تسجيل الأرض بالقوة.. “الطابو الإسرائيلي” يعيد رسم خريطة الضفة

المسار : شكّلت مصادقة المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر “الكابنيت”، في أيار/ مايو الماضي، على إلغاء الطابو الفلسطيني واستئناف تسجيل الأراضي في المناطق المصنفة “ج” ضمن سجلات الطابو الإسرائيلي، تحولًا خطيرًا وغير مسبوق في مسار السيطرة على الأرض في الضفة الغربية المحتلة.

خطوة لا تقتصر على إجراء إداري أو قانوني، بل تؤسس لمرحلة جديدة من نهب الأراضي، وتفكيك أحد أبرز مقومات الوجود والسيادة الفلسطينية عليها.

ويُمهّد إطلاق سلطات الاحتلال مشروع “الطابو الإسرائيلي” في الضفة الغربية، لخلق أساس قانوني جديد، يوصف بالمكر السياسي، يتيح مصادرة ما يقارب مليون دونم من الأراضي، ويفتح شهية التوسع الاستيطاني، في مقابل شطب الحقوق الفلسطينية التاريخية والقانونية، وتهديد الوجود الديمغرافي والبقاء السكاني على هذه الأراضي.

نكبة صامتة تعيد رسم خريطة الضفة

المختص في الشؤون الإسرائيلية أنس أبو عرقوب يؤكد أن المشروع الإسرائيلي الجديد يستهدف، في جوهره، تقويض الحق الفلسطيني في الأرض، ويدفع بمئات آلاف الفلسطينيين إلى دائرة خطر الإخلاء القسري، في وقت يمنح فيه المستوطنين اعترافًا قانونيًا كاملًا بما استولوا عليه من أراضٍ.

ويصف أبو عرقوب هذا المشروع بأنه “نكبة صامتة”، تعيد رسم خريطة الضفة الغربية، وتكرّس نظامًا يفرض السيطرة الإسرائيلية الشاملة على الأرض والسكان، ليس بالقوة العسكرية وحدها، بل عبر أدوات قانونية وإدارية أكثر خطورة واستدامة.

ويكشف عن جملة خطوات إسرائيلية متسارعة رافقت القرار، أبرزها تخصيص 225 مليون شيكل لإنشاء وحدة طابو إسرائيلية خاصة بالضفة الغربية، في خطوة وصفها بالدراماتيكية، نفذها وزير المالية والوزير المسؤول عن الإدارة المدنية في وزارة الأمن الإسرائيلية، بتسلئيل سموتريتش، خارج الخط الأخضر.

ويتوقع أبو عرقوب أن يكون للقرار تأثير مباشر وسلبي على عشرات آلاف الفلسطينيين، عبر حرمانهم من أراضيهم الزراعية، وحقولهم، ومراعيهم، ومصادرهم المائية، في مقابل تشجيع نحو نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية، إضافة إلى انعكاساته السياسية والقانونية داخل إسرائيل نفسها.

من الطابو الأردني إلى السجل الإسرائيلي

ويوضح أبو عرقوب أنه حتى وقت قريب، كانت عملية تسجيل الأراضي والمنازل في الضفة الغربية تتم عبر الإدارة المدنية وفق السجل العقاري الأردني، وليس من خلال الطابو الإسرائيلي.

إلا أن المشروع الجديد يتجه، بعد الانتهاء من أعمال المسح والتخطيط العقاري، إلى نقل جميع قوائم الأراضي إلى سجل طابو خاص بالضفة الغربية.

وستتولى الوحدة الجديدة إدارة نحو 41 وظيفة، مع هدف معلن بتخصيص ما يقارب 60 ألف دونم لصالح المستوطنين بحلول عام 2030.

ويشير أبو عرقوب إلى أن هذا القرار تقف خلفه بقوة أجندة سموتريتش، ويهدف بشكل مباشر إلى تثبيت الاستيطان، وتعزيز السيطرة الإسرائيلية، وتقويض أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

“ج”.. الأرض الأخطر

وتُشكّل المناطق المصنفة “ج” نحو 60% من مساحة الضفة الغربية، أي ما يقارب 3.4 مليون دونم، وتخضع بالكامل للسيطرة الإسرائيلية المدنية والعسكرية وفق اتفاقيات أوسلو.

ويبيّن أبو عرقوب أن نحو 70% من هذه الأراضي مصنفة كأراضٍ “أميرية” وفق التصنيف العثماني، أي أنها لا تحمل سندات طابو رسمية، ما يجعلها عرضة للمصادرة المباشرة.

ووفق إحصائيات عام 2001، تشكل الأراضي الأميرية نحو 69% من مجمل مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما يُقدّر أن نحو 1.3 مليون دونم مصنفة كأراضي دولة أو أملاك غائبين تحت إدارة الاحتلال، رغم وجود حقوق قانونية فلسطينية غير مسجلة رسميًا.

