المسار : على الرغم من الاستعدادات المكثفة لاحتلال القطاع، لا يزال غير واضح حجم المسؤولية المدنية التي سيتحملها الجيش الإسرائيلي. فمع غياب البنى التحتية والسلطة المحلية، قد يتحول احتلال غزة إلى مستنقع دامٍ ومؤلم أكثر بكثير من الضفة الغربية.
الخلاف الحاد بين رئيس الأركان ورئيس الحكومة حول احتلال مدينة غزة ثم احتلال القطاع بأكمله، يتمحور حول مسألة الكلفة والفائدة: هل الاحتلال الكامل سيؤدي إلى تحرير الأسرى؟ هل سيقوض حكم حماس بالكامل؟ وكم من أرواح الجنود سيدفع ثمنًا لذلك؟ لكن أمام الاستعدادات الواسعة، وحشد قوات الاحتياط، والتأهيل والتحركات الميدانية، يفقد الخلاف أهميته، لأنه حُسم عمليًا، وبات من الممكن القول إن فرض إدارة عسكرية على غزة في طريقه إلى التنفيذ.
ما لم يحدث تغيير في اللحظة الأخيرة – مثل تراجع مفاجئ من الإدارة الأميركية – سيبدأ الجيش الإسرائيلي خلال أسابيع بالعمل في القطاع كقوة حاكمة مدنية، بما يعنيه ذلك من أبعاد اقتصادية، عسكرية، سياسية وقانونية.
الكلفة الاقتصادية
تطرق لهذا الجانب محافظان سابقان لبنك إسرائيل، البروفيسور كَرنيت فلوج ويعقوب فرنكل، في مقال نشراه على موقع “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”. قدّرا التكاليف المباشرة والجارية بنحو 30 مليار شيكل سنويًا، منها نحو 10 مليارات لتغطية الخدمات الأساسية مثل الصحة، المياه، الكهرباء، جمع النفايات وتوفير الغذاء والوقود، ونحو 20 مليارًا لتمويل صيانة الجيش ونشاطه.
هذه الأرقام لا تشمل المصاريف الطارئة، ولا الأضرار الاقتصادية الناتجة عن استدعاء عشرات آلاف جنود الاحتياط لفترات طويلة، أو العقوبات الاقتصادية التي ستُفرض على إسرائيل وتؤثر على حجم تجارتها مع دول العالم.
هناك تقديرات أخرى تتحدث عن تكاليف “أقل بكثير”، كما أشار البروفيسور كوبي ميخائيل ويوسي كوبرفاسر في مقال نشر مطلع أغسطس على موقع “معهد دراسات الأمن القومي”، لكن كل هذه التقديرات – المرتفعة والمنخفضة – تفتقر إلى عنصر مركزي: لا أحد يعرف حجم المسؤولية المدنية التي ستتحملها إسرائيل والجيش لإدارة الاحتلال.
الأسئلة الميدانية
هل ستعيد إسرائيل تأهيل شبكة المياه ومحطات الضخ وأنابيب التوزيع للمنازل – أم ستكتفي بصهاريج مياه؟ كيف سيتم توفير الوقود؟ من سيعيد بناء شبكة الكهرباء المحلية، وفي أي مناطق؟ وهل ستصل هذه الشبكة لكل التجمعات السكانية أم ستقتصر البداية على المولدات؟ حتى توزيع الغذاء لا توجد له خطة عمل واضحة، بحسب ضباط كبار في الجيش تحدثوا مع صحيفة “هآرتس”، الذين حذروا من أن “الفشل الدموي الذي يستمر في مراكز توزيع المساعدات الإنسانية في غزة يفرض إعادة التفكير ووضع خطة عملية لم تُصغ بعد”.
