المسار : لم يكن أحد ليتخيّل أن المشروع الصهيوني، الذي قُدِّم طيلة عقود باعتباره “المعجزة التاريخية” و”الدولة التي لا تُقهر”، سيصل إلى لحظة تبدو فيها علامات الانهيار واضحة بهذا الشكل الفج، ما يجري في إسرائيل اليوم لا يمكن اختزاله في أزمة أمنية عابرة أو اضطراب سياسي داخلي، بل هو زلزال وجودي يضرب الأساسات التي قام عليها الكيان منذ عام 1948.
الأصوات القادمة من الداخل العبري باتت تُعبّر عن حالة فقدان ثقة غير مسبوقة، محللون في الصحف العبرية يتحدثون علناً عن هجرة صامتة، وعن عائلات تبيع ممتلكاتها وتبحث عن مستقبل في كندا وأوروبا والولايات المتحدة، وعن جيل جديد يدرس في الخارج بلا نية للعودة، هذه ليست هجرة طبيعية كما عرفتها إسرائيل في أزمات سابقة، بل هي أشبه بفرار جماعي، أشبه بسفينة تغرق وركابها يتدافعون للهرب.
الصور القادمة من الميدان تزيد الصورة قتامة: جنود يبكون أمام الكاميرات، مستوطنون يفرّون من الشمال والجنوب، وزراء يصرخون بلا أثر، وشعب بأكمله يعيش على المهدئات، كيف يمكن لدولة تصف نفسها بالقوة الإقليمية العظمى أن تعجز عن حماية عاصمتها من الصواريخ، وأن تفشل في “تركيع غزة” رغم آلاف الغارات، وأن تكتفي بخطاب انتصارات وهمية بينما الواقع ينطق بالهزيمة؟
المقاومة الفلسطينية لم تكتف بمواجهة إسرائيل عسكرياً، بل فجّرت الأسطورة التي قامت عليها: أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، أما في الضفة، فإن انتفاضة جديدة تلوح في الأفق، وفي الداخل الفلسطيني تعود الثقة للنفس، فيما ينكشف المجتمع الإسرائيلي على واقعه: مجتمع متآكل، منقسم، فاقد للبوصلة، الانقسامات بين اليمين واليسار، بين العلمانيين والمتدينين، بين الأشكناز والمزراحيم، صارت أكثر عمقاً من أي وقت مضى، حتى أن الحديث عن حرب أهلية لم يعد ترفاً فكرياً بل احتمالاً مطروحاً في النقاش العام.
من الناحية التاريخية، لا يمكن إغفال أن كل مشروع استعماري قام على القتل والظلم انهار في نهاية المطاف، من الجزائر إلى جنوب إفريقيا. إسرائيل ليست استثناء، بل ربما تكون المثال الأوضح لأن مشروعها لم يكتفِ بالاحتلال بل حاول طمس هوية شعب بأكمله، واليوم ومع انكشاف زيف الرواية الصهيونية أمام العالم، باتت إسرائيل تُرى كما هي: دولة تمارس الإبادة، تحتجز الأطفال، وتطلب من العالم أن يصفّق لها.
الأسئلة المطروحة الآن في الداخل الإسرائيلي لم تعد: “كيف ننتصر؟” بل: “هل سنبقى؟” التوقعات التي تتحدث عن انهيار إسرائيل خلال سنوات قليلة لم تعد مجرد “تهويل سياسي”، بل أصبحت جزءاً من النقاش الداخلي العام، بعض التقديرات ترى أنها ستتحول إلى “جيب مسلح محاصر” يعتمد على المساعدات الأميركية، فيما يرى آخرون أن التفتت الداخلي سيؤدي إلى انهيار شامل وفقدان القدرة على البقاء.
التاريخ لا يرحم، حين تنهار إسرائيل – وهي ستنهار – سيكتب المؤرخون أن اللحظة الفاصلة لم تكن هزيمة عسكرية فحسب، بل انهيار أخلاقي كامل لدولة نووية فقدت إنسانيتها فخسرت شرعيتها، أما العرب، فإن لم يستفيقوا الآن إلى حقيقة أن عدوهم يتهاوى، فسيُسجل التاريخ أنهم كانوا أمة غارقة في وهم ضعفها بينما كان خصمها ينهار أمام عيونهم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري