الإيطاليون يصرون على محاكمة رئيسة وزرائهم وأسطول الصمود هو الشرارة

المسار : “لقد كان أسطول الصمود هو الشرارة التي أنارت الشُّعلة”. بتلك الكلمات علَّقت أستاذة علوم الاجتماع والسياسة، الإيطالية المرموقة دوناتِللا دِللا بورتا، على المظاهرات المتضامنة مع فلسطين في إيطاليا، يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، التي تجاوز المشاركون فيها مليون شخص.

وأتى ذلك بعد أيام قليلة من مرور طائرة رئاسة الوزراء الإسرائيلية عبر المجال الجوي الإيطالي في طريقها إلى نيويورك كي يحضر بنيامين نتنياهو الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تفادت بعد ذلك الأجواء الإسبانية والفرنسية، نتيجة صدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في غزة، فيما بدا أنه تجاهل من روما للتحرُّكات الدولية ضد دولة الاحتلال.

ورغم أن المظاهرات المتضامنة مع فلسطين قد لفتت الأنظار في إيطاليا دون غيرها، إذ إنها شهدت مظاهرات ضخمة في أكثر من مدينة، مع مشاركة أكبر النقابات العُمَّالية في البلاد، وتجاوز أكثر من مظاهرة مليون متظاهر، فإن الحكومة القائمة عَزَفت عن مجاراة الحالة الاحتجاجية واتخاذ مواقف متفاعلة معها، على عكس إسبانيا مثلا التي شهدت احتجاجات ضخمة، لكن الموقف الرسمي فيها أتى متجانسا مع الموقف الشعبي.

ليست الهُوَّة بين الحكومة والشعب في إيطاليا اتجاه فلسطين غريبة مقارنة بإسبانيا، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التحالف الحاكم الآن في إسبانيا على رأسه الحزب الاشتراكي، المناصر للقضية، في حين أن التحالف الحاكم في إيطاليا تحالف يميني وعلى رأسه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.

أضف إلى ذلك، أن موقف اليسار الإيطالي تاريخيّا كان متقلّبا حيال القضية الفلسطينية، بسبب علاقة العداء بينه وبين الفاشية المُعادية لليهود، التي حكمت إيطاليا بقيادة موسوليني حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

فرغم أن نظام موسوليني تحمس للمشروع الصهيوني في فترة ما، رغبة في منافسة البريطانيين في فلسطين لا غير، فإن الموقف المعروف عن النظام الفاشي في إيطاليا، كحال نظيره الألماني، كان معاداته لليهود، ومن ثم خرج اليسار بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية متعاطفا مع المشروع الصهيوني، ومتأثرا ببعض التجارب اليسارية اليهودية التي شاركت في استيطان فلسطين قبل عام 1948.

في الخمسينيات والستينيات، وفي خضم اهتمامها بدورها في حلف الناتو الوليد، ومواجهة خطر الاتحاد السوفياتي، ساد إجماع منحاز لإسرائيل التي اعترفت بها روما عام 1950، لم تتخلله إلا انتقادات بسيطة لمبادرة إسرائيل بالهجوم على العرب عام 1956 وتواطئِها مع أهداف استعمارية.

لكن، وبعد حرب عام 1967، ومع تنامي أهمية منظمة التحرير الفلسطينية، تزايد تضامن اليسار في إيطاليا مع فلسطين، وانعكس ذلك في موقف مؤيد نسبيا لنشأة دولة فلسطينية، لا سيَّما بعد أن شهدت إيطاليا ذاتها عمليات لمنظمة التحرير الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية.

بعد صعود بنّيتو كراكسي، زعيم الحزب الاشتراكي، رئيسا للوزراء في الثمانينيات، وصل التضامن الرسمي الإيطالي مع القضية الفلسطينية إلى ذروته، حتى أن إيطاليا رفضت تسليم فلسطينيين من منظمة التحرير مطلوبين في الولايات المتحدة بعد أن شاركوا في خطف سفينة أميركية وقتل مواطن أميركي.

في الأخير، انحسر التضامن وانتهى مع نهاية الحرب الباردة ومشاركة منظمة التحرير ذاتها في عملية السلام، ولم يظهر تأثير كبير لفلسطين في الساحة السياسية الإيطالية، حتى عملية طوفان الأقصى، التي اندلعت بعد أشهر من وصول ميلوني إلى السلطة، ويبدو أن التضامن الشعبي الهائل مع غزة هو أشد تحدٍّ تواجهه شرعيتها في البلاد.

ميلوني تحت الضغط
في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خرجت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني في مقابلة تلفزيونية مع قناة “راي 1” الإيطالية.

لم يكن اللقاء ولا تاريخه الذي انعقد فيه ليمرَّا دون ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي الإيطالية، أتت انعكاسا لاضطرابات أوسع أثرا في الأيام الأخيرة، حيث امتلأت الشوارع الإيطالية بمظاهرات رافضة للحرب الإسرائيلية على غزة، ولاعتراض جيش الاحتلال الإسرائيلي أسطول الصمود الإغاثي الذي كان مُتَّجها إلى القطاع المُحاصَر.

أحدثت الضجة بالأساس تصريحات ميلوني، التي أعلنت أنها مُستهدفة بتهمة التواطؤ في حرب الإبادة الجماعية، التي شنَّها جيش الاحتلال في قطاع غزة، رِفقة وزير الدفاع في حكومتها غيدو كروسيتو، ووزير الخارجية أنطونيو تاياني، والمدير العام لشركة ليوناردو للصناعات، التي تعمل في مجالات الطيران والدفاع.

وقد أعدَّت هذه الشكوى التي رُفِعَت إلى محكمة الجنايات الدولية مجموعة محامين وقانونيين من أجل فلسطين، نتيجة الدور الذي أدّته حكومة ميلوني في دعم حرب جيش الاحتلال على غزة، وإمدادها جيش الاحتلال بأسلحة فتاكة بحسب الشكوى، التي تعني فعليا أن الحكومة الإيطالية كانت شريكة في جرائم الحرب التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في القطاع.

أثارت الشكوى اندهاش ميلوني، وقد اعتبرتها من أغرب الدعاوى في التاريخ على حدِّ تعبيرها، لكن الكثير من الإيطاليين لا يُشاطرونها الرأي.

إذ يُمكِن بسهولة لمن يعيش في إيطاليا أن يُدرِك حقيقة استيعاب التيار السائد في الشعب الإيطالي لحقيقة الاحتلال الإسرائيلي التي كانت محجوبة عن قطاع واسع فيه من قبل، وهو ما تثبته المظاهرات والإضرابات الاستثنائية التي شهدتها مختلف المدن الإيطالية دعما ونصرة للقضية الفلسطينية.

وعلى النقيض، أصبح أي رأي يساند دولة الاحتلال رأيا منبوذا على الصعيد الشعبي، ومع ذلك، لم تدخر الحكومة الإيطالية جهدا في دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي والوقوف بجانبها، مما خلق في نهاية المطاف وضعا غريبا ومتكررا في الكثير من البلاد الغربية، حيث تتجه حكومات الدول في طريق مُعاكِس لرغبات ورؤى شعوبها، في مشهد يضرب جوهر الديمقراطية في مقتل، ويجعل تلك الحكومات في خصومة مع شعوبها، على الأقل في ما يتعلق بسياستها الخارجية.

Share This Article