أساف دافيد |رئيس مجال إسرائيل في الشرق الأوسط في معهد فان لير، والمؤسِّس الشريك والمدير الأكاديمي لمنتدى التفكير الإقليمي. قيلت هذه الكلمات في مناسبة تسلّمه وسام حقوق الإنسان من قبل جمعية حقوق المواطن.
المسار: إسرائيل دولة شرق أوسطية. ليس فقط في جغرافيتها وديمغرافيتها وثقافتها ولغتها ودينها، بل أيضا في نظام حكمها، الذي كان — ويا للأسف — أكثر مشاريعه رسوخا وازدهارا هو نزع الشعب الفلسطيني المتواصل من ممتلكاته المادية والروحية. هذا النظام نسمّيه “يهوديًا وديمقراطيًا”.
في الدولة الديمقراطية يكون المواطن هو صاحب السيادة. أما في الدولة اليهودية فصاحب السيادة هو الإله. هذه التفرقة البسيطة غابت عن عيون أولئك الذين تربّوا على ألّا يروا. داخل حدود دولة إسرائيل تعرّف اليهود إلى وجهها الديمقراطي، فيما عرف العرب وجهها اليهودي. وخارج الحدود السيادية، تحوّلت الأراضي المحتلّة إلى “غرب متوحّش”، تديره جماعات من المستوطنين اليهود، في ظلّ حماية الدولة اليهودية وأجهزتها. أيدينا سفكت هذه الدماء، وعيوننا لم ترَ.
منذ يومها الأول، قامت الصهيونية على تأميم اليهودية. واليوم ينهض هذا الاقتران في وجهنا ليقضي علينا. غير أنّه قضى على الفلسطينيين قبلنا. وها أنتم ترون. لقد صدق أنبياء “مَتسبِن” — تلك الحركة اليسارية الإسرائيلية الراديكالية التي تأسست في ستينيات القرن الماضي، ويحمل اسمها بالعبرية معنى “البوصلة”. كانت من أوائل الأصوات اليهودية في إسرائيل التي واجهت الصهيونية والاحتلال، ورأت في السيطرة على الأراضي الفلسطينية أصل حكم قمعي وعنف متبادل، وربطت بين الاحتلال والاستبداد داخل إسرائيل نفسها. فإن الاحتلال أفضى إلى حكم أجنبي، والحكم الأجنبي ولّد مقاومة، والمقاومة أنجبت قمعًا، والقمع أفرز إرهابًا وإرهابًا مضادًا. وكان ضحايا الإرهاب، في الغالب، أبرياء لا ذنب لهم. إن التمسّك بالأراضي المحتلّة حوّلنا فعلًا إلى شعبٍ من القاتلين والقتلى. أيدينا تسفك الدماء، في غزة كما في الضفة الغربية، وعيوننا لا ترى.
ومع تعاقب السنين، تحوّلت الدولة اليهودية إلى دولة يهودانية، بلا حدود في أي معنى من المعاني. السيادة لإلهِ انتقام، وكذلك لمفسّريه ووكلائه على الأرض. لا رأفة ولا شفقة ولا رحمة؛ لا باليهود، وبالتأكيد لا بالفلسطينيين. وها أنتم ترون. لقد بات النظام السلطوي اليهودي ماثلًا للعيان. قيمه المشتركة لا يتقاسمها مع دول ليبرالية ديمقراطية في الغرب، بل مع أنظمة سلطوية أخرى في الشرق الأوسط وخارجه.
غير أنّ الأنظمة السلطوية، بخلاف الأنظمة الشمولية، تحتاج إلى شرعية من مواطنيها. ورغم أنّ المواطن اليهودي في إسرائيل لم يعد محصَّنًا من سطوة القوة كما في السابق، فإنه سيظلّ، على الدوام، أكثر حماية من المواطنين ورعايا الاحتلال الفلسطينيين. لذلك، تقع على عاتق كل يهودي معارض للنظام مسؤولية أخلاقية بأن يوظّف امتيازاته للدفاع، قولا وفعلا، عن الفلسطيني المتشبّث بأرضه. هناك، في هذا الفعل، تكمن بداية تبلور خلاص ديمقراطية تستحق اسمها. كلّ واحد منّا نور صغير، ونحن جميعًا نور ثابت. لن نمنح النظام السلطوي شرعية من عندنا.
إميل غرونتسفايغ، رحمه الله، كان من نشطاء “سلام الآن”. ولذلك قُتل. واجبنا أن نواصل دربه وأن نردّد، كل يوم، في آذان بعضنا بعضًا: إن لم يكن سلام، فستأتي الحروب، وستحطّم الدولة أجساد مواطنيها ونفوسهم. إن النداء “سلام الآن” ليس أمرًا عسكريًا؛ إنه رؤية مدنية، وهو اليوم بحاجة إلى خيال سياسي بلا حدود، لا يقل عن خيال اليمين “اليهوداني”. بين البحر والنهر يوجد وطن للشعب الفلسطيني وللشعب اليهودي. لم يعد هذا الوطن قابلا للتقسيم، ولن يستطيع الشعبان العيش فيه إلا على أساس مساواة كاملة في الحقوق، قومية وفردية. سلام لليهود يقتضي أمن الفلسطينيين، وأمن اليهود يقتضي سلام للفلسطينيين. لنتقاسم البلاد بدل أن نقسّمها. سلام الآن في الوطن المشترك.
لم أولد في معسكر السلام الإسرائيلي. أنا ابنٌ ليهودٍ من أصول يمنية. نشأتُ في كريات أربع، وتعلّمت في يشيفا (مدرسة دينية). أُصبتُ إصابةً بالغة في عملية خلال خدمتي العسكرية. خدمتُ سنواتٍ طويلة في وحدة 8200 وفي مكتب رئيس الوزراء. ومن هذا الموقع بالذات أتوجّه إلى كل من يعرّف نفسه جزءًا من معسكر السلام: تذكّروا أنّنا لن نصمد إلا إذا اتّسعنا. يمكن للغة أن تكون راديكالية، وللموقف أن يكون حازمًا، لكن القلب يجب أن يفهم، والأفعال يجب أن تُقرّب لا أن تُباعد.

