أهم الاخبارمقالات

كتب طنّوس شلهوب// في مواجهة السياسات الإمبريالية

تعيد المواجهة العسكرية التي تجري اليوم مع الكيان الصهيوني الغاصب الأمور إلى نصابها، وتُجبر الأنظمة والنخب على التموضع في الخنادق والمحاور التي تنتمي بالأساس إليها. ويتبلور في العالم اليوم ذلك الانقسام العظيم الذي لفت إليه مراراً المفكر سمير أمين.
لم يكن متاحاً لسمير أمين التنبؤ بالشكل الذي سينمو فيه هذا الانقسام والذي كان يرى فيه قطبين: واحد ممثل بثلاثية المراكز الإمبريالية (الولايات المتحدة الأميركية، أوروبا الغربية، واليابان)، والآخر هو الجنوب بقيادة بلدان أوراسية تمثّل قوة اقتصادية صاعدة (الصين، روسيا، والهند) والتي يمكن أن تشكّل قوة جذب لباقي بلدان العالم في مواجهة الهيمنة الإمبريالية. وجاءت المواجهة بين «الناتو» وروسيا في أوكرانيا كتعبير عن انتقال هذا التناقض من الكمون إلى التحقق، وهو يمثّل إرادة سياسية في التصدّي للهيمنة الإمبريالية بغض النظر عن طابع علاقات الإنتاج الرأسمالي في روسيا.

إنّ كسر الهيمنة العالمية للإمبريالية (الأميركية) بعد الانقلاب على المشروع الاشتراكي السوفياتي كان لا بدّ من أن يمرّ عبر تشكّل عالم متعدد القطبية، وبالتالي، فإن جوهر المواجهة مع روسيا ليس كما تشيع الأوساط الإمبريالية ومعها النخب النيوليبرالية (والنيويسارية) بصفتها معركة ضد الديكتاتورية البوتينية، إنما هي تندرج في سياق التصدّي للهيمنة الإمبريالية، وكان سمير أمين قد أشار إلى أن التفلّت من هذه الهيمنة يفترض القطع مع التبعيّة ضمن مشروع اقتصادي تنموي لا تكون أولوياته مرتبطة بمصالح رأس المال المعولم.

ومع انفجار التناقض بين الإمبريالية وروسيا، أطلقت الأوساط الإمبريالية حملة شعواء لشيطنة كل ما له علاقة ليس فقط بالخيارات السياسية للكرملين، بل بكل عناصر التاريخ والثقافة الروسية، ووصل بهم الجنون إلى حظر موسيقى المؤلفين الروس العظماء وتحطيم تماثيل الشعراء والكتّاب الروس أمثال بوشكين وتولستوي وغوركي، والتوقف عن عروض المسرح والباليه المرتبطة بالمؤلفين الروس، وإحراق الكتب الأدبية والتاريخية، في مشهد يذكّر بما قامت به النازية في ألمانيا مع انطلاقتها الكبرى لتطهير الثقافة الألمانية من كل ما هو غير آري ويتعارض مع الفكر النازي.
إنّ المواجهة العسكرية مع روسيا لم تمنع الولايات المتحدة الأميركية من الاستمرار في التحضير للمواجهة الكبرى مع الصين عبر شبك التحالفات العسكرية في منطقة بحر الصين وتحريض تايوان لانتهاج سلوك عدائي واستفزازي يضع المنطقة على حافة الانفجار.

في ضوء كل هذه التوترات الكبرى والعقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على روسيا، تعاني اقتصادات المراكز الإمبريالية من ازدياد معدلات التضخم وانحسار في الميدان الاستثماري ونموّ في معدلات البطالة وتراجع في مستوى الخدمات الاجتماعية، مع توقعات بتعمق هذه الأزمة مع ما سيرافقها من اضطرابات اجتماعية في سياق الاستقطاب الطبقي والصراع بين قوة العمل ورأس المال.

ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية والمعيشية، والازدياد المتسارع للتضخم والارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية، وزيادة معدلات البطالة ومشاكل القطاعات الخدماتية من تعليم وسكن وصحة، فإنّ السلطات الحاكمة في بلدان المراكز الإمبريالية تستمر في هجومها على المكتسبات التاريخية التي كانت قد حققتها الطبقة العاملة وعموم الشغيلة والكادحين من خلال تعميم نهج القمع للحركات الاحتجاجية المطلبية والمعيشية، وتفكيك ما تبقى من مؤسسات القطاع العام (حيث كانت تجسّد دور دولة الرعاية الاجتماعية) لمصلحة القطاع الخاص المرتبط بدوائر رأس المال الكبير المندمج مع مواقع السلطة. إنّ العنف الذي مارسته وتمارسه السلطات الحاكمة في البلدان الغربية في مواجهة الحركات الشعبية الاحتجاجية ضد السياسات الاقتصادية النيوليبرالية («السترات الصفر» في فرنسا كمثال) والممارسات العنصرية للشرطة بحق السود والمهاجرين (حياة السود مهمة) قد بلغت مستوى غير مسبوق من الوحشية عرّى هذه الأنظمة الرأسمالية من «مشروعيتها» الأيديولوجية القائمة على «الديموقراطية» و«حقوق الإنسان»، هذه الديموقراطية ليست سوى ديكتاتورية الطبقة المهيمنة (الأقلية) على باقي المجتمع.

إنّ موقف بلدان المركز الإمبريالي تجاه العالم العربي ينطلق من تأمين ديمومة هيمنتها بما يضمن لها الاستمرار في نهب ثرواتنا ومنع مجتمعاتنا من سلوك المسار التنموي الذي يؤسس لبناء اقتصادات مستقلة تتمثّل أولوياتها في تحقيق المشاريع التنموية لشعوبنا وليس في ضمان أولويات مصالح رأس المال المعولم. وبهذا المعنى، فإن ما تروّج له النخب النيوليبرالية المحلية عن نجاح مشاريع «التحديث» في بلدان الخليج النفطية ليس سوى مقاربة سطحية لمفهوم الحداثة والتي لا علاقة لها بالقطع مع الهيمنة الإمبريالية كشرط للتحرّر الوطني. وفي هذا الإطار، فإن المشروع الصهيوني في فلسطين يحتل الموقع المركزي في ضمان استمرار الهيمنة الإمبريالية على مجتمعاتنا وشعوبنا، ولا يمكن لهذه الهيمنة أن تستمر وتتعزز إلى جانب وظيفة الكيان الصهيوني إلا بوجود أنظمة سياسية هي بالفعل تعبّر عن مصالح شرائح اجتماعية يقوم نشاطها الاقتصادي والمالي على تسهيل الهيمنة الإمبريالية أولاً في نهب الثروات المحلية، وثانياً في تسويق البضائع الأجنبية، ويتركّز عملها في المجالات الخدماتية والريعية بما يعرقل ويمنع تشكل نمط اقتصادي منتج، وهذه الشرائح تسمى البورجوازية الكومبرادورية.

إنّ هذا الفهم البنيوي لوظائف الأطراف الثلاثة التي تشكّل معاً نظام الهيمنة الإمبريالية في منطقتنا العربية، أي المراكز الإمبريالية، إسرائيل والأنظمة الرجعية العربية، يسمح بتفسير سلوك الأطراف المختلفة المعنية بالمواجهة التي تجري حالياً في غزة، ويضع الأمور في نصابها لجهة معرفة الخندق الذي تنتمي إليه الأنظمة، والقوى والنخب السياسية في سياق الانقسام والصراع العالمي الدائر حالياً في مناطق مختلفة من العالم وبما يتعدى منطقتنا، إن كان ذلك في أوكرانيا، أو تايوان أو هاييتي أو فنزويلا، الخ. إنّ الترابط المادي الموضوعي (الاقتصادي والمالي) بين كل المجتمعات والبلدان هو الأساس الذي يحتّم ربط الخاص بالعام، وبهذا المعنى، فإن نتائج المعركة الدائرة اليوم في غزة لا يمكن فقط حصرها بالخصائص السياسية للقوى المقاومة المنخرطة فيها، أي بوصفها قوى دينية (وبالتالي رجعية!) كما ينظر لذلك «العلمانيون» (مع أن النظام السياسي في إسرائيل هو علماني)، إنما بطبيعة الفعل المقاوم لهذه القوى (وهي ليست كلها دينية) في تفكيك نظام الهيمنة من خلال تعطيل الدور الوظيفي لأبرز أطرافه، أي الكيان الصهيوني الغاصب.

