“أيـلـول الأســود”: إســرائـيـل تـســقـط دبـلـومـاســيـاً

 

بقلم: عاموس يادلين وأودي أفينتال

– 37 % من الأميركيين يتعاطفون مع الفلسطينيين مقابل 36% مع إسرائيل

– 50 % من الأميركيين يرون أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة مقابل 35% ينفون ذلك

– 60 % من الأميركيين يعارضون إرسال سلاح إضافي إلى إسرائيل

لم يأتِ «خطاب إسبرطة»، الذي ألقاه رئيس الحكومة بشأن ازدياد العزلة السياسية التي أوقع إسرائيل فيها، والعوائق والقيود المفروضة على استيرادنا قطع السلاح، من فراغ. فالمساس بمكانة إسرائيل ليس محصوراً في أوروبا والصناعات الأمنية فقط، مثلما حاول رئيس الحكومة أن يلمّح، بل يحدث أيضاً في الشرق الأوسط وأميركا، ويشمل مجالات، مثل التجارة العالمية والعلم والتكنولوجيا والأكاديميا والرياضة والثقافة. إن إسرائيل تتحول إلى دولة منبوذة.

يشكل المساس السياسي بمكانة إسرائيل العالمية، وبشكل خاص الدعامة الأميركية العظمى، تهديداً لا يقلّ خطورة عن ذاك الذي يمثله أعداؤنا. فالتركيز على الأعداء مفهوم وواضح، لكن اعتبار الدعم الأميركي أمراً مسلّماً به هو خطأ جسيم.

لقد عمل جيل المؤسسين، بقيادة بن غوريون، على إخراج الشعب اليهودي من العزلة، ومن الغيتو في أوروبا، لكن نتنياهو يعمل على إعادتنا إلى هناك، بوعي، وبعيون مفتوحة.

مؤخراً، وعلى ضفاف البوتوماك، اختبرنا بشكل مباشر التآكل في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، وفي المنطقة. في الأسبوع الماضي، عاد طاقم «Mind israel» من مؤتمر MEAD في واشنطن، الذي يتناول العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

شارك في المؤتمر مسؤولون رسميون كبار، إلى جانب خبراء وإعلاميين من الولايات المتحدة، ومن دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل.

بطبيعة الحال، تحوّل الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق في قطر، الذي وقع في اليوم الأول من المؤتمر، إلى حديث اليوم على حساب مواضيع أُخرى، مثل إيران، التي أزيحت عن جدول الأعمال.

برز قاسم مشترك في المحادثات في المؤتمر مع جهات في الإدارة الأميركية، وفي الكونغرس، ومن دول المنطقة، بما في ذلك أصدقاء بارزون لإسرائيل، تمثّلَ في الرسالة الآتية: «إن إسرائيل فقدت عقلها، واستراتيجيتها غير واضحة، وأنتم تفقدون أصدقاءكم في كل مكان».

ضاعف الهجوم على قطر الرسالة فقط؛ لقد عبّر مسؤولون أميركيون عن إحباطهم ممّا سمّوه «الهجوم على شريكة للولايات المتحدة وخرق سيادتها»، و»زعزعة الاستقرار في الخليج كله»، و»تسريع الانجراف السياسي المناهض لإسرائيل». وبحسب قولهم، قد يشير هذا الحدث إلى منعطف أيضاً في موقف الإدارة في واشنطن إزاء إسرائيل، ويقوّي أصواتاً في محيط الرئيس ترامب تدعو إلى إنهاء الحرب في غزة، حتى لو فُرض ذلك فرضاً، قبل أن تمسّ مصالح أميركية عميقة.

هناك تحذير حاد آخر تلقيناه يتعلق بخطوات الضم. أوضح لنا الجانب الأميركي أن الضم سيشكل ضربة قاتلة للعلاقات مع الديمقراطيين، وحتى في أوساط جزء من الجمهوريين.

وهناك نفور من هذه الخطوة في محيط الرئيس بسبب تداعياتها المحتملة على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

وقال محاورونا من الخليج، بينهم جهات رسمية رفيعة، إنهم لن يقطعوا العلاقات مع إسرائيل في أعقاب الهجوم على قطر، لكنهم حذّروا من أن تنفيذ الضم سيضرّ بـ»اتفاقيات أبراهام» بشكل مؤكد، إلى حد التراجع عنها.

زعزعة مكانتنا في أميركا

إن النقد «بين البوتوماك والخليج الفارسي» يصل، بينما يحدث في الخلفية تآكل متسارع في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة.

لقد عملنا في مجال العلاقات الإسرائيلية – الأميركية عقوداً من الزمن، وقمنا بأدوار متنوعة، ولم نصل قط إلى نقطة حضيض كهذه. والتوجهات؟ لا تبشر بالخير.

