معتصم حمادة: السقوط الأخلاقي

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

■ من النتائج الإيجابية التي أسفرت عن معركة طوفان الأقصى، وحرب 7/10/2023، أنها أعادت للسياسة بُعدها الأخلاقي، وأسقطت القناع عن الكثير من وجوه الكثير من العواصم والشخصيات، والقوى، والأحزاب الغربية والعربية الشقيقة، ودول ترتبط بالشعب الفلسطيني برابط الدين.

لقد ادعى رئيس حكومة الفاشية، بنيامين نتنياهو، أن الحرب الدائر رحاها الآن، في قطاع غزة، والضفة الغربية، أنها حرب بين محور الخير ومحور الشر، في استعارة فجة لعبارة أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الإبن، حيث حاول أن يبرر حروبه ضد العراق، سوريا، وتهديدات إيران، بأنها حرب بين محور الخير الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، ومحو الشر الذي يمتلكه أعداء واشنطن وخصومها. وبالتالي فإن مقاييس نتنياهو ومعاييره للتمييز بين الخير والشر، هي المقاييس والمعايير الإستعمارية الغربية التي تخدم في السياق مصالح النزاع الصهيوني الإستعماري الوحشي والدموي، الذي يتوسل الإبادة الجماعية، والتمييز العنصري، والتطهير العرقي وسيلة للوصول إلى أهدافه العسكرية في الإستيلاء على كامل فلسطين، وتقويض المشروع الوطني الفلسطيني.

■■■

سقط القناع عن العواصم الغربية الإستعمارية، من واشنطن، إلى أوروبا، حيث انساقت مع دولة الاحتلال، في تزوير الوقائع، وكانت القضية الفلسطينية بدأت يوم 7/10/2023، في مناورة مكشوفة باعتبار ما جرى عدواناً فلسطينياً على إسرائيل، متعامية عن عشرات السنوات من الاحتلال والصراع، وأعمال التنكيل الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني، وتشريد أبنائه خارج بلادهم.

كما تساوقت هذه العواصم مع الادعاء الإسرائيلي أن حرب 7/10 تندرج في إطار الدفاع عن النفس، في تزوي فاقع للقانون الدولي، الذي يعتبر إسرائيل دولة احتلال، وان الاحتلال الصهيوني هو في حد ذاته عمل عدواني، لا يندرج إطلاقاً في إطار الدفاع عن النفس، وأن مقاومة الشعب الفلسطيني هي، في الحقيقة، الحق المشروع للشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه.

كما انضمت هذه العواصم في الحرب ضد الشعب الفلسطيني، بتزويد اسرائيل بكل ما تحتاجه من أسلحة وذخائر وعتاد ودعم وإسناد سياسي في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وفي محكمة العدالة الدولية، والجنائية الدولية، أو في سن القوانين ضد شعبها، كما في فرنسا، محرم عليها استعمال عبارة مقاومة، أو حماس، واعتبار ذلك، معاداة للسامية، وتأييداً للإرهاب الفلسطيني.

تهاوت في فرنسا، شعارات الثورة الفرنسية التي أضاءت على العالم ومتضامنة، في الوقت نفسه عن مواقف وقرارات محكمة العدل الدولي، التي وصفت الحرب الإسرائيلية بأنها إبادة جماعية، والجنائية الدولية التي باشرت التحرك لتوصل التهمة إلى القيادتين الإسرائيليتين، السياسية والعسكرية، بارتكاب جرائم حرب.

بل لم تكتف عواصم الغرب، بمواجهة المحكمتين الدوليتين دفاعاً عن نتنياهو وغالانت بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، في قولها انها وافقت على تشكيل هاتين المحكمتين، ليس لمحاكمة أصدقاء الغرب، في أوروبا والولايات المتحدة، كحكام إسرائيل بل من وصفتهم هذه العواصم بالدكتاتوريين في أفريقيا، وآسيا، في اعتراف شديد الوقاحة، إلى قناعاتهم الإستعمارية العنصرية، ونظرتهم الدونية إلى شعوب الأرض، التي ذاقت الأمريٍّن في زمن الإستعمار الغربي وقدمت تضحيات كبرى لاستعادة حرياتها وبناء دولتها المستقلة.

