أهم الاخباربيئة ومناخصحة

التدفئة في غزة بدائل كارثية ضارة فرضتها الحرب وعواقب مؤجلة

المسار : فاطمة زكي أبو حية : الموت بردًا أم اختناقًا أم حرقًا؟.. تحمّل البرد الآن أم الحصول على تدفئة مقابل المشكلات البيئية والصحية لاحقًا؟.. خيارات قاهرة يُفاضل أهل قطاع غزة بينها.

يأتي الشتاء الثاني على القطاع وجلّ أهله في الخيام، خيامٌ في الشوارع وعلى الشاطئ لا تُوفر أدنى حماية من البرد، وفي المقابل لا كهرباء سوى لمن يملك أنظمة طاقة شمسية، وهي غالبًا لا تكفي لتشغيل المدافئ، أما الغاز فهو لم يدخل غزة وشمالها منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وما يصل منه إلى المحافظات الوسطى والجنوبية محدود للغاية، وبالكاد يكفي حاجة الناس للطهو.

وما إن دخل الشتاء، صار الموت بردًا أحد أشكال الشهادة في قطاع غزة، وبسببه استشهد سبعة مواطنين منهم ستة أطفال.
وأمام هذا الواقع، اضطر الناس للقبول بالخطر مقابل تخفيف وطأة البرد، فقد لجأوا لوسائل التدفئة البدائية والخطرة، يشعلون كل ما توفر لديهم من فحم وخشب وبلاستيك ونايلون وأوراق وأي مخلفات قابلة للاشتعال، ما أدى لاندلاع عدة حرائق ووصول عدد من حالات الاختناق للمستشفيات.

بين البرد والخطر

صابرين بهادر، أمٌ لثلاثة أطفال، أعمارهم تراوح بين الأربع والتسع سنوات، تسمع أخبار وفاة الأطفال بردًا فترتعد خوفًا، لكن خوفها من إشعال النار داخل الخيمة أكبر.

ترى أن ضرر التدفئة أكبر من نفعها، تخاف من الاختناق، ومن الحرائق كون خيمتها من النايلون، وكذلك تخشى المُسيّرات وطائرات الاستطلاع التي لا تفارق السماء ليلاً.

استخدمت صابرين كلمة “تجمُّد” عدة مرات في حديثها لـ”آفاق البيئة والتنمية”، فهي الأدق تعبيرًا عن شدة البرد حسب رأيها.
تقول إنها، في الليل، لا تشعل النار إلا لتسخين الطعام والمياه، فتقترب وعائلتها منها، أملاً في الحصول على قليل من الدفء الذي سرعان ما يزول.
وتضيف: “علّمت أبنائي فرك أيديهم لتدفئتها، يختبئون في حضني إن اشتد بهم البرد، في الليل أُلبسهم المزيد من القطع، وأعدّ لهم مشروبات ساخنة إن توفرت، لكني لا أشعل النار أبدًا حرصًا على حياتهم”.

قبل أيام، طلب أبناؤها إشعال النار لشدة شعورهم بالبرد، لكنها أخبرتهم أن الطائرات إن رصدت النار ستستهدفهم، فتراجعوا.
علمًا أن صابرين حامل في شهرها الثاني، ما يزيد شعورها بالبرد وخوفها على نفسها من أمراض الشتاء.
على العكس، جاء رأي مها التتر، تقول لـ “آفاق البيئة والتنمية”: “ندرك مخاطر النار على صحتنا وعلى البيئة من حولنا، لكننا مضطرون لها، البرد شديد بدرجة لا نتحملها”.

وتحاول تقليل الضرر بالاكتفاء بالحطب والفحم دون استخدام مخلفات بلاستيكية وأوراق، علاوة على إشعال النار خارج الخيمة لا داخلها، كما تقول.
وتتابع: “الاكتفاء بالفحم والحطب يزيد التكلفة المادية، ولا يمكننا استخدامهما يوميًا، لذا نشعل النار في الأيام الأشد برودة فقط”.
أما داخل الخيمة، فإن غاز الطهي هو وسيلة التدفئة الوحيدة، والمشهد باختصار: “عندما نعدّ مشروبًا أو نسخن طعامًا، نفعل ذلك في الخيمة، فهذه فرصتنا لتدفئة الهواء فيها”.

