ك
المسار : تلهث الدبلوماسية العربية بشكل عام وراء الحقائق، وهي غالبا لا تلحق بها، ولا تشارك في صنعها. صحيح أنها في بعض الأحيان تنجح في المشاركة في عملية «صنع الوثائق»، أو «بيانات الخطاب السياسي»، اعتمادا على الفرص التي استطاع آخرون صناعتها. لكن صناعة وثيقة أو بيان، أو حتى إصدار قرار دولي، لا يصنع حقيقة قائمة على الأرض (خذ على سبيل المثال القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بانسحاب القوات الإسرائيلية عام 1967 ولم ينفذ كاملا حتى الآن). القرار الدولي في أغلب الأحوال يتيح فرصة للعمل والاشتباك مع الواقع من أجل تغييره. ويبدو أن فهم العرب للدبلوماسية يقتصر على الإعداد للاجتماعات والمؤتمرات وإصدار البيانات، وبعدها يخلد الدبلوماسيون وصناع القرار إلى النوم، وتبدأ أجهزة الإعلام في إطلاق معزوفات التعبئة السياسية، التي تشيد بالانتصارات التاريخية المزعومة، بينما على الجانب الآخر تدور آليات العمل الدبلوماسي بأقصى سرعة، من أجل تحويل الوثائق والقرارات والخطاب السياسي ومشتقاته إلى حقائق سياسية، تحقق للآخرين بالدبلوماسية ما لم تحققه بالحرب.
ومن المؤسف أننا لا نجد الكثير من الاهتمام بمواصلة الجهد الدبلوماسي، في صيغة أو أكثر من صيغ الاشتباك السياسي، التي تقدم بدائل قادرة على التحدي، وتساعد على حل الصراعات، أو تسوية النزاعات على الوجه الذي يحقق مصلحة الشعوب العربية، أو على وجه التحديد في الوقت الحالي، ما يحقق مصلحة الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، بعد التضحيات غير المسبوقة، التي قدمها وما يزال يقدمها الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية.
إعادة تشكيل خطة ترامب للسلام في غزة تجري وفقا لرؤى أمريكية وإسرائيلية، خلق إطار رمادي بين النص الأصلي للخطة، ورغبة إسرائيل في توظيفها للحصول على ما فشلت في الحصول عليه بالحرب
ومن المؤسف أننا لا نجد بدائل عربية تناطح البدائل الصهيونية (المصنوعة في إسرائيل أو في الولايات المتحدة)، التي تمد صانع السياسة بخيارات متعددة ومتنوعة وتجهز للرأي العام وصفات مقبولة. إن عملية إعادة تشكيل خطة ترامب للسلام في غزة تجري وفقا لرؤى أمريكية وإسرائيلية، سعيا إلى خلق إطار رمادي بين النص الأصلي لنقاط خطة ترامب، ورغبة إسرائيل في توظيفها للحصول على ما فشلت في الحصول عليه بالحرب، وأن يتحقق ذلك إلى أقصى قدر ممكن، وتملك إسرائيل تصورات جاهزة مدروسة بعناية، كذلك فعلت الولايات المتحدة، حيث تشارك في صنع هذه التصورات مؤسسات تعمل في تنسيق كامل على الجانبين، من خلال مركز التنسيق المدني العسكري في كريات غات، وهو المركز الذي يخضع نظريا لإشراف القيادة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط (القيادة الوسطى). وقد برز من خلال الوثائق التي يجري إعدادها دور كل من معهد واشنطن الأمريكي المتخصص في دراسات الشرق الأوسط، ومعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب، إضافة إلى مجلس الأطلنطي الذي يسهم هو الآخر بدور مهم في إضافة رتوش على الرؤى الإسرائيلية والأمريكية. هذه المراكز وإن كانت لا تصنع القرار السياسي، فإنها تقدم وصفات مدروسة لتحديد المهمات المطلوبة، واقتراح الأدوات الملائمة لوضعها موضع التنفيذ، للوصول إلى الهدف النهائي.
وتدرك الحكومة الأمريكية، كما قال وزير الخارجية ماركو روبيو في تصريحاته خلال المؤتمر الصحافي الختامي للعام الحالي يوم الجمعة الماضي، أن الوضع الراهن «غير قابل للاستمرار في غزة»، حيث تواصل إسرائيل قصف أهداف حماس، بينما تعيد حماس فرض سيطرتها في الشارع الفلسطيني. «لهذا السبب تشعر الإدارة الأمريكية بضرورة ملحة لإتمام المرحلة الأولى بالكامل، وهي إنشاء مجلس السلام، وإنشاء السلطة أو الإدارة التكنوقراطية الفلسطينية التي ستكون حاضرة على الأرض، ثم تأتي قوة الاستقرار الدولية بعد ذلك مباشرة». لم يُحدد روبيو الجهة المسؤولة عن نزع سلاح حماس، وأقرّ بأن الدول المساهمة ترغب في معرفة المهمة المحددة لقوة الاستقرار الدولية، وكيفية تمويلها. وأوضح أن هناك دولا مستعدة للمشاركة في تلك القوة، مشيرا إلى أن باكستان من بين الدول التي أبدت اهتماما.
