فن وثقافةفلسطيني

حوار مع محمود شقير لجريدة القدس أجراه توفيق العيسى بمناسبة حصوله على جائزة فلسطين العالمية للآداب

المسار : القاص والروائي محمود شقير: الجائزة أضافت أبعادا جديدة في تأييد الكفاح الفلسطيني

المجازر في غزة تتطلب أدبا يرقى إلى فداحة المعاناة والدم المراق ، وكثيرًا مما لم أكتبه ما زال ينتظر أن أكتبه

أجرى الحوار: توفيق العيسى_ سيبقى على قيد الأمل، وفي فمه ماء وكتابات ما زالت تنتظر أن تكتب، على الرغم من ذلك الزمن الممتد من أقصى الطفولة حتى سنوات النضال والرفاق والكتابة والحلم، إنه “زمن محمود شقير” كما كتب عنه أحد المبدعين من أصدقائه، في هذا اللقاء ولمناسبة حصوله على جائزة فلسطين العالمية للآداب، نستعرض مع الروائي والقاص المناضل محمود شقير مراحل من حياته وكتاباته وآراءه، زرؤيته للمشهد الفلسطيني باتساعه وتنوعه “كغارنيكا” ملحمية للشعب والقضية والوطن.

 _ ليست هذه الجائزة الأولى التي يحصل عليها الأديب محمود شقير لكن في ظل الظرف السياسي الحالي واعلان دول اعترافها بدولة فلسطين والتضامن العالمي كيف تقرأ حصولك على الجائزة؟

* أقرأ حصولي على الجائزة ضمن التوصيف الذي ورد في سؤالك، ذلك أن المؤسسة التي تمنح الجائزة أخذت على عاتقها منذ لحظة الإعلان عن تأسيسها عام 2019 الترويج للأدب الفلسطيني في العالم، وذلك لتحفيز أوسع قدر من التأييد للقضية العادلة للشعب الفلسطيني، ولتعريف شعوب العالم بعدالة هذه القضية التي شوهتها الدعاية الصهيونية بادعاءات كاذبة.

لذلك يجيء حصولي على الجائزة في لحظة مناسبة تمامًا، ففي ظل اعتراف دول تتزايد يومًا بعد آخر بدولة فلسطين، وفي ظل هذا التضامن العالمي الكثيف مع الشعب الفلسطيني تأتي هذه الجائزة لتضيف بعدًا آخر متمثلًا في الأدب الفلسطيني الإنساني التقدمي إلى أبعاد هذا التضامن وهذا التأييد لكفاح الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال.

_ في ظل ما يحدث اذا نظرنا له ” كغرانيكا”  متعددة تجمع بين المقاومة والمجزرة وبين الايقونة والانسان، العادي واليومي في مرحلة الابادة الجماعية او محاولة ذلك، هل علينا ان نكتب بشكل مختلف كما يقال عادة في ازمات الشعوب؟

* أظن بل أجزم أن المجازر التي تحدث في قطاع غزة وتطال ألاف الأطفال والنساء والشيوخ من أبناء شعبنا وبناته تفرض نفسها على المبدعين والمبدعات، وتتطلب أدبًا يرقى إلى فداحة المعاناة، وفنًّا يوازي قيمة الدم المراق.

وكنت تحدثت في حوار سابق عن طبيعة النتاج الأدبي المرتقب وما هي سماته في هذه المرحلة التي نعيشها الآن، وقلت: إن المطلوب من الأدباء والمبدعين في هذه المرحلة السموّ بخيالهم إلى حد يستطيع الإحاطة بحجم المأساة التي تحدث الآن تحت نظر العالم ومنظماته الدولية من دون التحرك لوقف الذبح والقتل والتجويع، وإلى أن يستطيع خيال المبدعين الإحاطة بحجم هذه المأساة الممتدة فسوف تظهر كتابات من نوع اليوميات والسير والكتابات التوثيقية التي تسجل كل صغيرة وكبيرة من وقائع المأساة وما يتخللها من مجازر وقتل وتدمير.

ولن نعدم ظهور أدباء ذوي مقدرة إبداعية وخيال محلق لكي يكتبوا روايات وقصصًا ترقى إلى مستوى ما يحدث الآن، أما الشعر فإن لديه القدرة على مواكبة المرحلة بالنظر إلى طبيعته الانفعالية الخاصة التي لا تحتاج إلى فترة اختمار، وقد قرأت نماذج شعرية لافتة معبرة عما يجري في قطاع غزة للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله ولغيره من الشاعرات والشعراء. 

_ لمحمود شقير مساهمات واضحة وبالغة الأثر في الادب الفلسطيني من خلال القصة القصيرة التي كانت المجال الأكثر حظوة لديك الى الرواية والقصة القصيرة جدا، ولا ننسى مساهماتك الاولى في السيناريو التلفزيوني، هل استطاع شقير ان يقول كل ما لديه؟

* أظن أن كثيرًا مما لم أكتبه ما زال ينتظر أن أكتبه. أقصد أنه كلما طالت معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال ومن القتل والتهجير والتجويع كما يحدث الآن في قطاع غزة، تأكّدت حاجتي إلى التعبير عن مشاعري تجاه ما يحدث عبر الكتابة.