وبالنسبة إلى النظام الرسمي العربي والنخب التي تدور في فلكه، (وهي بمعظمها ترتزق من بقايا موائده)، يواجه مأزقاً حقيقياً بنتيجة جذرية الأهداف الإمبريالية – الصهيونية في إغلاق المسألة الفلسطينية عبر طرد فلسطينيّي الضفة وغزة نحو كل من الأردن ومصر، ما أضعف دور هذه الأنظمة في ملاقاة الخطة الإسرائيلية لتصفية مشروع المقاومة، والذي يمثّل الإحراج الأكبر لأنظمة الخيانة. بعض الأبواق لم تجد من مادة للتصويب على المقاومة إلا تكرار معزوفة تبعية فصائل المقاومة لإيران، واتهام هذه الفصائل بأنها أداة لتنفيذ الأجندة الإيرانية، بما يُسقط عنها صفة «الوطنية» ويجعلها مجرد أداة عند الخارج. مع حجم الإجرام الصهيوني في إهدار الدم الفلسطيني، ومع ازدياد الإرباك العسكري الصهيوني في مواجهة غزة، فمن غير المستبعد أن يكون لأنظمة الخيانة الدور الأساسي في مساعدة الصهاينة للنزول عن الشجرة وبما ينسجم مع موقعهم الوظيفي في نظام الهيمنة.

نتائج المعركة الدائرة اليوم في غزة لا يمكن فقط حصرها بالخصائص السياسية للقوى المقاومة المنخرطة فيها، أي بوصفها قوى دينية (وبالتالي رجعية!) كما ينظر لذلك «العلمانيون» (مع أن النظام السياسي في إسرائيل هو علماني)، إنما بطبيعة الفعل المقاوم لهذه القوى

وينبغي التوقف هنا عند حقيقة أن المواجهة الروسية الصينية مع بلدان الإمبريالية بدأت تؤسس لعالم جديد في ظل تسرب الضعف إلى شرايين الأخطبوط الإمبريالي، ما خلق الظروف لتمايزات في سلوك الكثير من البلدان التي تحاول التفلّت ولو جزئياً من السطوة الأميركية في سبيل تعزيز مصالحها (كمثال، عدم رضوخ السعودية للأميركيين بزيادة ضخ النفط لمحاصرة روسيا، وإعلان مصر عن رغبتها في الانضمام إلى مجموعة «البريكس»).

أمّا على صعيد بلدان الغرب الإمبريالي، فإن سلوك الأحزاب الحاكمة والمروحة الواسعة من النخب السياسية (والأكاديمية ووسائل الإعلام) تجاه المواجهة في فلسطين ومع محور المقاومة يتطابق مع تعاطيهم في المواجهة مع روسيا، وفي حملاتهم المستمرة على الصين. إنّ نظام الهيمنة الإمبريالية يحتاج إلى تبرير إيديولوجي، وهذا التبرير يستند إلى فكرة الاستثنائية الأميركية، وهي لا تختلف عن الاستثنائية «اليهودية». الاستثنائية الأميركية تشكلت في سياق «تفوق» المستعمر الأبيض على السكان الأصليين لما كان يملكه من أسلحة سمحت له بإبادة عشرات الملايين منهم، وبإنشاء حضارة تكمن جذورها في العنف والابادة وإراقة الدماء، ونجح هذا المستعمر في تحقيق التراكم الأولي لرأس المال باستغلال الملايين من السود المنقولين بالقوة من شواطئ إفريقيا إلى العالم الجديد. بالمقابل، فإن الحركة الصهيونية استغلت الخصوصية اليهودية واستفادت من محارق النازيين لدفع اليهود للانتقال إلى فلسطين. هذا التشابه في جذور التفوق شكّل الأساس الإيديولوجي للتعاون على أرضية اندماج مصالح رأس المال الإمبريالي مع رأس المال المالي المتمركز في أيدي الصهاينة اليهود.

