المسار : أبو معلا: يوجد أمر هام آخر أيضًا، وهو أن البنية الرقمية تلك أصبحت مساحة من مساحات العودة إلى الماضي والحنين إليه، بمعنى أن النموذج الفلسطيني كسر نظريات “اللامركزية” و”ما بعد الحداثة” و”ذوبان الحدود الوطنية”
في كتابه “تمثلات الهوية الفلسطينية في الفضاء الافتراضي: دراسة لشبكات التواصل الاجتماعي”، الذي صدر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقدّم الباحث سعيد أبو معلا مقاربةً علميةً تسعى إلى فهم الكيفية التي يستخدم بها الفلسطينيون شبكات التواصل الاجتماعي، ولا سيما منصة فيسبوك (ميتا)، بوصفها فضاء عموميًا افتراضيًا يستعيدون فيه حضورهم الوطني، ويبنون عبره طبقات متنوّعة من هويتهم، على الرغم من تباعد أماكن وجودهم وتشتتهم الجغرافي.
وينطلق المؤلف من فرضية أنّ التحولات السياسية، وتعثّر المشروع الوطني، وانسداد أفق قيام الدولة، دفعت الفلسطينيين إلى خلق عوالم بديلة داخل البيئة الرقمية، يمارسون فيها أشكالًا جديدة من الظهور والتفاعل والتعبير عن الذات الفردية والجماعية. ويرى أنّه مع توسّع استخدام الفضاء الافتراضي ظهرت للفلسطينيين فرصة فريدة لتجاوز الحدود التي فرضها التشظي؛ إذ غدت المنصات الرقمية مجالًا لإعادة صوغ هويتهم، وترميم سردياتهم، وإعادة ربط ما انقطع بينهم عبر الزمن والمسافة.
ويُظهر الكتاب أنّ المنصات الرقمية أتاحت للفلسطينيين فضاءً بديلًا لتجسيد هويتهم، بعيدًا عن احتكار المؤسسات السياسية التقليدية لتمثيلها؛ فقد أنتجت هذه المنصات تمثّلاتٍ أكثر تنوّعًا ومرونة، تستوعب اختلاف البيئات السياسية، ومنحت الفلسطينيين قدرةً على بناء هويات متوازية تتجاور من دون أن يكون ثمّة إقصاء فيما بينها. ويشير الكاتب إلى أنّه، على الرغم من النظريات التي ترى أنّ العولمة وما بعد الحداثة جعلتا الهويات القومية مائعةً ومفككة، فإن الحالة الفلسطينية بدت مخالفةً لذلك؛ إذ ساهمت الرقمنة في تعزيز التمثّلات الوطنية بدلًا من إضعافها، نتيجة الإحساس بالاقتلاع ومحاولات الاحتلال محو الهوية.
ويبيّن الكتاب أنّ الفلسطينيين، مع وجودهم في بيئات متباعدة وظروف متناقضة، يستخدمون الفضاء الرقمي لتجديد صلتهم برمز الوطن، واستعادة صورته في الوعي، وبناء “جسر شعوري” يربطهم بتاريخهم ومكانهم الأصلي. وقد أتاح لهم هذا الفضاء إعادة إنتاج وطنٍ رمزيّ يتشكّل عبر الصور والحكايات والذاكرة، فيغدو الوطن جزءًا من هويتهم اليومية، حتى بالنسبة إلى الذين لم يعرفوه مباشرة. ويُعدّ هذا الفضاء مجالًا للتعبير السياسي، على الرغم من الرقابة الإسرائيلية المتزايدة ومحاولات التضييق على المحتوى الفلسطيني.
ويخلص الكتاب إلى أنّ الهوية الوطنية الفلسطينية ليست واحدة ولا نهائية، بل تتجلّى في طيفٍ من التمثّلات المرتبطة بالمكان والظروف والسياق، غير أنّ لحظات المواجهة مع الاحتلال، في القدس وغزة خصوصًا، تعيد توحيد هذه التمثّلات حول مركزية الأرض والشعب والحكاية، فتستعيد فلسطين التاريخية حضورها بوصفها جوهر الهوية الجامعة.
ولإلقاء المزيد من الضوء حول موضوع الكتاب، أجرى “عرب 48” هذا الحوار مع مؤلفه الباحث سعيد أبو معلا.

