنت الأمم المتحدة المجاعة في غزة رسمياً الجمعة، في أوّل إعلان من هذا النوع في الشرق الأوسط، بعدما حذّر خبراؤها في تقرير من أنّ 500 ألف شخص باتوا في وضع “كارثي”، محمّلين إسرائيل مسؤولية عرقلة إدخال المساعدات.
الهند: جولة منظمة ومسار منحاز
نظّمت وزارة الخارجية الإسرائيلية في أوائل أغسطس/آب الحالي رحلة لوفد من الصحافة الهندية انعكست لاحقاً في تغطية إيجابية لصالح الدعاية الإسرائيلية. اعترفت بعض وسائل الإعلام، مثل “ذا إنديان إكسبرس” و”ريبابلك تي في”، بأن صحافييها زاروا إسرائيل بدعوة من السفارة الإسرائيلية في نيودلهي، فيما تجاهلت مؤسسات أخرى إبلاغ جمهورها بهذه الحقيقة. وانتشرت على الإنترنت صور للصحافيين الهنود وهم يقفون إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. قاد الوفد المتحدث الإسرائيلي في الهند غاي نير، وضمّ أديتيا راج كول (TV9)، وزكا جاكوب (سي أن أن نيوز 18)، وفيشنو سوم (NDTV)، وأبيشيك كابور (ريبابليك تي في)، وسيدهانت سيبال (WION)، وماناش براتيم (PTI)، وشوبهاجيت روي (إنديان إكسبرس). ووفقاً لكابور، امتدت الجولة بين 3 و7 أغسطس، وشملت زيارات لـ”ساحة الرهائن” في تل أبيب، ومستوطنات هاجمتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، وموقع مهرجان نوفا الموسيقي، والقدس، ومقرّ وزارة الخارجية، وفريق الإعلام والاتصال الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي، وشبكة البث آي 24 المعروفة بدعمها لنتنياهو. كذلك اختتمت بجلسات إحاطة حول الوضع الأمني في لبنان وسورية، وزيارة مدينة حيفا.
عقب الرحلة، أظهرت التغطيات الإعلامية الهندية انحيازاً واضحاً إلى الرواية الإسرائيلية. رصد موقع نيوز لوندري مقابلات أجراها الوفد مع مَن شهدوا عملية “طوفان الأقصى”، ورئيس قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ورئيس قسم الدبلوماسية في منتدى الرهائن، ومتحدث سابق باسم الجيش. كذلك خصّص المذيع فيشنو سوم عبر قناة NDTV فقرة مدتها 25 دقيقة للرهائن الإسرائيليين مقابل خمس دقائق فقط عن مأساة غزة. الاستثناء الوحيد كان تعليقاً لزكا جاكوب على منصة إكس، قال فيه: “على الجانب الآخر من الجدار البني الرمادي تقع غزة. يُمكن القول إنها أسوأ مكان على وجه الأرض حالياً. موت ودمار لا يُحصى. لا يُسمح لنا بالدخول والتغطية. لكن نأمل أن تنتهي هذه الحرب عاجلاً غير آجل”. غير أنّ مثل هذا التعليق ظلّ نادراً وسط سيلٍ من التغطيات المنحازة.
جنوب أفريقيا: رحلات مدفوعة واحتجاجات مضادة
لم تقتصر هذه السياسة على الهند، بل حاولت إسرائيل أيضاً اختراق الدعم الشعبي والسياسي الواسع الذي تحظى به فلسطين في جنوب أفريقيا، البلد الذي يقود الدعوى ضدها أمام محكمة الجنايات الدولية. وكشفت أبحاث أجراها ناشطون في المجتمع المدني عن أن ثلاث صحف جنوب أفريقية، هي “صنداي تايمز”، و”ذا سيتيزن”، و”بيزنيوز”، أخفت تمويل اللوبي الإسرائيلي، ممثلاً في مجلس النواب اليهودي في جنوب أفريقيا، لرحلة صحافييها إلى إسرائيل. عدم الإفصاح هذا اعتُبر خرقاً لميثاق أخلاقيات وسلوك مجلس الصحافة لوسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية في البلاد.