دبلوماسية براغماتية
يحذر بعض المراقبين والسياسيين من أن وتيرة الحديث عن إعادة الإعمار تجري بمعدل أسرع من وتيرة ترتيب الأوضاع السياسية والأمنية على أرض الواقع. ويشيرون إلى أن حماس لم تُجرّد سلاحها بالكامل بعد، وأن الاشتباكات بين مقاتليها وقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي لا تزال مشتعلة، ما قد يؤدي إلى تُقويض عمل لجنة التنسيق. ويلاحظ آخرون عدم وجود أي جهة حكم فلسطينية تشارك رسميا، ووجود حالة تردد لدى بعض الشركاء الدوليين. وسوف أشير في هذا المقال إلى ثلاث وجهات نظر تكمل كل منها الأخرى، أو تركز على جانب محدد، أنتجها الخبراء في مؤسسات البحوث الثلاث المشار إليها. وجهة النظر الأولى صاغها كل من السفير دينيس روس، وهو واحد من أهم خبراء شؤون الشرق الأوسط العارفين بتاريخ العلاقات العربية – الأمريكية ودور الولايات المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، وشاركه في صياغتها العميد (احتياط في الجيش الإسرائيلي) عساف أوريون. وجهة النظر الثانية قدمها مايكل سينغ المدير العام لمعهد واشنطن. أما وجهة النظر الثالثة فقد عرضها من خلال مجلس الأطلنطي أحمد فؤاد الخطيب أحد كبار الخبراء في مجلس الأطلنطي (فلسطيني الأصل من غزة)، يدعو فيها إلى موقف أشد صرامة تجاه حماس.
تقسيم قطاع غزة
وضع المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط سابقا السفير دينيس روس، بالتعاون مع عساف أوريون – وهو أيضاً باحث بارز في معهد واشنطن – خطة «المناطق الأربع» لإعادة إعمار غزة. هذه الخطة تدعو لتقسيم قطاع غزة إلى أربع مناطق متميزة تشمل: المناطق الحمراء، وهي مناطق خاضعة لرقابة مشددة، حيث لا تزال قوة حماس موجودة. المناطق الخضراء، وتُعتبر ملاذات إنسانية تحت إشراف عربي. المناطق الرمادية، وهي مخصصة لإعادة الإعمار بإدارة دولية.. وأخيرا المناطق الزرقاء التي تُعتبر آمنة لعودة المدنيين. وتستهدف خطة روس وأوريون تحويل المناطق الحمراء تدريجياً إلى مناطق زرقاء، من خلال «إجبار عناصر حماس على الاستسلام، أو مغادرة قطاع غزة. وبعد ذلك تتولى سلطات دولية أو إقليمية مؤقتة إدارة الأمن وإعادة الإعمار». إلا أن هذا التقسيم من وجهة نظر مايكل سينغ المدير العام لمعهد واشنطن ينطوي على مخاطر، إذ يرى أن بإمكان حماس استخدام المنطقة الحمراء لشن هجمات، وأنها تسعى بلا شك للتسلل إلى المنطقة الخضراء ومواصلة حربها ضد إسرائيل.
وقال عساف أوريون، إن برنامج مركز التنسيق المدني والعسكري «غير مسبوق في صراعنا» أي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وأعرب عن تفاؤل حذر بأن النهج الجديد قد يُحقق نتائج إيجابية، لكنه حذر من أن «الكثير من الأمور قد تسوء». وبموجب المرحلة الثانية من الخطة، من المفترض أن تنسحب إسرائيل من مواقعها في غزة، وأن تتولى سلطة مؤقتة إدارة القطاع بدلا من حماس، وأن يتم نشر قوة دولية لتحقيق الاستقرار.
أولوية نزع سلاح حماس
يرى مايكل سينغ، أن نزع سلاح حماس وتسريحها يمثل حجر الأساس للمرحلة الثانية من خطة ترامب للسلام في غزة، وأن العيب الجوهري في الخطة من وجهة نظره يكمن في تجاهلها لمشكلة حماس. ويحاول سينغ ترويج مقولات زائفة مثل مقولة، إن الدعوة لإقامة دولة فلسطينية تعزز قوة حماس. ويزعم أنها حتى لو أُعُلنت بقرار دولي، فإنها ستتحول فوراً إلى منصة لشن هجمات على إسرائيل، وربما على دول أخرى. ويرى سينغ أن معالجة هذه المشكلة يتطلب من وجهة نظره قيام إسرائيل والولايات المتحدة وشركائهما، بمواجهة حقيقتين صارختين. الأولى هي أن حماس تحظى بدعم كبير من الفلسطينيين، لاسيما في الضفة الغربية. الثانية أنه لا يوجد طرف مستعد لمواجهتها ونزع سلاحها، أو هزيمتها بالقوة سوى الإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم. وقال إن الولايات المتحدة وإسرائيل استجابتا لهذه المشكلة بتقسيم غزة إلى منطقتين «خضراء» و»حمراء»، على أمل أن يؤدي تركيز جهود إعادة الإعمار والتنمية والمساعدات الأمنية في المنطقة الخضراء، مع عزل حماس في المنطقة الحمراء، لتقويض دعمها. كما يتطلب أيضا الشروع في تنفيذ عدة مشاريع طويلة الأجل، منها بناء قوة أمنية فلسطينية كبيرة وفعّالة.
ومن جانب آخر قال أحمد فؤاد الخطيب، الباحث البارز في المجلس الأطلسي، المولود في غزة، إن هناك توترات داخلية في الولايات المتحدة بشأن مدى التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط. كما أشار إلى تردد سياسي أوسع نطاقا في الالتزام «بأي وجود عسكري طويل الأمد». وأضاف: «هناك توجه سياسي عام يعارض أي تورط إضافي في الشرق الأوسط». وأوضح أن الدول التي كانت أمريكا تأمل في انخراطها، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، تتراجع حاليا، لأنها «مستاءة من أن الولايات المتحدة وافقت ضمنيا، أو قدمت تنازلات كثيرة جدا، من وجهة نظرها، للقطريين والأتراك». ويعتبر أن السماح لقطر وتركيا بتولي أدوار قيادية يبقي حماس في مكانها.
كاتب مصري … إبراهيم نوار
المصدر …صحيفة القدس العربي