وتكشف خريطة السيطرة وفق اتفاق أوسلو أن مناطق “أ” تشكل 18% من مساحة الضفة، ومناطق “ب” 22% فيما تستحوذ مناطق “ج” على 60%.

ورغم أن الفلسطينيين يشكلون أكثر من 90% من سكان الضفة الغربية، فإنهم يمتلكون فقط 2% من الأراضي المسجلة رسميًا، في حين يستولي المستوطنون على نحو 37% من الأراضي الأميرية.

ويؤكد أبو عرقوب أن سلطات الاحتلال تنفذ حاليًا عملية مسح وتسجيل واسعة، تمهيدًا لمصادرة الأراضي غير المسجلة تلقائيًا واعتبارها “أملاك دولة إسرائيلية.

وهذا يعني إخضاع الفلسطينيين لإجراءات تسجيل لدى الإدارة المدنية الإسرائيلية أو فقدان حقوقهم القانونية في الأرض، إلى جانب منع أي تسجيل فلسطيني موازٍ، ووقف الدعم المالي الخارجي لمشاريع التسجيل.

ويرصد أبو عرقوب معطيات خطيرة بشأن واقع الأراضي في المناطق المصنفة “ج”، إذ إن نحو 70% منها تُصنّف كأراضٍ أميرية ومعرّضة للمصادرة.

وفي حين لا تتجاوز حصة الفلسطينيين 0.7% من هذه الأراضي، خُصص نحو 37% منها للمستوطنين، بما يشمل قرابة 400 ألف دونم من أصل 1.3 مليون دونم من الأراضي الأميرية.

إضافة لذلك فإن أكثر من 90% من أراضي مناطق “ج” غير مسجلة رسميًا، ما يهدد نحو 80 ألف فلسطيني بالإخلاء القسري، إلى جانب تشديدات إضافية في مناطق التماس تطال نحو 10% أخرى من مساحة الضفة الغربية.

الضم الصامت

من جهته، يرى الباحث في الشأن الإسرائيلي فراس ياغي أن تشكيل دائرة طابو إسرائيلية في الضفة الغربية يمثل خطوة مركزية في مسار الضم التدريجي الهادئ، إذ يمس بشكل مباشر مفهوم الملكية الفلسطينية، ويُستخدم لتشريع ملكية المستوطن، والسيطرة على الأراضي الأميرية التي يعجز الفلسطيني عن تسجيلها قانونيًا وماليًا.

ويشير ياغي في حديثٍ صحفي  أن سموتريتش عمل، منذ توليه مناصب وزارية في وزارة الأمن، على تنفيذ نظرية “الحسم” التي أعلنها عام 2018، عبر سلب الأرض الفلسطينية بقوانين تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية التي تؤكد أن الضفة أرض محتلة لا يجوز تغيير وضعها القانوني.

ويعتبر ياغي أن ربط الطابو الجديد بدائرة الأراضي المركزية الإسرائيلية، بدلًا من الإدارة المدنية والجيش، يشكل نقلة نوعية في ربط الضفة مباشرة بالمؤسسات والوزارات الإسرائيلية.

ويلفت إلى أنّ ذلك يعكس واقع الضم الصامت والمتسارع عبر تشريع القوانين وبناء الدوائر الحكومية، وعلى رأسها دائرة الطابو، كمرجعية للمستوطنين وأداة لانتزاع الأراضي من أصحابها الأصليين.

هندسة النكبة بالقانون

بدوره، يرى الأكاديمي والمحلل السياسي أمجد بشكار أن المشروع يمثل انتقالًا نوعيًا من إدارة الاحتلال إلى مأسسة الضم، عبر استخدام أدوات القانون والتسجيل والمسح بدل القوة العسكرية، دون أن تكون أقل خطورة.

ويحذر بشكار في حديث لمراسلنا من أن إلغاء الطابو الفلسطيني–الأردني يعني محو الذاكرة القانونية للأرض، واستبدالها بسجل إسرائيلي يُنتج شرعية استعمارية داخلية تُستخدم لاحقًا لإغلاق أي أفق سياسي أو قانوني دولي.

وعدّ أن السجل العقاري بات أداة لإغلاق المستقبل لا تنظيم الحاضر.

ويضيف أن الفلسطيني يُدفع قسرًا للاعتراف بسيادة المحتل عبر التسجيل في الطابو الإسرائيلي أو خسارة أرضه، في آلية إخضاع سياسي واضحة، تُحوّل الملكية إلى أداة ابتزاز، وتكرّس نظام فصل عنصري عقاري، حيث يمتلك المستوطن الأرض بالقانون، ويُجرّم الفلسطيني لوجوده عليها.

ويخلص بشكار إلى أن ما يجري هو إعادة إنتاج للنكبة بأدوات بيروقراطية، تُفرغ الأرض من أصحابها باسم النظام والتخطيط، مؤكدًا أن مواجهة هذا المشروع لا تكون بالاعتراض القانوني فقط، بل بإعادة تعريف الأرض كقضية تحرر وطني، لا كملف إداري في دفاتر الاحتلال.

Share This Article