قد حاولت عواصم الاستعمار الغربي الاحتيال على الحقيقة، واستغباء عقول البشر، ففي حين لم تتردد لحظة واحدة في دعم الجيش الإسرائيلي بكل ما يحتاجه من معدات عسكرية، وتجنيد المرتزقة، من بلادها لدعمه في الميدان (في مواجهة بضعة آلاف من المقاتلين المدنيين) حاولت أن تبرز وجهها الإنساني في تقديم المساعدات الغذائية لشعب القطاع على المحاصر بالنيران، وبالحصار العسكري دون أن تحمل هذه العواصم نفسها من الضغط على إسرائيل لوقف قصفها للمدنيين خاصة مراكز النزوح والمناطق التي أعلنتها إسرائيل مناطق آمنة، وأغلقت المعابر، لإدخال المساعدات المقدمة بآلاف الأطنان على معبر رفح، والتي بدأت تصاب بالتلف.

ولم تقف هذه العواصم عند حدود هذه الجرائم بحق الشعب الفلسطيني بل ذهبت إلى حدود التعاون مع نتنياهو في دعوته إلى فرض انتداب (استعمار) غربي + عربي، على قطاع غزة بعد وقف الحرب لإعادة صياغة خريطته السكانية عبر تشجيع الشباب والفئات على الهجرة، وإعادة وتأهيل السكان، للتعايش مع أهداف المشروع الصهيوني، أي القبول بالعيش في معسكرات احتلال، يتوفر لسكانها الطعام والشراب، شرط أن تبقى راية الاستسلام مرفوعة. إن مثل هذا التساوق يقوم على إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وفقاً للشرعية الدولية، وإقامة دولته المستقلة وعودة أبنائه اللاجئين إلى ديارهم التي هُجروا منها. إن مثل هذا التساوق يبين إلى أي حد تتبنى عواصم الغرب الإستعماري المشروع الصهيوني، ويظهر نفاقها عند حديثها عن حل الدولتين المزعوم، بحيث يكون للفلسطينيين دولتهم التي تلائم تخلفهم، ولا ترقى بأي حال إلى مفهوم الدولة العصرية التي كان يتباهى الغرب انه كان السباق إلى بنائها.

■■■

يبقى السؤال التالي: إذا كانت أنظمة الاستعمار الغربي، تمتلك هذه السياسات المناقضة للقوانين الدولية، ولمعايير حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، وإذا كانت في الوقت نفسه تناقض في سلوكها شعاراتها المزيفة، والمعايير التي تحاول أن تفرضها على الآخرين، وتلتزم بها.

إذا كانت جرائم الاستعمار الغربي تسلك هذا السلوك، وتتبع هذه السياسات دفاعاً عن مصالحها الاستعمارية، خاصة وأن الاستعمار لم يختف في العالم بل تغيرت أساليبه، وأشكاله ووسائله، فما الذي يدفع الآخرين من عواصم عربية، وآسيوية، وأفريقية، وأميركية لاتينية، للإنضواء تحت سطوة الاستعمار الغربي، والسير فيما يخدم مصالحه، وتناقض مصالح شعوبها، وسيادتها الوطنية؟ مثل هذا السؤال يسهل الإجابة عليه بالقول، إن النخب السياسية والطغمة الحاكمة في العديد من عواصم العرب، انفصلت مصالحها الطبقية، والفئوية، عن مصالح شعوبها، وباتت ترى في شعوبها الخطر المحدق على مصالحها، لذلك جيرت طاعتها في خدمة الغرب باعتباره ضامناً لأنظمتها، وحامياً لها ضد أي خطر يهدد أنظمتها ومؤسساتها الحاكمة. ولنا في أحداث المنطقة، منذ مطلع العام 2000 حتى الآن، العديد من الأمثلة، التي لا تحتاج إلى تذكير، حتى بتنا أمام منظومة عربية ممزقة، فقدت وزنها في الحسابات الإقليمية، إما لإنشغال أنظمتها بالقضايا الداخلية المأزومة، اقتصادياً وسياسياً ومؤسساتياً، وإما لانسياقها وراء السياسات الغربية، والدخول في أحلاف سياسية وأمنية وعسكرية مع إسرائيل والولايات المتحدة، فتحول ميثاق جامعة الدول العربية إلى مجرد ورقة، لا تلزم في فقراتها أحداً، وباتت مؤسسات جامعة الدول العربية، ومجالسها المختلفة، مجرد اجتماعات لدمى، لا تتلقى أوامرها، إلا من خارج حدود الوطن. فلا الأمن الغذائي العربي بات من الأمور التي تشغل البال، ولا حتى المصالح الأمنية المشتركة، كدول مستقلة باتت على جدول الأعمال، حلت محلها التزامات أمنية أمام «أبرهام » وحلفه، وأمام المبعوثين الأميركيين وما يحملون في حقيبتهم من تعليمات.