ونشرت شركة أرينا هولدينغز في النسخة المطبوعة من “صنداي تايمز” في 20 إبريل/نيسان 2025، مقالاً عنوانه “وجهان لمأساة”، حاول المساواة بين إسرائيل والفلسطينيين في المعاناة، فيما نشرت “ذا سيتيزن” مقالاً بعنوان “إسرائيل تنفي الهمس في أذن ترامب بشأن فرض عقوبات على جنوب أفريقيا”، كتبه صحافيها بعد زيارته لإسرائيل. وبحسب الناشط الإعلامي المقيم في جوهانسبرغ حسن لورغات، ردّت الصحيفتان على شكواه مبرّرتين الزيارة بأنها لا تمثل خرقاً خطيراً للميثاق، قبل أن تعتذرا لاحقاً عن عدم الإفصاح بشأن تمويل الرحلة، بالمخالفة للقانون الذي يوجب على المنشورات توضيح أي مساهمة خارجية في تكلفة جمع الأخبار.
على الضفة الأخرى، أبدى عشرات الصحافيين الجنوب أفريقيين تضامناً واسعاً مع زملائهم في غزة. إذ شاركوا في مسيرة احتجاجية في مدينة كيب تاون ضد جرائم قتل الإعلاميين الفلسطينيين، نظمتها في 10 أغسطس منظمة “صحافيون ضد الفصل العنصري”، عقب اغتيال إسرائيل ستة صحافيين، بينهم المراسل الفلسطيني أنس الشريف. ونقل موقع IOL عن المتحدثة باسم المنظمة، ديشني سوبراماني، قولها إن “وسائل الإعلام الغربية كررت الأكاذيب الإسرائيلية من دون تدقيق، وأسكتت أصوات الفلسطينيين، ما سمح باستمرار هذه الإبادة الجماعية”. وأضافت أن “وسائل إعلام عدة ساهمت في حملة التضليل التي تشنها إسرائيل والولايات المتحدة ضد فلسطين، مخالفةً المبادئ الصحافية الأساسية”. كذلك أدانت سوبراماني المؤسسات الإعلامية المحلية التي قبلت المشاركة في الرحلات الدعائية برعاية إسرائيل، معتبرة ذلك “أبعد ما يكون عن أخلاقيات الصحافة، ومخزياً في بلدٍ لعب فيه الإعلام دوراً محورياً في تفكيك نظام الفصل العنصري”.
الهاسبارا
مع هيمنة صور الأطفال المجوعين في غزة على عناوين المؤسسات الإعلامية العالمية، لجأت إسرائيل إلى وسائل بديلة لمحاولة قلب السردية الإنسانية. إذ سمحت لمجموعة محدودة من الإعلاميين الإسرائيليين، وكاتب محلي، ومؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى جانب مراسل “إيه بي سي” الأسترالية، بالدخول إلى قطاع غزة ضمن “رحلة مرافقة” عسكرية نادرة هذا الشهر. ظهرت على الإنترنت سلسلة منشورات مصوّرة من داخل غزة – المغلقة أمام الصحافيين الدوليين منذ نحو عامين – تُظهر مخازن مليئة بالغذاء والمساعدات “بانتظار التوزيع”. وقدّم أصحاب هذه المنشورات رسالة متطابقة: الدفاع عن إسرائيل، واتهام الأمم المتحدة، وإلقاء اللوم عليها في “فبركة أزمة الجوع”. من بين هؤلاء المؤثرين الشابة بيلامي بيلوتشي التي نشرت صورة لها بزيّ عسكري وخوذة تحت عبارة “من غزة حيث أنا”، وعلّقت: “رأيتُ ذلك بعينيّ… في غزة!”، مؤكدة أن الأمم المتحدة هي المسؤولة عن إيصال الغذاء لكنها “لا تقوم بواجبها”.
تُعرف هذه الممارسات باسم “هاسبارا”، أي الدعاية الموجّهة لتبرير السياسات الرسمية أمام الخارج. ومع أنّ جذور المصطلح تعود إلى عقود، أصبحت أدواته اليوم أكثر تنوعاً: من الرحلات المنظمة لصحافيين من دول الجنوب، إلى جولات مؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي داخل غزة نفسها. الشهر الماضي، كشفت صحيفة هآرتس عن تمويل وزارة الخارجية الإسرائيلية لجولة 16 مؤثراً أميركياً، بهدف دفعهم إلى إنتاج محتوى يتماشى مع خطاب الحكومة.