بعكس التفاهات التي يطلقها وزراء وأعضاء كنيست منذ الانقلاب الدستوري، وتشير إلى أنه «في إمكاننا أن نتدبر أمرنا من دون أميركا»، فإن الولايات المتحدة هي دعامتنا الاستراتيجية الوحيدة، ولا يوجد أي بديل عنها، حسبما أوضحت الحرب في سبع جبهات.

كما هو معلوم، أرسلت إدارة بايدن إلى المنطقة حاملات طائرات، وهددت إيران و»حزب الله» في حال انضما إلى الحرب (الـ Don’t المشهورة)، وزودت إسرائيل عسكرياً بكميات هائلة من الذخائر، وأسقطت بالفيتو قرارات في مجلس الأمن، واعترضت صواريخ وطائرات مسيّرة من اليمن والعراق وإيران، وحاربت من أجل حرية الملاحة في البحر الأحمر ضد الحوثيين، وواصل الرئيس ترامب الدعم الثابت لإسرائيل، الذي بلغ ذروته بانضمام الولايات المتحدة إلى الحرب مع إيران، في الهجوم، وفي الدفاع.

الاستطلاعات «مُزلزلة»

في الأشهر الأخيرة، نُشرت استطلاعات في الولايات المتحدة، (PEW جامعة كوينيبياك، غالوب) بشأن موقف الرأي العام الأميركي من إسرائيل في سلسلة مواضيع، والمعطيات تعكس نقطة حضيض غير مسبوقة في مكانتنا في أميركا.

في الموضوع الفلسطيني، يتعاطف مع الفلسطينيين 37% من أصحاب حق الاقتراع في الولايات المتحدة، في مقابل 36% مع إسرائيل، وهي النسبة الأعلى للفلسطينيين والأدنى لإسرائيل منذ سنة 2001؛ يعتقد 50 % أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، في مقابل 35% ينفون ذلك، ويعارض 60% إرسال سلاح إضافي لإسرائيل، وفقط 32% يؤيدون ذلك.

يشعر الأميركيون بالقلق في أعقاب حرب الـ12 يوماً ضد إيران في شهر حزيران؛ 50% يعتقدون أن أميركا أقل أماناً بعدها، بينما يظن 42% أنها أكثر أماناً؛ ويخشى 78% من جرّ الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران.

أمّا الدعم لإسرائيل في أوساط الجمهوريين فهو مرتفع نسبياً، لكن تظهر فيه أيضاً تصدعات.

تشير الاستطلاعات إلى ارتفاع في الرأي السلبي تجاه إسرائيل بين الجمهوريين، أو مستقلين يميلون إلى الجمهوريين، من 27% في سنة 2022 إلى 37% هذا العام، فضلاً عن أن 50% من الجمهوريين، تحت سن الخمسين عاماً، لهم رأي سلبي إزاء إسرائيل، في مقابل 48% كان رأيهم إيجابياً.

التآكل في مكانة إسرائيل واضح أيضاً في الكونغرس، حتى أن الرئيس ترامب تطرّق إلى الموضوع، وقال في مقابلة مع «ديلي كولر»: «قبل 15 عاماً، كانت إسرائيل اللوبي الأقوى الذي رأيته في حياتي. كان لها سيطرة كاملة في الكونغرس، اليوم لم تعد كذلك. أنا متفاجئ قليلاً من ذلك؛ ربما تنتصر إسرائيل في الحرب، لكنها لا تنتصر في العلاقات العامة العالمية؛ وهذا يضرّها».

يوضح الاطّلاع على نتائج الاستطلاعات، بحسب العمر، أن وضعنا في المستقبل قد يتفاقم أكثر. فجيل الشباب في الحزب يتحدى الدعم التقليدي لإسرائيل، ويلاحَظ ارتفاع في التوجه السلبي إزاء إسرائيل بين البالغين الأميركيين (من 42% في سنة 2022 إلى 53% اليوم).

على سبيل المثال، في هذه الفترة، قفزت نسبة الشباب الجمهوريين، تحت سن الخمسين عاماً، من ذوي الرأي السلبي إزاء إسرائيل، من 35% إلى 50%، لكن الوضع أخطر لدى الديمقراطيين، إذ قفزت النسبة من 53% إلى 69%.

إسرائيل موضوع خلافي في أميركا

دائماً ما كان هناك مبدأ مقدس في العلاقات الإسرائيلية – الأميركية، وهو «ثنائية الحزبين» (Bipartisanship)، ومعنى المصطلح أنه لكي تضمن إسرائيل الدعم في أميركا، يجب أن تشكل إجماعاً سياسياً عابراً للأحزاب.

منذ سنوات، حطم نتنياهو مكانة إسرائيل هذه عندما تحالف مع الجانب الجمهوري.

