المسار : تتسارع خطوات تهويد محيط المسجد الأقصى وما تحته في القدس المحتلة عبر أعمال حفريات لا تتوقف من قبل الاحتلال الإسرائيلي، والتي برز منها أخيراً مشروع نفق سري يمتد من ساحة البراق غرباً مروراً بساحة باب المغاربة، وصولاً إلى باب الخليل شمال غرب جدار المسجد. وقد بدأت الحفريات منذ نحو تسعة أشهر، وتُنفذ في ظل إجراءات أمنية مشددة تمنع المقدسيين من معرفة التفاصيل الدقيقة حول ما يجري تحتهم.
ويخترق النفق، الذي يبلغ طوله نحو 550 متراً، مناطق أثرية إسلامية وكنعانية ورومانية، ويُهدد بتدمير معالم تاريخية لا يمكن تعويضها. كما يُمهّد الطريق لإقامة “متاحف توراتية” تهدف إلى تغيير الرواية التاريخية للمدينة وربطها بمخططات تهويدية تستهدف المسجد الأقصى ومحيطه. ويقول عضو رابطة أمناء المسجد الأقصى، فخري أبو دياب، في حديث لـ”العربي الجديد” إنّ تنفيذ المخطط يجري بسرية تامة، ولا يُسمح بالوصول إلى مكان الحفريات إلا لعمّال “سلطة الآثار الإسرائيلية”، الذين يُنقلون إليه في إجراءات أمنية مشددة. كما تُمنع أي محاولة للوصول إلى داخل النفق، ولا يمكن مراقبة ما يجري إلا من نقطة مرتفعة وبصعوبة بالغة، خاصّة أن مدخل النفق محصن بدعامات حديدية وخيام تغطي المكان، ما يحول دون رؤية ما يجري في الداخل.
ويشير أبو دياب إلى أنّ “أعمال الحفر تبدأ في ساعات الفجر باستخدام معدّات ضخمة، وسط أجواء من السرية والتكتم، ويمرّ امتداد النفق من أسفل المنازل والمحال التجارية المقدسية بشكل غير مستقيم، مما يجعله يشكل خطراً مباشراً على أساسات الجهة الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى المبارك، فيما لم تصدر سلطات الاحتلال للآن أي إعلان رسمي بشأن هذه الحفريات، في محاولة لتفادي ردود الفعل”. وقال أبو دياب إنه حاول الوصول إلى مدخل النفق، لكن تم منعه من قبل الشرطة الإسرائيلية، التي أوقفته وصوّرت هويته، في مشهد يعكس حجم الحراسة المشددة المفروضة على الموقع.
ويخترق النفق منطقة غنية بالآثار الكنعانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، ويتقاطع مع الطريق الروماني القديم المعروف بـ”طريق الكاردو”، الذي كان يبدأ من باب العامود ويصل إلى باب النبي داوود في الشمال الغربي للمسجد قاسماً البلدة القديمة إلى قسمين: غربي يضم كنيسة القيامة، وشرقي يضم طريق الآلام عند باب الأسباط. هذه المنطقة وفق معايير منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم “يونسكو” يُمنع العبث بها، خاصة أن فوقها ممتلكات فلسطينية قائمة حتى اليوم.
وتعززت خطورة المشروع عقب صدور قرار في 16 يوليو/ تموز الماضي، عن وزير شؤون القدس والتراث الإسرائيلي مائير بوروش قبل ساعات من استقالته، واستهدف القرار نحو عشرين عقاراً تاريخياً وأثرياً يسكنها مقدسيون في منطقتي باب السلسلة وباب المغاربة، ما يعني أن القرار جاء جزءاً من خطة لتسهيل المصادرة ومنع السكان من الاعتراض على أعمال الحفر، رغم أن المنطقة تضم معالم دينية وتاريخية تعود للعهد المملوكي، منها مساجد ومدارس ومكتب الهيئة الإسلامية العليا.
وما يثير القلق بشكل خاص هو أن النفق مصمم ليسمح بمرور مركبات المستوطنين والمعدّات الثقيلة مباشرة إلى أسفل المسجد الأقصى، وهو أمر لم يكن ممكناً سابقاً بسبب ضيق أزقة البلدة القديمة، لذا سيؤدي استكمال هذا المشروع إلى تدمير آثار تاريخية لا يمكن تعويضها، كما يختلف النفق الجديد عن الأنفاق السابقة التي تم الكشف عنها، إذ يبدأ من داخل البلدة القديمة وينتهي خارجها عند ساحة منطقة باب الخليل المعروفة إسرائيلياً بساحة “ماميلا”، ما يمنح الاحتلال القدرة على إدخال مركبات كبيرة للنفق، وفق أبو دياب.
