المسار : لا أحد يتوقع أن يعم الهدوء في المنطقة، ولا أن تسود اتفاقات إبراهام اللعينة إياها، بل أن تكون الحروب المتجددة المستأنفة هي سمة المنطقة الأبرز في عام 2026، وبالذات في المشرق العربي من فلسطين إلى لبنان إلى سوريا والعراق، وصولا إلى إيران، والسبب لا يخفي، فلم تنتصر إسرائيل أبدا، ولا حققت جوهر أهدافها في حروب توالت منذ 7 أكتوبر 2023 إلى اليوم، ولا صنعت ما تسميه الشرق الأوسط الجديد على مقاسها، ولا هي استعادت قوة الردع المانعة لتجدد الحروب، ولا أنهت حربا باستسلام الخصوم، وهم ـ باستثناء دولة إيران ـ من جماعات وحركات المقاومة الشعبية.
صحيح أن نار الحروب لم تنطفئ حتى بعد اتفاقات وقف إطلاق النار على جبهتي غزة ولبنان، لكنها تجري في مستوى منخفض إلى حد ما، وتبدو كصدامات من طرف واحد هو كيان الاحتلال، الذي اخترق وقف النار المعلن في لبنان لنحو سبعة آلاف مرة، واخترق وقف النار المعلن من أسابيع في غزة لأكثر من ألف مرة، بينما بادر العدو باختراقات دون رد على جبهة سوريا، اللهم إلا باستثناء حالات نادرة أهمها في قرية بيت جن ومقاومتها الشعبية، رغم ضراوة القصف الإسرائيلي والغزوات البرية المتصلة على مدى أكثر من عام في جبهة سوريا وصولا إلى قلب دمشق، وتحطيم أسلحة وقواعد الجيش السوري كافة بآلاف الغارات، والاستيلاء الفعلي المباشر على أراض في جنوب سوريا أضيفت للجولان المحتل، تبلغ مساحتها في أقل تقدير أكثر من ضعف مساحة غزة، فوق حضور ظل الاحتلال الإسرائيلي بالأصالة وبالوكالة على أزيد من ضعف مساحة لبنان بكامله .
وفي فلسطين قلب الصراع الدامي المتصل لنحو ثمانين سنة، لا تبدو الحرب منتهية حتى تاريخه، ليس فقط في غزة، التي توقفت فيها حرب الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر، كما كانت عليه قبل أكثر من شهرين، وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين الجدد نحو خمسمائة إلى الآن، أضف استمرار اغتيالات قادة المقاومة على طريقة اغتيال الشهيد رائد سعد، ومنع العدو لتدفق المساعدات الإغاثية على غزة المتفق عليها في المرحلة الأولى من تنفيذ خطة دونالد ترامب، ولم يصل إجمالي الإغاثات الغذائية والطبية المسموح بها حتى إلى ربع المتفق والموقع عليه، مع غلق معبر رفح، وبقاء الاحتلال الإسرائيلي المباشر في 53% من مساحة غزة وراء ما سموه الخط الأصفر، الذي أزاحته إسرائيل غربا ومدت حضورها العسكري المباشر إلى 60% من إجمالي مساحة غزة، ومدت رعايتها لجماعات العملاء المسلحة، قبل وبعد تصفية العميل الأول ياسر أبو شباب، وصرنا بصدد جماعات عملاء مضافة، من نوع عصابة حسام الأسطل في شرق خان يونس، إلى رامي حلس وأشرف المنسي وغيرهم في شرق مدينة غزة وشمالها، واستمرت إسرائيل في هدم آلاف المباني المتبقية بعد دمار حرب الإبادة، ومنعت دخول مئات آلاف الخيام والمساكن الجاهزة، وأحالت حياة الفلسطينيين في غزة إلى جحيم ومآسٍ لا تنتهي، ظهرت علاماتها الفاجعة مع دخول فصل الشتاء، وإطاحة السيول والمنخفضات الجوية بخيام النزوح المهترئة البالية، وموت الشيوخ والأطفال الرضع تجمدا من قسوة البرد وأمراضه، وهو ما بدا متصلا مع مذابح الإبادة الجماعية، التي قتلت وأصابت أكثر من ربع مليون فلسطيني، وكلها أمارات تدلل على غلبة توقع استئناف الحرب، حتى مع امتناع حماس وأخواتها عن الرد إلى الآن، وحتى مع مساعي الدخول إلى المرحلة الثانية من تنفيذ خطة ترامب، التي يسعى الوسطاء والرئيس الأمريكي لإقناع بنيامين نتنياهو وحكومته بشروطها المعلنة، وهو ما لا تبدو الطرق إليه سالكة، حتى مع استقدام ما تسمى قوات الاستقرار وتشكيل مجلس الوصاية والانتداب المسمى مجلس السلام .