وأظن أنني سأواصل الكتابة في حال تمكن الشعب الفلسطيني من الظفر بحريته بدعم من شعوب العالم، والأمر كله مرهون بانهماكي في معايشة الشؤون العامة التي تتداخل مع مشاعري الخاصة لتنتج هذا الأدب المعبر عني وعن شعبي في الوقت ذاته.

_ التجربة النضالية لمحمود شقير غنية وحياتية ونستطيع القول انها اكثر من كونها مجرد تجربة، هل استطاع الكاتب ان يجسد تلك الحياة في ادبه بكل تفاصيلها ؟

* نعم، أوردت كثيرًا من هذه التفاصيل عبر عدد من كتبي. بدأت ذلك في كتابي “ظل آخر للمدينة” وهو سيرة لبعض جوانب مدينة القدس كما عشتها وعايشتها، ولبعض جوانب من سيرتي في الحياة وفي المعتقلات الإسرائيلية.

واستمر ذلك في كتابي “مرايا الغياب” الذي تحدثت فيه عن اثنين من قادة حزب الشعب الفلسطيني وعن علاقتي الحزبية بهما وهما بشير البرغوثي الأمين  العام للحزب وسليمان النجاب عضو المكتب السياسي للحزب، ممثل الحزب في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

كذلك، وردت تفاصيل أخرى من تجربتي في العمل الحزبي والسياسي في كتابيّ السيرة: “تلك الأمكنة” و “تلك الأزمنة”. وفي بعض قصصي القصيرة والقصيرة جدًّا.

_كأدب من جهة ووثيقة تاريخية من جهة اخرى هل يمكن ان تكون كتابة التجربة ام ان طرفا سيطغى على الآخر؟

* حين يجري تناول التجربة في عمل إبداعي، في الرواية على سبيل المثال، فإن الروائي سيبتعد ما أمكن عن التوثيق الذي يتطلب مباشرة لا بد منها لذكر الوقائع وتسجيلها، ولا بدّ من اللجوء إلى الخيال الذي لا بدّ منه لأي نص إبداعي ناجح.

أما حين يجري تناول التجربة في السيرة الذاتية أو السيرة الغيرية أو في الشهادات، فالتركيز ينصب في المقام الأول على تسجيل الوقائع بعيدًا من الخيال الذي لا ينبغي أن يكون له حضور، إنما يمكن الاستفادة من بعض تقنيات السرد الروائي أثناء تقديم المادة الوثائقية لكي تحقق نوعًا من التشويق للمتلقي الذي يتابع هذا النوع من الكتابة.

وفي المحصلة، فإن العمل الأدبي الذي يتناول تجربة ما على نحو إبداعي كما هي الحال في الرواية، سيصبح بعد زمن وثيقة تاريخية بسبب أنه يعطينا وصفًا لمرحلة تاريخية معينة.

 _ كيف يمكن لكاتب مجتهد تماما كشقير ان يعيش تلك الخياة الزاخرة بالأحداث من التجربة الحزبية للحزب الشيوعي وحتى الجبهة الوطنية والنضال الوطني والاجتماعي معا دون ان يؤطر ادبه او يؤدلجه بمعنى الوقوع في المباشرة؟

* الصحيح أنني وقعت في المباشرة التي تتحدث عنها في سؤالك في بعض نصوصي القصصية، وفي بعض المسلسلات التي كتبتها للتليفزيون، ثم انتبهت في وقت لاحق إلى خطر المباشرة والأدلجة على الجودة الفنية للعمل الأدبي، فأقلعت عن ذلك، وصارت نتاجاتي الأدبية متحررة من سطوة الإيديولوجيا من دون أن أتخلى عن قناعاتي الراسخة، إنما من دون تعصب أو انحياز أعمى أو ضيق أفق.

وبالطبع، لا بد للعمل الأدبي من فكرة تهبه قدرته على  التأثير وعلى البقاء، بشرط ألا تطفو الفكرة على سطح العمل فتفسده ولا يتحقق المراد.

_ لشقير انتقادات لمرحلة ادب الواقعية الاشتراكية، قبل سنوات، الا أن هذا النقد لم يمنعك من مواصلة انتمائك الحزبي فكيف يمكن الموازنة بين المسألتين؟

* النقد على أرضية الانتماء للواقعية  الاشتراكية ومن داخل القناعة بأفقها الإنساني لا يضير ولا ينتقص من الواقعية الاشتراكية بل يضاعف من حضورها. كنت في زمن ما متأثرًا بالكتاب النقدي الذي أصدره المفكران الماركسيان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس: “في الثقافة المصرية” وفيه نقد صارم لكل كتابة لا تنتصر للطبقة  العاملة، ولا تشير إلى ضرورة التفاؤل بنصرها القادم، وكل كتابة غير ذلك هي كتابة بورجوازية تعمل على تخدير الوعي وحرفه عن المسار المطلوب.