ويوضح أبو دياب أنّ الحفريات تقع على بعد أقل من خمسين متراً من طرق أثرية قديمة مدفونة تحت الأرض، وتقترب من المسجد العمري في حارة الشرف، الذي يبعد نحو مئة متر فقط عن الحفريات، وذلك يعني أن الحفريات تهدد بتدمير آثار إسلامية ودينية تم ترميمها سابقاً في الموقع، كما يمهد طريق النفق لإقامة ما يُعرف بـ”المتاحف التوراتية المفتوحة”. ويشير أبو دياب إلى أنها تهدف إلى تغيير الرواية التاريخية وإقناع الزوار بأن المنطقة يهودية منذ آلاف السنين، في خطوة تمهيدية لربطها بفكرة بناء “الهيكل” المزعوم بدلًا من المسجد الأقصى.
أما التأثير المباشر على المسجد، فيوضح أبو دياب أنه يبرز في قدرة الاحتلال على إدخال المعدات الثقيلة إلى أسفله، إلى جانب التأثير على وعي الزوار الأجانب والمستوطنين الذين يتم إيهامهم بأنهم يعيشون تجربة “الحضارة اليهودية” قبل ثلاثة آلاف عام، من خلال برامج إرشاد سياحية وجمعيات يهودية منظمة. ويشير أبو دياب إلى أن القضية وصلت إلى دائرة الأوقاف الإسلامية التي بدأت متابعة الملف عبر لجان فنية متخصصة، كما تم إبلاغ السفارة التركية وجهات أخرى لمتابعة الأمر عبر القنوات الرسمية. وبلغ عدد الحفريات والأنفاق التي تنفذ في محيط وأسفل المسجد الأقصى نحو 64 حفرية ونفقاً حتى عام 2025، وفق ما أوضحته مؤسسة القدس الدولية، التي حذرت من “انعكاساتها الخطيرة على استقرار أساسات الحرم القدسي الشريف”.
وفي السياق ذاته، يوضح أبو دياب أن الاحتلال شرع منذ بداية العام الماضي، في تنفيذ أكثر من 20 حفرية جديدة، بينها ما لا يقل عن 4 أنفاق قيد الحفر تمتد من منطقة حائط البراق وحارة الشرف باتجاه المسجد الأقصى، في وقت يصعب فيه حصر العدد الحقيقي للأنفاق.
بدوره، يقول رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، عكرمة صبري، في حديث لـ”العربي الجديد” إنّ سلطات الاحتلال نفّذت خلال السنوات الماضية سلسلة من الحفريات في محيط المسجد الأقصى، مشيراً إلى أنّ ما يُروج لها على أنها “أنفاق” ليست سوى قنوات مياه قديمة كانت تُستخدم لتجميع المياه في آبار المسجد أو في المنازل المجاورة. ويوضح صبري أن الاحتلال عمد إلى تتبّع هذه القنوات وتجفيفها، ثم توسيعها واتباع مساراتها، لتبدو وكأنها شبكة أنفاق مترابطة تحت الأرض. ولاحقًا، تعمل سلطات الاحتلال على توسعة هذه الآبار وربط بعضها ببعض، في محاولة لإظهارها كشبكة واسعة تدعم مزاعم وجود “مناطق يهودية” تحت المسجد الأقصى.
ويؤكد رئيس الهيئة أنّ هذه الإجراءات تأتي ضمن خطوات تمهيدية لفكرة ما يسمّى “الهيكل المزعوم”، موضحاً بالقول: “هم يزعمون وجود آثار يهودية، لكنهم لم يعثروا على شيء، ولو وجدوا لعرضوه، ولن يجدوا أصلًا”. ويوضح صبري أن التحكّم في باطن الأرض ومنابع المياه في القدس يُعدّ من أبرز أهداف الاحتلال، ويعتبر أنّ هذه الأنشطة تندرج ضمن مخطط شامل للسيطرة على المسجد الأقصى، وربطه بخرافة “الهيكل المزعوم”، في إطار سعي متواصل لفرض رواية تاريخية مزيفة.
ويلفت صبري إلى أن الأنفاق والحفريات الإسرائيلية تُحدث أضراراً مباشرة في المباني التاريخية المحيطة بالمسجد الأقصى، ولا سيما في مناطق باب السلسلة وباب المغاربة، وقد شهدت بعض هذه المباني تشققات وانهيارات جزئية في فترات سابقة، كما حدث في منطقة باب القطانين. ويمرّ النفق الجديد من المنطقة التي يقع فيها مكتب الهيئة الإسلامية العليا، وهو ما دفع رئيسها إلى تأكيد التمسّك بالمكان، قائلًا: “لن نترك المبنى، لأنّ هذا القرار أشبه بدعاية تهدف من ورائها الجماعات الصهيونية إلى تحقيق مكاسب على حساب الوجود المقدسي”.