القاهرة ترسم حدود دورها ما بعد حرب غزة في ملفي الإعمار والمشاركة في القوة الدولية

المسار : تعمل المؤسسات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية في مصر على وضع رؤية شاملة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة، ورسم حدود واضحة للدور المصري فيها بما يشمل ملفات إعادة الإعمار والإشراف عليها، والمشاركة المحتملة في قوات دولية لحفظ السلام داخل قطاع غزة، إلى جانب تنظيم عملية تشغيل معبر رفح، بين القطاع ومصر، وضبط الحدود، وضمان الأمن في المناطق المحاذية لسيناء المصرية. وبحسب مصادر تحدثت إلى “العربي الجديد”، فإن القاهرة تضع مجموعة من “الخطوط الحمراء” التي لا يمكن تجاوزها، في مقدمتها رفض أي سيناريو يؤدي إلى تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، ورفض تحمل مسؤوليات أمنية مباشرة داخل القطاع دون وجود غطاء وضمانات دولية واضحة، فضلاً عن ضرورة تأمين آلية تمويل مستدامة لإعادة الإعمار وتسيير المعابر والمشروعات المستقبلية ما بعد انتهاء حرب غزة.

مصادر:  مصر تشترط أن يكون أي دور لها ضمن إطار إقليمي ودولي منظم

وأضافت المصادر أن مصر تشترط أن يكون أي دور لها ضمن إطار إقليمي ودولي منظم، بمشاركة الأمم المتحدة والدول المانحة، بحيث تُوزَّع الأعباء وتُحدَّد المسؤوليات بوضوح، لتفادي أي فراغ سياسي أو أمني في القطاع خلال المرحلة المقبلة. وفي ظل تزايد الكلام على احتمال تشكيل قوة دولية لحفظ السلام بمباركة أميركية، تتجه الأنظار نحو مصر التي تبدو الأكثر جاهزية لتولي دور محوري في إدارة المرحلة المقبلة بعد حرب غزة بفضل موقعها الجغرافي المتداخل مع القطاع، وسجلها الطويل في الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل، إلى جانب خبرتها في إدارة المعابر والتنسيق الأمني.

نقاشات تشكيل قوة دولية

وفي هذا الصدد قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، ، إن تشكيل قوة دولية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار يخضع حالياً لنقاشات على مستويين متوازيين: المستوى الأول يتعلق بتحديد الدول التي ستشارك في هذه القوة. أما المستوى الثاني، فيتعلق بصياغة مشروع قرار يُعرض على مجلس الأمن يتضمن تحديد اختصاصات القوة ومدتها وآليات تمويلها، وذلك بهدف صدور قرار أممي يجعلها تحت إشراف الأمم المتحدة، وليس تحت إدارة أو وصاية دولة بعينها، ضماناً للشرعية الدولية وتجنباً لأي تسييس في عملها.

حسين هريدي: الزخم الأميركي يُقلّص من مساحة المناورة أمام نتنياهو

بدوره اعتبر السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، في تصريحات لـ”العربي الجديد”، أن “احتمالات فشل خطة السلام (خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتي تشمل الشرق الأوسط وإنهاء حرب غزة)  تبقى ضئيلة طالما أن الإدارة الأميركية، والرئيس دونالد ترامب شخصياً، يبذلان كل الجهد لتنفيذها”. وأشار إلى أن هذا الزخم الأميركي “يُقلّص من مساحة المناورة أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يحاول تأجيل قرار إنهاء حرب غزة بشكل كامل”.

وتتزامن هذه التطورات مع دخول المعدات الفنية المصرية إلى القطاع للمساعدة في عمليات البحث عن جثث الجنود الإسرائيليين الأسرى، في خطوة تعكس عمق التنسيق الميداني بين القاهرة وتل أبيب والوسيط الأميركي. وتشير مصادر دبلوماسية غربية إلى تصوّر مطروح حالياً داخل الأروقة الأميركية والأوروبية يتضمن نشر قوة “استقرار” متعددة الجنسيات، تعمل بغطاء من مجلس الأمن، وتُكلَّف بمهام أمنية وإغاثية في آن واحد، تشمل تدريب عناصر شرطة فلسطينية جديدة وإدارة المعابر وتأمين إعادة الإعمار. ووفق دبلوماسيين فإنه من المرجّح أن تكون مصر في قلب هذا التشكيل، سواء من خلال القيادة أو المشاركة المباشرة في عمليات التنسيق الميداني والإدارة اللوجستية، وهو ما تزامن إعلان القاهرة، الشهر الماضي، عن تدريب آلاف العناصر الفلسطينية تحضيراً للمرحلة الانتقالية في غزة.