■■■

وإذا انتقلنا إلى قراءة بعض الخصوصيات، كالخصوصية الفلسطينية، سنلاحظ أن الأمر هناك أكثر اهتراء من أيّة حالة عربية. فالحالات العربية تمثل أنظمة ومؤسسات وتسود على شعب يمتلك أرضاً، وذات كيانية مستقلة، طبقاً للتعريف الدولي. أما الحالة الفلسطينية فهي مازالت في مرحلة التحرر الوطني من الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، ومن أهم شروط تماسك حركات التحرر الوطني هي وحدتها المؤسساتية والسياسية والإلتحام بينها وبين شعبها، ومعظم هذا مفقود في الحالة الفلسطينية. فأصحاب القرار في السلطة الفلسطينية يعيشون حالة إنكار للواقع، كما يعمدون إلى تزييفه، ليبرروا حالة الإنكار التي يعيشونها. فهم يؤكدون على شرعية القيادة وكأن هناك إحساساً بأن الشرعية لا تستند على قاعدة صلبة، خاصة بعد أن لجأت القيادة الشرعية (التي لا نشكك في شرعيتها) إلى حل كل ما من شأنه تعزيز هذه الشرعية ومدها بعناصر القوة والثبات، فحلت مؤسسات الشرعية كالمجلس التشريعي، وعطلت الانتخابات العامة، بقرار منفرد وعطلت المجلس المركزي، وأفرغت اللجنة التنفيذية من مضمونها، وقد تحولت إلى هيئة، تعمل في مختبرها السياسي لتحويل الحديد إلى ذهب. ثم تعمد الشرعية إلى إعادة تقييم الواقع خلافاً لما هو عليه، فتتحدث عن بسط السيادة على كل أراضي الدولة الفلسطينية، في الوقت الذي صادرت فيه دولة الاحتلال معظم هذه الأراضي وحاصرت السلطة في مربعات سكانية داخل رام الله (ولا نقول المنطقة “أ” التي فقدت خصوصيتها).

 

وتتحدث عن دور السلطة، و(الوزارات) في الوقت الذي تشكو فيه الوزارات، أو معظمها، من البطالة السياسية ولا تمتلك ما تخطط له أو تعمل على إنجازاه، لافتقارها إلى حرية التحرك في الضفة الغربية وخلو الخزينة من المال العام، واستشراء الفساد والرشوة، في دوائرها.

 

ولا تكتفي السلطة في الوقوف على الحياد، بين المقاومة الشعبية، في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، بل تعمل على شيطنة هذه المقاومة، بنزع عنها صفة الوطنية الفلسطينية، والادعاء أنها امتداد للنفوذ الإيراني في المنطقة، وتنزع منها مشروعها الوطني، وتدعي أنها تخدم مشاريع وأجندات خارجية، في وقت تتجاهل فيه هذه السلطة أن برنامجها السياسي في كافة عناصره معلق على العامل الخارجي(إسرائيل والولايات المتحدة، والأمم المتحدة) بعد أن فقدت هذه السلطة الإرادة للمواجهة الميدانية الحقيقية وقد تحولت من حركة تحرر ذات أهداف سياسية ونضالية ترقى إلى المستوى الوطني العام، إلى مجرد سلطة ذات مصالح سلطوية، تفبرك لنفسها خطاباً سياسياً يغطي على مصالحها الفئوية، و يروج لمشاريع حلول وأساليب تحرك سياسي وهمية، كالادعاء بالمقاومة السلمية. وتحمل المقاومة الميدانية (وليس إسرائيل) مسؤولية السياسات الإرهابية والدموية، لدولة الاحتلال، كالقول إن 7 أكتوبر، طوفان الأقصى هو الذي أدى إلى ما أدى إليه في القطاع، كما في الضفة، في تجاهل تام، وفي محاولة للتعمية ليس على سياسات السلطة نفسها بكل ما فيها من اهتراء، بل وحتى للتعمية على سياسات الاحتلال، و أعماله اليومية، متجاهلة أنه قبل 7 أكتوبر، كانت الضفة الغربية، تنهش على يد المستوطنين، والاحتلال، ومتجاهلة أن مسار العقبة، شرم الشيخ، الذي سبق 7 أكتوبر شكّل غطاءً سياسياً لكل أعمال القتل والذبح والحرق الإسرائيلية ومصادرة الأراضي وإتلاف الزرع وتدمير المنشآت، ومتجاهلة في الوقت نفسه (أي السلطة) أنها تقف مكتوفة الأيدي أمام كل هذا، اقصى ما كانت تقوم به، إصدار بيان هزيل يدعو المجتمع الدولي إلى التدخل في الوقت الذي كانت هي نفسها تضرب عن التدخل صوناً لمصالحها.

إنه السقوط الأخلاقي للغرب الاستعماري، ولكل الذين علقوا مصالحهم على مصالح الغرب وباتوا جزءاً من منظومته السياسية عالميا.ً■