أحد المصادر أوضح أن صعوبة وضع خطة عمل تنبع جزئيًا من عدم معرفة عدد السكان الذين سيغادرون شمال القطاع، وما السياسة تجاه مئات الآلاف الذين سيبقون في منازلهم ويرفضون النزوح. التقدير الحالي أن نصف السكان – أي نحو نصف مليون – سيبقون في مناطق يفترض أن يطهرها الجيش من عناصر حماس، أي في منطقة قتال نشطة قد يسقط فيها عدد من الضحايا المدنيين أكبر بكثير من المتوسط الحالي، البالغ نحو 80 قتيلًا يوميًا.
التبعات الإنسانية والقانونية
حتى لو تملص الجيش من مسؤوليته تجاه من يقررون البقاء في بيوتهم شمال القطاع، سيظل ملزمًا بالتعامل مع أكثر من مليون ونصف إنسان، وبموجب القانون الدولي يجب أن يضمن لهم حياة لائقة لا تقل عما كان قائمًا قبل الاحتلال. لكن الشك كبير في أن تلتزم إسرائيل حرفيًا بالاتفاقيات الدولية؛ فـ58 عامًا من الاحتلال في الضفة الغربية تشهد على الهوة بين النصوص والتطبيق، وتكشف تقارب سلوك إسرائيل مع تعريفها كدولة ترتكب جرائم حرب.
ومع ذلك، حتى المقارنة مع الضفة غير قائمة. ففي الضفة، منذ 1967، كان هناك مجالس محلية، بلديات، مختارون، مستشفيات ووزارات ساعدت في إدارة شؤون الحياة اليومية بالتعاون مع الإدارة العسكرية. أما في غزة، فلم يعد شيء من هذا موجودًا.
المخاطر الأمنية والسياسية
الجيش سيتعين عليه العمل داخل مراكز سكانية تضم مقاتلي حماس أو مجموعات مسلحة جديدة لن تحتاج إلى صواريخ أو قذائف حين يكون “العدو” في قلبها. غزة ستشبه بالونًا؛ الضغط على مركزه ينفخ أطرافه، ونقل مئات آلاف السكان من منطقة إلى أخرى سينقل معهم المسلحين أيضًا.
الاحتلال لن يحدث في مختبر معزول تتحكم فيه إسرائيل وحدها. على عكس الضفة التي استمر احتلالها لعقود وسط لا مبالاة دولية نسبية، فإن انتهاك القانون الدولي هذه المرة قد تكون له عواقب عملية – خصوصًا إذا أُضيف إليه قرار بضم أجزاء من الضفة. عقوبات رسمية و”رمادية” فُرضت بالفعل على إسرائيل: وقف استثمارات، مقاطعة أكاديمية، وحظر أسلحة جزئي مثل القرار التاريخي للحكومة الألمانية الذي يؤثر على القدرات العملياتية للجيش.
إلى جانب ذلك، برزت تحذيرات من دول عربية وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل – بينها الإمارات، مصر والأردن. أبوظبي، التي وقعت على “اتفاقيات أبراهام”، كانت الدولة العربية الوحيدة التي أبدت استعدادًا للمشاركة في قوة متعددة الجنسيات لإدارة غزة، شرط أن تكون تحت رعاية سلطة فلسطينية “موثوقة تجري إصلاحات عميقة”.
الخلاصة
في حسابات الحكومة الإسرائيلية، الهدف المعلن “إسقاط حماس” يتفوق على كل اعتبار اقتصادي أو سياسي، لكنه يظل موضع شك من حيث إمكانية تحقيقه. التاريخ الإسرائيلي والعالمي يثبت أن الاحتلال المباشر لم يكن ضمانة لإنهاء المقاومة المسلحة أو القضاء على التنظيمات. الانتفاضتان في ظل الاحتلال الإسرائيلي، صعود حزب الله خلال حرب لبنان الأولى، والاحتلالان الأميركيان في العراق وأفغانستان، كلها أمثلة صارخة.
السؤال الحاسم: كم من السنوات ستستطيع إسرائيل أن تتحمل إدارة غزة – قبل أن تدرك أن غزة هي التي ضمّت إسرائيل إليها؟
المصدر: صحيفة “هآرتس”