وتوضح: “الغاز المتوفر قليل ولا يسد حاجتنا للطهي، ولا يمكن استخدامه بكثرة”.
فيما يقول أكرم عوض: “هذا الشتاء الأول داخل الخيمة، العام الماضي كنا نازحين عند أحد أقربائنا، فواجهنا البرد بالملابس و”البطاطين”، لكن الآن الأمر مختلف تمامًا”.

ويضيف: “لا نملك أي وسائل تدفئة غير إشعال الحطب داخل الخيمة، والنتيجة أن النار أتعبت صدورنا وعيوننا، ورائحتها أزكمت أنوفنا، فضلاً عن الخطر وخوفنا من الحريق”.

وبسبب المتاعب الصحية توقّف عوض وعائلته عن استخدام النار، وعادوا للاكتفاء بالأغطية، مع الاستعانة بكثير من المشروبات الساخنة.
ويصارحنا بالقول: “تأثير إشعال النار على البيئة ليس في حساباتنا، نحن نموت بكل الطرق، هناك أولويات، والدفء أولويتنا”.

آثار آنية ومزمنة

يقول د. عبد الفتاح عبد ربه أستاذ علوم البيئة في الجامعة الإسلامية: “من وسائل التدفئة حاليًا ما كنا نعتمد عليه قبل الحرب مثل الكهرباء لمن يملك أنظمة طاقة شمسية كافية، والغاز للسكان في جنوب القطاع، لكن هاتين الوسيلتين لا تتوفران إلا عند فئة قليلة من الناس”.

ويضيف د. عبد ربه: “لذا فإن الاعتماد الفعلي على وسائل أخرى خطرة، كان بعض يستخدمها سابقًا، ولكن ليس بهذه الكثرة، ففي واقع الخراب والنزوح والبرد الشديد، يلجأ الناس لإشعال ما يتوفر لديهم من خشب وفحم وبلاستيك وأوراق وغير ذلك”.

ويواصل حديثه: “أول مشاكل البيئة الناتجة عن هذه الوسائل تلوث الهواء، خاصة داخل البيوت والأماكن المغلقة، فصعود الغازات الناتجة عن الاحتراق لطبقات الهواء يساهم في المشاكل البيئية العالمية المتصلة بالمناخ”.

ويبّين أن أخطر تلك الوسائل هو البلاستيك، مثل الخراطيم وخزانات المياه التالفة، لأن النفايات البلاستيكية تُنتج كمية كبيرة جدًا من السموم، وعواقبها وخيمة، وغالبًا ما تظهر مستقبلاً.
ويوضح أن خطورة الفحم تكمن في أن احتراقه في الأساس غير كامل، وهذا يُخرج غازات سامة مثل أول أكسيد الكربون السام جدًا، والذي يسبب الاختناق وقد يؤدي للوفاة.

ويشير إلى أن الضرر المباشر على الفرد يكون أقل لو كان إشعال النار في بيئة مفتوحة، فالغازات تخرج للهواء، ويزيد إن كان في بيئة مغلقة أو شبه مغلقة كالبيوت، أما خطر اشتعال الحرائق فهو في الخيام أكبر منه في المباني.
وأما مشكلة قطع الأخشاب، يقول عبد ربه إن غزة أساسًا متصحرّة بطبيعتها، ليس فيها غابات ولا أحراش والمساحات الزراعية فيها محدودة، والحرب قضت على الغطاء النباتي، جراء الأسلحة والتجريف أولاً، ثم بسبب حاجة الناس لأخشابها.