في لبنان كما في الضفة والقدس، لا يتوقف إيقاع حروب إسرائيل من طرف واحد، فحرب الإبادة والتهجير جارية في كل مدن ومخيمات الضفة
وفي لبنان كما في الضفة والقدس، لا يتوقف إيقاع حروب إسرائيل من طرف واحد، فحرب الإبادة والتهجير جارية في كل مدن ومخيمات الضفة، وبالذات في القطاع الشمالي، حيث تجري عمليات تجريف وإخلاء وتفجير آلاف المباني والمنازل، وتصعيد اعتداءات جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين على المدنيين الفلسطينيين، واحتجاز الناس في معازل خلف أكثر من ألف حاجز، ولا يكاد يمر يوم دون ارتقاء شهداء فلسطينيين جدد، ومواصلة اعتقال وسجن الآلاف، حتى بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين ما يفوق العشرة آلاف، مع دفع عشرات الآلاف للنزوح، وهجر المخيمات المدمرة، وتحويل موسم قطاف الزيتون إلى ميادين دماء، وتوحش، وتوسع عمليات إقامة مستوطنات استعمارية، وهو ما يجري شيء مثله في جنوب سوريا، وفي الجنوب اللبناني، الذي شهد إقامة حزام أمني متصل مع مرتفعات وسفوح جبل الشيخ في جنوب سوريا، ففي بداية مرحلة ما سُمي اتفاق وقف العمليات العدائية في لبنان قبل أكثر من عام، سيطرت قوات الاحتلال على خمس نقاط استراتيجية حاكمة داخل الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة، أضافت القوات الإسرائيلية إليها نقاطا أخرى، وقيل إن المجموع وصل إلى ثماني نقاط حتى اليوم، في حين تراوحت مساعي الحكومة اللبنانية دبلوماسيا في مكانها، رغم قرار الرئيس اللبناني والحكومة، إضافة ممثل دبلوماسي مدني إلى وفد لبنان العسكري في اجتماعات ما تسمى لجنة الميكانيزم، التي يترأسها جنرال أمريكي، وقد خضع الحكم اللبناني لشرط إضافة السفير اللبناني السابق سيمون كرم، وهو المعادي بالخلقة لمقاومة حزب الله وسيرتها منذ وجدت .
وبالمقابل، لا تبدى جماعات الحكم الافتراضي، لا في سوريا ولا في الضفة، أي رغبة بمقاومة الاحتلال، اللهم إلا باستمراء تقديم الشكاوى والاستغاثات بما يسمونه المجتمع الدولي، في حين تصمت طلقات حركات المقاومة الشعبية إلى أجل غير مسمى، وتركز جماعات المقاومة على رفض تسليم أو نزع سلاحها، ويرفض حزب الله نزع السلاح خارج منطقة جنوب نهر الليطاني، فيما ترفض جماعات حماس وأخواتها مبدأ نزع السلاح من أصله، وتعتبر ـ عن حق ـ أن المقاومة المسلحة باقية ما بقي الاحتلال، وأنها لن تسلم سلاحها إلا لحكومة دولة فلسطينية مستقلة حين تقوم، ولا تبدو مهمة نزع السلاح في غزة ميسورة ولا متاحة لأي طرف كان، وتتصور واشنطن أن المهمة المنصوص عليها في خطة ترامب، يمكن أن تقوم بها ما تسمى «قوة الاستقرار الدولية» بقيادة جنرال أمريكي، بينما لا تبدي الدول المرشحة للمشاركة بالقوة حماسا لخطيئة التورط في قتال مع حماس وأخواتها، ويطرح بعضها صيغا من نوع تجميد السلاح طوعا، أو تسليمه كوديعة موقوتة، بينما يصور نتنياهو مهمة القوات الدولية في جانب وحيد هو نزع سلاح غزة بكاملها، ويعلن أن إسرائيل لن تكمل الانسحاب من غزة دون نزع سلاح حماس وأخواتها، ويقول إن الجيش الإسرائيلي مستعد للقيام بالمهمة، التي فشل فيها عبر أكثر من سنتين في حرب الإبادة، وكل تلك عوامل مهددة لاستكمال اتفاق غزة بخطواته المعلنة، وقد تنذر بتجديد حرب الإبادة في أي وقت، بينما تتدافع النذر إلى حرب اجتياح شاملة في لبنان، وبدعوى فشل الحكومة اللبنانية في نزع سلاح حزب الله، وضرورة نهوض إسرائيل بعملية إفناء السلاح، التي تبدي أطراف عربية منتفخة ماليا استعدادا لتمويلها بمليارات الدولارات، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي ترامب في تصريحات أحدث، وأكد أن أطرافا في الشرق الأوسط تريد التدخل مساندة للكيان في حرب نزع سلاح المقاومة .
والمحصلة ببساطة أن حروبا أعنف وأشمل تدق الأبواب، ليس فقط في فلسطين وفي لبنان، بل حتى في سوريا التي ترفض إسرائيل عقد اتفاق أمني مع حكومتها، وتسعى لحرب تلحق الجنوبين السوري حتى دمشق واللبناني حتى بيروت بنفوذها الأمني المباشر، وتحويل كامل سوريا وكامل لبنان إلى حديقة أمنية ملحقة بكيان الاحتلال، وطبيعي أن الهدف لن يتحقق بغير شن حروب إضافية عالية الوتيرة، قد يصح توقعها في غضون أسابيع أو شهور، وقد تمتد شراراتها إلى اليمن والعراق، وبدعوى وجود جماعات ولاء إيراني، وقد تتضمن الخطط المتفق عليها أمريكيا وإسرائيليا ما هو أبعد، ونشهد حرب تصفية حساب جديدة مع إيران ذاتها، بعد أن انتهت حرب الاثني عشر يوما إلى وضع معلق، لم يحقق لأمريكا ولا إسرائيل شيئا يذكر من الأهداف المعلنة، فلا البرنامج النووي الإيراني جرى القضاء عليه كما ادعى ترامب، ولا البرنامج الصاروخي الإيراني تعطل، ولا طهران فقدت قدرتها على الردع، خصوصا مع استكمال النظام الإيراني لاستعدادات الحرب المقبلة، وتطوير مقدرته الدفاعية الجوية بالتعاون النشيط مع روسيا والصين، ووصول جولات التفاوض كلها مع الأمريكيين والأوروبيين إلى الحائط المسدود .