لكن مكاسب الدور المصري المحتمل لا تلغي ما يكتنفه من تحديات شائكة. فملف الحدود يظل الأكثر حساسية، خصوصاً مع استمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على ممر صلاح الدين (فيلادلفي) بطول 14 كيلومتراً على الحدود بين قطاع غزة ومصر، وهو ما تعتبره القاهرة مساساً مباشراً باتفاقياتها الأمنية (مع الاحتلال) وبتوازن سيناء الدقيق (الأمني). وأعلنت مصر صراحة أن أي بقاء إسرائيلي دائم على الشريط الحدودي يُعدّ “خطاً أحمر”، وأن إعادة فتح معبر رفح لن تتم إلا بعودة إدارة فلسطينية للمعبر وبخروج كامل للقوات الإسرائيلية من جانب المعبر في الجهة الفلسطينية، وهو ما يشكّل إحدى العقد الرئيسية أمام تنفيذ أي ترتيبات جديدة. فنجاح القوة الدولية المنتظرة في أداء مهامها سيتوقف على إيجاد صيغة مرضية تحفظ السيادة المصرية وتضمن رقابة فاعلة على المعابر، وتمنع في الوقت ذاته تحويل الحدود إلى ذريعة لإبقاء وجود عسكري إسرائيلي.

الدور المصري ما بعد حرب غزة

وفي الجانب الاقتصادي، تبدو معادلة الدور المصري أكثر تعقيداً. فالانخراط في ترتيبات أمنية طويلة الأمد يستلزم التزامات مالية كبيرة، في وقت تواجه فيه القاهرة تحديات داخلية تتمثل في ضغوط برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي، وارتفاع كلفة المعيشة. لذا تسعى مصر إلى ربط مشاركتها في أي ترتيبات دولية بآلية تمويل خارجي مستقرة تشمل مساهمات أوروبية وخليجية، وهو ما بدأ بالفعل في إطار الشراكة الأوروبية الأخيرة التي وعدت بحزم تمويل قد تصل إلى خمسة مليارات يورو لدعم الاقتصاد المصري حتى عام 2027. وبذلك تتحول غزة إلى ورقة توازن اقتصادي-دبلوماس

ومن جهة أخرى، تشكل الجبهة الداخلية في سيناء تحدياً لا يقل خطورة. فعلى الرغم من التحسن الأمني النسبي هناك خلال الأعوام الأخيرة، إلا أن أي انخراط مصري ميداني في غزة يحمل احتمال ارتدادات مباشرة على الأمن السيناوي. ينعكس ذلك سواء من خلال تنامي أنشطة التهريب أو احتمالات تسلل العناصر المسلحة أو زيادة الضغط السكاني في مناطق الحدود. وتدرك القاهرة أن السيطرة الأمنية وحدها غير كافية، لذلك تواكب استعداداتها الأمنية بخطط تنمية عمرانية واقتصادية جديدة في مدن الشمال والوسط السيناوي لتفادي عودة التوتر.

لكن التحدي السياسي الأعمق هو هندسة “اليوم التالي” (بعد حرب غزة) فلسطينياً، إذ لا يمكن لأي قوة دولية أن تنجح في غياب اتفاق فلسطيني داخلي حول من سيحكم غزة. فالقاهرة، التي احتضنت أكثر من عشر جولات حوار بين الفصائل، تجد نفسها اليوم أمام مهمة صعبة تتمثل في التوفيق بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس وفصائل أخرى، لتشكيل إدارة انتقالية مدنية-أمنية تحظى بشرعية داخلية وتوافق دولي. وتطرح الولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية صيغة “شرطة فلسطينية مدعومة ومُدقّقة”، لكن مصر تصر على أن تكون هذه الصيغة ضمن منظومة فلسطينية موحدة، لا تُقصي أي طرف، حتى لا تتحول غزة إلى كيان أمني هشّ أو منطقة نفوذ لقوى متصارعة.

المصدر : العربي الجديد

Share This Article