وللعلم، فقد كان في التجربة السوفياتية مفكر اسمه جدانوف له هذه التحديدات القسرية لما ينبغي أن تكون عليه الواقعية الاشتراكية، ما يعني تقييد حرية  المبدع والتدخل في طبيعة إبداعه، وتسطيح التجربة الإبداعية وتحويلها إلى مجرد شعارات فارغة.

وفيما بعد، طوّر محمود أمين العالم، بما عرف عنه من ثقافة واسعة وبعد نظر، نظرته للواقعية الاشتراكية ولما فيها من أبعاد إنسانية تمجّد الإنسان وتعلي من شأن الحياة.

الآن، أدّعي بأنني أكتب نصوصي بعقل منفتح على كل الثقافات والاجتهادات الفكرية والأدبية، ولا أبتعد عن الجوهر الإنساني للواقعية الاشتراكية.

_ أيضا لشقير حياة زاخرة بالشخصيات والأسماء منها النضالية والأدبية  واخرى لم تحظ بالكتابة عنها. هل هذا يفسر كتاباتك حول شخصيات جلها غير معروف لاجيال جديدة؟ وهل هو مشروع لتوثيق تجربة هذه الشخصيات؟

* كنت في فترة سابقة، ربما قبل ثلاث سنوات اقترحت على أحد قادة الحزب الشيوعي الأردني، وهو  الحزب الذي كان لي شرف الانتساب إليه في بداية مشواري مع النشاط الحزبي، أن نتعاون على كتابة مجلد نسجل فيه السير الذاتية للعدد الكبير من الرفيقات والرفاق الذين انتسبوا للحزب وناضلوا في صفوفه سنوات طويلة ثم طواهم الموت، وبالطبع ما كان يمكن إتمام هذا المشروع إلا بتعاون الأهل لتعزيز المعلومات الخاصة بأي رفيق. 

تحمس ذلك الرفيق للمشروع، لكن التنفيذ كما يبدو لم يكن سهلًا، فأخذت على عاتقي الشروع في ذلك بالمقدار الذي أعرفه عن كل رفيقة وعن كل رفيق، وعن كل صديقة أو صديق من تيارات سياسية وطنية تقدمية أخرى، وبقدر من السطور لا ينقص أو يزيد بين رفيق وآخر، أو بين صديق وآخر.

بأمل أن يحفز هذا الجهد التوثيقي رفاقًا آخرين وأصدقاء آخرين على استكمال ما ظل ناقصًا في الجهد الذي أقوم به الآن.

 _ كيف ترى تجربة القصة القصيرة جدا هل اضافت لشقير وللمتلقي؟

* بالنسبة لي، هي تجربة ممتدة ابتدأتها منذ صدور مجموعتي القصصية الأولى “طقوس للمرأة الشقية” عام 1986 وما زالت حاضرة حتى هذه الأيام من خلال السردية القصصية  التي أشتغل عليها الآن، ولها علاقة بما يجري ضد شعبنا في قطاع غزة من قتل وتجويع.

هذه التجربة مرشحة للبقاء والاستمرار والتطور بدليل تناغمها مع الإيقاع السريع لعصرنا، ومع متطلبات مواقع التواصل الاجتماعي التي ترحب بما قل ودل من نصوص إبداعية.

ومع ذلك لا بد من الحذر من النصوص الفجّة غير الناضجة التي تقحم نفسها على ميدان القصة القصيرة جدًّا متوهمة أن كل كتابة متقشفة موجزة يمكن أن تحسب على أنها قصص قصيرة جدًّا، وهذا وهم يلحق الضرر بهذا الجنس الأدبي الذي يتطلب مهارات فنية متمرّسة.

أما بخصوص القراء، لديَّ قناعة بأنهم يُقبلون على قراءة القصة  القصيرة جدًّا باهتمام ومن دون استنكاف.

_ للقدس حكاياتها وهي محورية في حياة شقير وكتاباته ماذا يمكن ان يقال بعد عن القدس؟ واثرها في شخصية شقير؟

* هذه المدينة هي التي شكّلت حياتي وصاغت شخصيتي، وهي المدينة الأولى التي تفتّحت عيناي عليها حينما كنت طفلًا، وهي المدينة التي اقتنيت أول كتاب من مكتباتها، وهي التي شاركت أول مرة في تظاهراتها ضد حلف بغداد في خمسينيات القرن العشرين، وهي التي تعزّز فيها انتمائي الحزبي، وهي التي اعتقلتني أجهزة الأمن الإسرائيلية أول مرة عام 1969 من أجل حبي لها ودفاعي عن عروبتها، وعن مقدساتها الإسلامية والمسيحية.

هي كل شيء في حياتي، وهي التي تظهر دومًا في كتاباتي القصصية والروائية وفي سيرتي الذاتية، وفي الكتابة عن شخصيات وطنية تقدمية كان لها دور ريادي في المدينة.

والقدس تظهر في كتاباتي ليس من باب التقصّد والادعاء، بل من باب الضرورة التي يفرضها منطق العمل الأدبي بوصفها جزءًا من مضمون المادة الأدبية التي أكتبها.

القدس هي حاضنة الروح، وهي التي تنعش قلبي ووجداني وتجعلني متمسكًا بأهداب الحياة مستبشرًا بالمستقبل باستمرار