قرار إيران صعبٌ ومعقّد…

إيران تدرك المخاطر، وفي الوقت ذاته فإن كرامتها وهيبتها ترغمها على الرّد بعد اغتيال هنيّة على أرضها، فلهذه الجريمة أبعاد دينية تصل إلى الحسين بن علي عليه السّلام ومظلوميته، وترى بالغدر الذي تعرّض له هنية امتحانًا لمصداقيتها العقائدية.

منذ بدأت باستئناف مشروعها النوّوي، وإيران تدير مفاوضاتها مع أميركا والغرب بنجاح نسبي، ولم تَضع نفسها تحت مطرقة الولايات المتحدة وحلفائها مباشرة، بل تعاملت بحنكة في جميع مراحل المفاوضات، بل ودعّمت موقفها من السّلاح النووي بفتوى من المرشد الأعلى، علي خامئني، بتحريم أسلحة الدمار الشّامل، وسمحت للمراقبين الدوليين من الطاقة الذرية بالتفتيش في منشآتها النووية.

حتى بعد ردّها اغتيال قادة من الحرس الثوري، في إيران وفي سورية ولبنان، وبعد عمليات تخريب تقف وراءها إسرائيل، ردّت بطريقة متوازنة ومدروسة جيّدا، ولم تفتح الطريق إلى التّدهور نحو حرب شاملة.

هذا ما يفهمه الجانب الإسرائيلي جيّدا ويستغلّه، ويحاول بمثابرة استفزاز إيران، من خلال الاغتيالات والتّخريب، فإذا لم تردّ إيران، اعتبر هذا ضعفًا منها وعجزًا، وفي الوقت ذاته مكسبًا إضافيًا لإسرائيل وجهازها الأمني ولقوّة ردعها وهيبتها، أما إذا ردّت إيران بتوسّع، فإنها تجازف بإشعال حرب شاملة، وهذا يعني توريطها في مواجهة أميركا وحلفائها، وهذا منى إسرائيل.

التحريض على إيران وعلى مشروعها النووي لم يتوقّف، والحُجّة عليها بأنّها تقود ما تسميه إسرائيل محور الشّر، وتقدم الدّعم المادي والعسكري للتنظيمات “الإرهابية”، وعلى رأسها حزب الله اللبناني الذي بات أحد أهم مصادر قلق إسرائيل، وتحديدًا منذ العام 2006، وإثباته قدرةً على المناورة والرّد على الاعتداءات، وقد خلق معادلة جديدة، “إذا ضَربْتني أضربك”، هذه المعادلة أيضًا لا تروق لإسرائيل، وتحاول كسرها من خلال تجفيف مصدر الدعم الأول لحزب الله، إيران.

قبل أقل من شهر، أعلن وزير خارجية أميركا، بلينكن، أن إيران تبتعد بضعة أسابيع فقط عن إنتاج قنبلة نوويّة، وهذا ادعاء ليس جديدًا، فهناك آراء من الغرب ومن الشّرق سبقته في هذا، بعضُها يرجّح قدرة إيران على إنتاج خمس قنابل نووية خلال بضعة أسابيع في حال اتّخذت قرارًا بهذا، وذلك لأن مواد إنتاجها من اليورانيوم المخصّب باتت متوفّرة.

بعد اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران، الذي يعتبر اعتداء على سيادتها، وإهانة حارقة لها ولنظامها الأمني والعقائدي، بات الجميع في حالة انتظار الردّ الإيراني، وذلك بعد إعلان عدد من المسؤولين السّياسيين والعسكريين في إيران بأنّ الرّد آتٍ ولا بدّ منه، وبأنه سيكون موجعًا، ولكنهم ينوّهون بعدم رغبتهم في حرب شاملة، ومن هنا يأتي السؤال عن حجم هذا الرّد!

من ناحيتها، أعلنت إسرائيل على لسان وزير حربها، بأنّها ستردُّ بقوةٍ غير مسبوقة على أيّ هجوم إيراني، بل ويجري الحديث عن دراسة هجمة استباقية، وأرسلت أميركا مزيدًا من قواتها إلى المنطقة، بهدف حثِّ إيران على أن يكون ردّها خفيفًا ورمزيًا لا يؤدّي إلى حرب شاملة.