ويذكرّنا أن قطع الأشجار يعني أنها لن تقوم بوظيفتها، فمن وظائفها امتصاص التلوث من البيئة، وإزالتها يعني بقاء التلوث، وهي كذلك تمنع انجراف التربة، وبالتالي غيابها يسبب الانجراف، وهو من أشكال التصحر، إضافة إلى أنها مأوى للغطاء الحيواني، وقطعها يقتل التنوع الحيواني من طيور وحيوانات وكذلك اللافقاريات.
ويلفت إلى شكل آخر من التلوث، “التلوث البصري الناجم عن قطع الأشجار والتجريف وهدم المباني وتدمير البيئة، وهذا تلوث له عواقب نفسية سيلمسها الناس”.

ويحذّر من تبعات الأضرار البيئية الأخطر، حسب وصفه، وهي من شأنها أن تنعكس على صحة الإنسان، موضحاً: “الناس الآن منشغلون بتوفير قوت يومهم، لكنهم لاحقًا سيدركون خطر هذه السلوكيات، حين تنتشر أمراض غير متوقعة، مثل أمراض الجلد والعيون والأذن والسرطان بأنواعه المختلفة”.
ويردف حديثه قائلاً إن أغلب المشكلات البيئية الناتجة عن وسائل التدفئة المستخدمة حاليًا ستظهر لاحقًا، فأي ملوثات لها نتائج آنية، وأخرى مزمنة تنتج عن كثرة التعرض للمسببات.

ويقرّ آسفًا أن الناس مضطرون لوسائل التدفئة، سواء أدركوا خطورتها أم لم يدركوها، بسبب البرد القارس، خاصة في الخيام، لأن البديل قد يكون الموت بردًا.
ويرصد عبد ربه بعض المَشاهد في الحرب: “رأيت أشخاصًا يشعلون النار باستخدام الأحذية والمنتجات الجلدية والبلاستيكية لطهي الطعام، واشتريت من باعة يقلون الفلافل بنارٍ وقودها البلاستيك، لكن لا يمكنني الاعتراض بحكم تخصصي البيئي، فلا بدائل تسد حاجتهم، خاصة أن البلاستيك يزيد قوة الاشتعال ومدته، وهذا ما يهم الناس الآن، لا يفكرون في الصحة ولا البيئة”.

ويحكي بمرارة: “لطالما حذّرنا من تضرر البيئة في الحروب السابقة، وهي لم تكن شيئًا مقارنة بهذه الحرب، إلا أن الواقع الذي نعيشه لم يعشه أحد”.
ويؤكد عبد ربه أن قطاع غزة رغم صغر مساحته، إلا أنه يساهم، ولو بجزء يسير، في المشاكل البيئية العالمية، فالملوثات المنبعثة منه تفوق الحجم الجغرافي للمنطقة في خضم الحرب المندلعة، كما أن التلوث البيئي لا يعرف حدودًا”.

أمر واقع
من جانبه، يقول الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل إن الحصول على وسائل تدفئة جزء من واقع شديد الصعوبة نعيشه، فالحصول على كهرباء وغاز ليس أمرًا سهلاً، بل شبه مستحيل غالبًا.

وحسب كلامه، يحاول الناس توفير تدفئة بأي طريقة، خاصة في الخيام التي لا تقي سكانها برد الشتاء، والبدائل المتاحة حاليًا خطرة، مؤكداً أن خطورة إشعال النيران تزيد في الأماكن المغلقة، حيث تزيد احتمالات الاختناق.
ويعقّب بقوله: “التدفئة من الأساسيات التي يحتاجها الإنسان، حتى لو كانت بطرق غير آمنة، ما جعل إشعال النيران أمرًا واقعًا لا مفر منه”.
ويشدد في حديثه على هذه الحقيقة: “أمامنا بدائل كارثية من حيث تأثيرها على صحة الإنسان، وما تنتجه من غازات سامة، وخطورتها تصل لحد إزهاق الأرواح، والمفارقة أنه حتى هذه البدائل لا يمكن الحصول عليها بسهولة”.

خاص بآفاق البيئة والتنمية