تحولت إسرائيل إلى قضية خلاف سياسي بين الديمقراطيين والجمهوريين في أميركا التي تعيش حالة استقطاب أصلاً، مثلما نرى في هذه الأيام.

كانت المرحلة التالية جعل إسرائيل قضية تقسيمية في صفوف الحزب الديمقراطي، إذ إن انتقاد إسرائيل، الذي بدأ في هامش اليسار للحزب، يتحول إلى تيار رئيس. الآن، يبدو أن هناك عملية مشابهة قد تحدث أيضاً في الحزب الجمهوري مع معسكر الـMAGA الانعزالي في الحزب، الذي يخشى من أن تجرّ إسرائيل الولايات المتحدة إلى مغامرات، ويُظهر توجهاً سلبياً تجاه العلاقات الخاصة معها، والمساعدات العسكرية.

بات رأي الطيف السياسي كله سلبياً تجاه إسرائيل، حتى إنه معادٍ للسامية أحياناً، كلما انخفض السن.

هؤلاء هم الشباب في الجامعات المرموقة، جيل القيادة القادم في واشنطن. كلما مرّ الوقت تتحول هذه الدينامية إلى تحدٍ استراتيجي متفاقم، وبشكل خاص في ظل غياب تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية.

الكونغرس مركز ثقل

كان الكونغرس الأميركي دائماً مصدر قوة إسرائيل المركزي و»القدم على الأرض» في أميركا، وخصوصاً مع تبدُّل الرؤساء.

خاضت إسرائيل معركة في عدة مرات، عبر الكونغرس، ضد سياسة غير مريحة لإدارات ورؤساء، على خلفية توترات بين الدولتين بشأن مواضيع سياسية وأمنية، ونتنياهو نفسه خاض معركة ضد سياسة الرئيس أوباما إزاء إيران، ويُذكر في هذا السياق خطابه الاستثنائي في آذار 2015 في الهيئة العامة للكونغرس؛ كان الجو في الخطاب «مكهرباً»، لكن في المدى البعيد، سبّب ضرراً كبيراً لمكانة إسرائيل الثنائية الحزبين.

إن الاعتماد على رئيس الولايات المتحدة وحده لكي يضمن مصالح إسرائيل هو «شجرة بجذر واحد»، وغير كافٍ. حتى لو لم «ينقلب» ترامب علينا، سيأتي في المستقبل رئيس آخر، أيضاً ديمقراطي.

تحتاج إسرائيل إلى دعم الكونغرس أكثر من أي وقت مضى، لكن الكونغرس انعكاس للرأي العام الأميركي، والدعم لنا يتآكل بين جدرانه.

في هذه الظروف، يعود أصدقاؤنا الكبار في واشنطن إلى تحذيرنا، طوال الوقت، من التآكل في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، ومن المؤشرات الإشكالية إلى المستقبل.

الآن، المطلوب تغيير سياسي عاجل

لكي نحاول كبح الاتجاه (ستكون عملية الإصلاح أكثر تعقيداً)، يجب على إسرائيل أولاً أن تنهي الحرب في غزة بسرعة، وتنقلها إلى حكم مؤقت، برعاية عربية ودولية، وأن تحوّل الإنجازات العسكرية إلى ترتيبات سياسية، وفي مقدمتها صفقة لإطلاق سراح كل الأسرى.

وفي موازاة ذلك، المطلوب تغيير جذري في سياسة الضم الزاحف في الضفة الغربية، وكبح الإرهاب اليهودي والدفع قدماً بإصلاحات في السلطة الفلسطينية، بدلاً من محاولة إسقاطها، مثلما تفعل الحكومة.

المطلوب من شعب إسرائيل الاختيار: هل يريد تحقيق «رؤية إسبرطة» الخاصة بنتنياهو، أم «حلم أثينا» الخاص ببن غوريون؟

إن رئيس الحكومة الأول لإسرائيل فهِم أهمية خروج اليهود من الغيتو واندماجهم في حضن الأمم، كأمة متساوية، قوية، ذات قيم، ومحقة أخلاقياً، لديها منظومة تحالفات في المنطقة وما وراءها.

هكذا فقط، ربما نتمكن من كبح التآكل في مكانتنا في الولايات المتحدة، وفي المنطقة، وفي أوروبا؛ هذا التآكل قد يمس بحُرية العمل العسكري لإسرائيل، وبنموّ اقتصادها، ويُفشل قدرتنا على الحفاظ على مكانتنا كأمة تكنولوجية رائدة، فضلاً عن أننا قد نفوّت الفرصة العظيمة لتعزيز اتفاقيات السلام والاندماج في المنطقة، إلى جانب الدول العربية السّنية المعتدلة، كجزء من تنظيم إقليمي لصدّ إيران.

Share This Article