كل المؤشرات تؤكّد أنّ هجومًا إيرانيًا واسعًا على إسرائيل، يعني ردّ فعل واسع من إسرائيل وأميركا وحلفائها، وسوف يتدهور الاشتباك إلى مواجهة واسعة، وهو ما لا تريده إيران، فهي تدير صراعها مع إسرائيل والغرب منذ عقود على نارٍ هادئة، وتَعتبر قدرات حزب الله اللبناني من أهم إنجازاتها، كذلك فإن بعض إنجازات المقاومة الفلسطينية مرتبطٌ بدعمها.

بإمكان إيران أن تسبّب أضرارًا كبيرة لإسرائيل وللملاحة الدولية والاقتصاد العالمي، وتستطيع ضرب قواعد أميركية في المنطقة، وتسبب لها خسائر، ولكن ساستها يدركون أن حربًا واسعة في مواجهة الحلف الأميركي تعني تلبية حلم نتنياهو، وعدم التنبؤ إلى أين ممكن أن تصل، وقد تؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير قدرات إيران العسكرية والاقتصادية كما حدث للعراق، وهو ما وعد وتعهّد ولوّح بفعله نتنياهو أكثر من مرّة، فقد أعلن مرارًا بأنّه لن يسمح لإيران بأن تُنتج قنبلة نووية طالما أنّه رئيس للحكومة، ولو كان هذا من خلال هجوم إسرائيل لوحدها على إيران، فما بالك الآن والحلف ضد إيران بات جاهزًا.

يرى نتنياهو بإنتاج إيران لقنبلة نووية، وبقائها في قوتها الحالية، تهديدًا إستراتيجيًا لإسرائيل.

نتنياهو يعتقد أنّه بدهائه قادر على جرّ إيران إلى مواجهة عسكرية مع أميركا والغرب وبعض العرب، والتّخلص من هذا الكابوس الذي يراه عائقًا أخيرًا لإحكام سيطرة إسرائيل على ما يجري في المنطقة، وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، وإنهاء قضية الفلسطينيين إلى الأبد.

إيران تدرك المخاطر، وفي الوقت ذاته فإن كرامتها وهيبتها ترغمها على الرّد بعد اغتيال هنيّة على أرضها، فلهذه الجريمة أبعاد دينية تصل إلى الحسين بن علي عليه السّلام ومظلوميته، وترتبط بحماية المظلوم ومناصرته، ومن هنا ترى بالغدر الذي تعرّض له هنيّة على أرضها، امتحانًا لمصداقيتها العقائدية، ولعمق الإيمان، وبالذات أنّه من أبناء السُّنة الذي اغتيل خلال استضافتها له، لهذا فإنّ القرار في إيران حول حجم الرّد لن يكون سهلاً.

من جهته، رغم دعمه المطلق لإسرائيل، فإن بايدن غير معني بمواجهة شاملة مع إيران، لأنه سيكون لها إسقاطاتها على المنطقة كلها، ويحاول ويضغط لتحقيق صفقة تبادل ووقف إطلاق للنار ولو لبضعة أسابيع، لأنّه يدرك مقاصد نتنياهو جيّدًا، ويرى أنَّ صفقة ستوقف الرّد الإيراني أو على الأقل تقلّصه وتبرّده، لأن الصّفقة تعني توقف المواجهة على الجبهة اللبنانية واليمنية وليس الفلسطينية فقط، أي أنّها ستشمل كل الجبهات.

ولتشجيع الصفقة، أميركا تُطمئن إسرائيل بأنّها ستكون إلى جانبها لحمايتها في كل الأحوال، وهذا يتمثّل بالموافقة على استئناف تزويدها بكل ما تريد من سلاح وذخائر ثقيلة كانت قد تأخرّت، ومن خلال إرسال بوارجها وأساطيلها إلى المنطقة لمواجهة أي هجمات على إسرائيل ولطمأنتها، وفي الوقت ذاته تضغط لعقد الصّفقة التي يعرقلها نتنياهو بكل ما أوتي من صلفٍ وتكبّر، بينما تراها أميركا ضرورة ملحّة لمصالحها ولعلاقاتها مع حلفائها العرب في المنطقة الذين صاروا يبدون أقزامًا تافهين عاجزين أمام بجاحة وصلافة نتنياهو. وفي كل الحالات، القرار بحجم الرّد وتوقيته في إيران لن يكون سهلاً، لأنه معقدٌ جدًا ومصيري.