“بقلم: وسام زغبر”طلال أبو ظريفة: اغتيال الوعي قبل اغتيال الجسد

المسار :في الحروب، لا يُستهدف الجسد وحده. أحيانًا يكون الهدف الحقيقي هو الوعي. اغتيال طلال أبو ظريفة في قطاع غزة لا يمكن قراءته كحادثة قتل عابرة في سياق حرب مفتوحة، بل كجزء من نمطٍ أوسع يسعى إلى تصفية الفاعلين السياسيين والمدنيين الذين يجمعون بين الوعي والتنظيم والانخراط الشعبي.

لم يُقتل طلال لأنه كان في موقع عسكري، ولا لأنه حمل سلاحًا لحظة استهدافه. قُتل لأنه مثّل نموذج الفلسطيني الذي يرفض الاختزال: ليس ضحية صامتة، ولا رقمًا في الإحصاءات، بل فاعلًا سياسيًا متمسكًا بحقه في الأرض والوجود. قذيفة واحدة أطلقتها طائرة على حيّ سكني كانت كفيلة بتحويل المكان إلى ركام، والجسد إلى أشلاء، في مشهد بات مألوفًا في غزة، حيث يُعامل المدني باعتباره هدفًا مشروعًا.

وُلد طلال أبو ظريفة في قطاع غزة، حاملًا هوية بلا جنسية، في واقعٍ محاصر منذ الولادة. منذ سنواته الأولى، انخرط في اتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني – «أشد»، حيث تبلور وعيه الوطني على قاعدة أن فلسطين ليست مجرد مأساة تاريخية، بل قضية تحرر معاصرة، تتطلب تنظيمًا، ووعيًا، وفعلًا جماعيًا. هذا الوعي لم يبقَ نظريًا، بل شكّل أساس مسيرته السياسية اللاحقة.

محطته المفصلية كانت سفره إلى الجزائر بمنحة جامعية. هناك، خارج أسوار غزة، تعرّف إلى فلسطين من خلال فلسطينيي المنافي، واختبر تجربة شعبٍ انتزع حريته بعد استعمار طويل. في الجزائر، أدرك أن الحرية لا تُمنح، وأن الخطاب الحقوقي المنفصل عن التضحية والتنظيم يبقى فارغًا. جمع بين التفوق الأكاديمي والانخراط النشط في العمل الطلابي والوطني، في تجربة صقلت وعيه وربطته أكثر بقضيته.

عند عودته إلى غزة، اتخذ قراره الحاسم بالتفرغ للعمل الوطني ضمن صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. تميّز بدور تنظيمي وإعلامي فاعل، وتدرّج في مواقع المسؤولية وصولًا إلى عضويته في المكتب السياسي للجبهة. كان حاضرًا في الشارع، وفي التظاهرات، ومسيرات كسر الحصار والعودة، ومثّل الجبهة في الهيئة الوطنية لكسر الحصار وحق العودة، والمجلس الوطني الفلسطيني، والأطر التنسيقية العليا في القطاع.

اغتيال طلال أبو ظريفة يعكس سياسة أعمق من القتل المباشر: سياسة تستهدف تفريغ المجتمع الفلسطيني من كوادره الواعية، القادرة على الربط بين النضال الشعبي والتنظيم السياسي. في منطق الاحتلال، هذا النوع من الفلسطينيين يشكّل خطرًا مضاعفًا، لأنه يرفض دور الضحية، ويصرّ على ممارسة الفعل السياسي حتى في أقسى الظروف.

رحل طلال، لكن الرسالة التي تركها باقية. فالفلسطيني، كما جسّدته سيرته، ليس هوية تبحث عن اعتراف دولي، بل شعب يناضل من أجل حرية أرضه وكرامته. وفي زمن تتآكل فيه المعايير القانونية والإنسانية، تبقى قصة مناضلين كهؤلاء تذكيرًا بأن الوعي، حتى حين يُستهدف، يظل أقوى من القذائف.

Share This Article