إنّ التظاهرات والتحركات الشعبية الاحتجاجية المتضامنة مع المقاومة ومع نضال الشعب الفلسطيني في بلدان «التحضّر» الغربي هي الرد الشعبي الملائم لفضح السياسات الإمبريالية لهذه الأنظمة ولكسر جدران القمع (المباشر بواسطة الشرطة والناعم بواسطة وسائل الإعلام)، والتي تتنامى بما يساهم في توسيع الهوّة بينها وبين الشارع. وبالرغم من ضعف الأحزاب اليسارية في هذه البلدان، إلا أنها تشهد وجود أطر نقابية وأخرى متعددة تتصدى لقضايا معينة مثل «حياة السود مهمة» أو أطر الدفاع عن السكان الأصليين، أو حماية البيئة… الخ، وهي أطر تواجه السياسات الإمبريالية في ميادين مختلفة، ما يجعلها موضوعياً في خندق واحد مع التحركات التضامنية مع كوبا، أو فنزويلا، أو هاييتي، أو فلسطين، ما يفترض العمل لكي تنسّق في ما بينها لمحاصرة هذه السياسات وفرض خيارات بديلة من التغوّل النيوليبرالي الداخلي ومن سياسة العسكرة وتأجيج الحروب، ما يضع البشرية على شفير الفناء.

ويأمّا على صعيد بلدان الغرب الإمبريالي، فإن سلوك الأحزاب الحاكمة والمروحة الواسعة من النخب السياسية (والأكاديمية ووسائل الإعلام) تجاه المواجهة في فلسطين ومع محور المقاومة يتطابق مع تعاطيهم في المواجهة مع روسيا، وفي حملاتهم المستمرة على الصين. إنّ نظام الهيمنة الإمبريالية يحتاج إلى تبرير إيديولوجي، وهذا التبرير يستند إلى فكرة الاستثنائية الأميركية، وهي لا تختلف عن الاستثنائية «اليهودية». الاستثنائية الأميركية تشكلت في سياق «تفوق» المستعمر الأبيض على السكان الأصليين لما كان يملكه من أسلحة سمحت له بإبادة عشرات الملايين منهم، وبإنشاء حضارة تكمن جذورها في العنف والابادة وإراقة الدماء، ونجح هذا المستعمر في تحقيق التراكم الأولي لرأس المال باستغلال الملايين من السود المنقولين بالقوة من شواطئ إفريقيا إلى العالم الجديد. بالمقابل، فإن الحركة الصهيونية استغلت الخصوصية اليهودية واستفادت من محارق النازيين لدفع اليهود للانتقال إلى فلسطين. هذا التشابه في جذور التفوق شكّل الأساس الإيديولوجي للتعاون على أرضية اندماج مصالح رأس المال الإمبريالي مع رأس المال المالي المتمركز في أيدي الصهاينة اليهود.نبغي التوقف هنا عند حقيقة أن المواجهة الروسية الصينية مع بلدان الإمبريالية بدأت تؤسس لعالم جديد في ظل تسرب الضعف إلى شرايين الأخطبوط الإمبريالي، ما خلق الظروف لتمايزات في سلوك الكثير من البلدان التي تحاول التفلّت ولو جزئياً من السطوة الأميركية في سبيل تعزيز مصالحها (كمثال، عدم رضوخ السعودية للأميركيين بزيادة ضخ النفط لمحاصرة روسيا، وإعلان مصر عن رغبتها في الانضمام إلى مجموعة «البريكس»).

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري