
المسار الاخباري: قبل عام لم يتردد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الإعلان عن عملية عسكرية وصفها بـ”المحدودة” في مدينة رفح الفلسطينية الحدودية مع مصر، ليتبين بعد وقت قصير أنها عملية موسعة تهدف لتدمير المنطقة والسيطرة على الحدود مع مصر. وعلى مدار عام كامل لم يتوان الاحتلال عمّا يسميه “تطهير” المدينة وشن عمليات عسكرية مركزة وتدمير أغلب البنية التحتية فيها، إلى جانب تدمير المنازل والأحياء بما في ذلك مخيمات اللاجئين، الشاهدة على النكبة الفلسطينية عام 1948.
قبل العملية العسكرية على رفح كان الحديث ينصب على اتفاق لوقف إطلاق النار وجهود يقودها الوسطاء للوصول إلى اتفاق، إذ سلّمت حركة حماس، في السادس من مايو/أيار 2024، موافقتها على الطرح المقدم حينها (تضمن المقترح ثلاث مراحل، كل مرحلة تتكون من 42 يوماً تشمل تبادل أسرى ومحتجزين وتفضي لوقف دائم للحرب وانسحاب إسرائيلي من القطاع وإدخال المساعدات)، غير أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو اعتبر الموافقة مراوغة من “حماس” ليقرر بعد يوم من موافقة الحركة دخول البوابة الجنوبية للقطاع. ومنذ اليوم الأول لدخول المدينة، أغلق الاحتلال معبر رفح البري بين القطاع ومصر، ونشر دباباته عنده ودمّره وأحرق منشآته وحوّلها إلى ركام، فضلاً عن تدمير مساحات واسعة من المدينة. وتظهر صور وفيديوهات ينشرها جنود الاحتلال على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي الدمار الهائل في المدينة، فضلاً عن صور الأقمار الاصطناعية التي تظهر الدمار غير المسبوق مقارنة مع بقية مناطق القطاع. سبق أن اعتمد الاحتلال على شركات إسرائيلية متعاقدة مع وزارة الأمن من أجل هدم المنازل وتنفيذ عمليات تدمير واسعة على صعيد البنية التحتية، في ظل عدم وجود الإمكانيات الكافية للجيش لتنفيذ هذه الأعمال بوتيرة سريعة.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الشهر الماضي، إن الجيش الإسرائيلي دمّر منطقة بمساحة 12 ألف متر مربع في رفح، ما أدى إلى محو 90% من الأحياء السكنية في المدينة، لا سيما في أحياء السلام والبرازيل والجنينة ومخيم رفح، منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، قبل أن ينهار في 18 مارس/ آذار الماضي، بعد رفض الاحتلال الدخول في مرحلته الثانية وإغلاق كافة المعابر منذ الثاني من مارس الماضي، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يلتزم خلال المرحلة الأولى بالانسحاب من المدينة (لا سيما من محور صلاح الدين ـ فيلادلفي ـ بين القطاع ومصر)، بموجب الاتفاق، وشن ملاحقات متعددة للفلسطينيين وواصل عملياته فيها.
خطة حشر الغزيين في مدينة رفح
يطرح الاحتلال حالياً خطة جديدة تقوم على تحويل مدينة رفح إلى “غيتو” من خلال السعي لاحتلال القطاع وحشر السكان في مناطق بين محور صلاح الدين ومحور موراغ الذي دشنه الجيش الإسرائيلي الشهر الماضي، بين رفح وخانيونس، جنوبي القطاع. ويسعى الاحتلال من وراء ذلك لإنشاء مناطق عازلة للفلسطينيين يقيم فيها مراكز خاضعة لرقابته وسيطرته العسكرية للإشراف على توزيع المساعدات الغذائية وتشجيع تهجير الفلسطينيين إلى خارج القطاع. وتعتبر هذه الخطة امتداداً لخطة الجزر الإنسانية التي سعى الاحتلال لتنفيذها خلال المرحلة السابقة من الحرب، أو خطة “الجنرالات” (دفع السكان إلى النزوح قسراً من خلال الحصار والتجويع وتدمير كل مقومات الحياة لتنفيذ عمليات “تطهير” وتصفية المقاومة) في مناطق شمالي القطاع. وتحولت مدينة رفح المدمرة إلى عنوان للأحداث، في الوقت الحالي، من خلال سعي الاحتلال لنقل السكان إليها بعد تنفيذ عمليات برية واسعة النطاق تحت عنوان “حسم الحرب” ضد حركة حماس، وفق ما أعلنه المستويان السياسي والعسكري في إسرائيل أخيراً. ويعاني أكثر من 2.4 مليون نسمة من التجويع نتيجة حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ومنع دخول المساعدات منذ الثاني من مارس الماضي، بالتزامن مع التنصل من اتفاق وقف إطلاق النار.
ويطلق الاحتلال على خطته الذي يعتزم تنفيذها اسماً “توراتياً” هو “عربات جدعون”، إذ تستند بدرجة أساسية إلى استخدام سلاح التجويع ضد الغزيين، فيما بقي تنفيذها مرهوناً بالوصول إلى صفقة بنهاية زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المنطقة. وكان البيت الأبيض قد أعلن أن ترامب سيزور السعودية وقطر والإمارات من 13 إلى 16 مايو/ أيار الحالي. وصدّق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، بالإجماع، ليل الأحد – الاثنين، على توسيع العدوان على قطاع غزة، بذريعة الضغط على حركة حماس لتكون أكثر مرونة وتوافق على إطلاق سراح محتجزين إسرائيليين. كما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية، منها صحيفة هآرتس، أول من أمس الاثنين، أن الوزراء وافقوا أيضاً على خطة مبدئية لتوزيع المساعدات الإنسانية في المستقبل عبر شركات أجنبية، تشمل أيضاً دفع السكان الفلسطينيين جنوباً “لحمايتهم”.
تطبيق لمخطط الإبادة
يقول مدير مركز رؤية للتنمية السياسية (مقره في إسطنبول)، أحمد عطاونة، إن “ما جرى في رفح هو التطبيق العملي والأكثر وضوحاً لفكرة الإبادة الجماعية عبر تحويلها لمنطقة غير صالحة للعيش والحياة والضغط على السكان لدفعهم للهجرة”. ويضيف عطاونة في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الاحتلال يسعى من خلال عملياته في مدينة رفح “لتحقيق جملة من الأهداف، منها تحقيق الهجرة الطوعية أو دفع السكان مستقبلاً للانشغال في إعادة إعمار حواضرهم المدنية وأن لا يتمكنوا من مواجهة الاحتلال ومقاومته”.
أحمد عطاونة: خطة الاحتلال لدفع السكان نحو رفح في الفترة المقبلة لا تتعارض مع ما جرى في المدينة خلال الحرب
ويعكس ما جرى في رفح، وفق عطاونة، “نموذج الإبادة الجماعية التي يسعى الاحتلال إلى تطبيقها في مختلف مناطق القطاع وتحويله إلى مناطق غير صالحة للحياة أو العيش ودفع السكان لخيارات بديلة”. ويرى أن “خطة الاحتلال لدفع السكان نحو رفح خلال الفترة المقبلة لا تتعارض مع ما جرى في المدينة، وبالتالي يرى الاحتلال فيها منطقة فارغة يريد تحويلها إلى ما يشبه المعتقلات الجماعية التي كان يتعامل بها (يقيمها) النازيون خلال الحرب العالمية وما قبلها”. ويقول عطاونة إن الاحتلال “يريد تجميع الفلسطينيين في مدينة رفح ويتحكم بهم عبر سلوك مسارات تخدمه في تحقيق هدف الهجرة”، معتبراً أن “هذه الخطة قد تكون مرحلة أولى، ثم ينتقل بعدها إلى مسارات جديدة لتهجير الفلسطينيين من أرضهم”. ويوضح أن “نموذج الحرب يقوم منذ شهور على قتل الفلسطينيين دون أي أهداف عسكرية، إذ لا ينجز فيه الاحتلال شيئاً سوى القتل بعدما تنكر للاتفاق وعاد للحرب”.
من جهته، يرى مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية (في غزة)، أحمد الطناني، أن “ما نفذه الاحتلال في مدينة رفح هو النموذج الفعلي للتدمير الشامل الهادف لمسح مدينة كاملة عن الوجود، وإنهاء أي أثر عمراني أو ديمغرافي فيها”. ويوضح الطناني في حديث لـ”العربي الجديد”، أن ذلك “ما حرص الاحتلال على تنفيذه بشكل كامل، واستدعى حتى الاستعانة بشركات (مدنية) لاستكمال عمليات الهدم الكامل التي لم تتوقف حتى خلال فترة التهدئة”. يجعل هذا الواقع، وفق الطناني، مدينة رفح مهيأة لأن تكون أرضية لخطط مستقبلية مرتبطة بالمخرجات الاستراتيجية للحرب على قطاع غزة، أو تحويلها بالكامل إلى منطقة عازلة تفصل بين الكتلة السكانية الرئيسية في قطاع غزة والحدود الفعلية مع مصر. ويوضح أن ذلك “يتقاطع مع توصيف نتنياهو لمحور موراغ باعتباره محور صلاح الدين 2، أي الحد الحدودي الجديد لقطاع غزة”. ويشير إلى أن هذ السيناريو “الذي قد تجد إسرائيل نفسها تذهب فيه إلى تسويات بعيدة المدى تتضمن خفض مستوى القتال في قطاع غزة ارتباطاً بترتيبات محددة، ستفرض فيها عدم إعادة إعمار مدينة رفح من جديد وشطبها من الخريطة”.
أحمد الطناني: دخلت الحرب إلى مرحلة ما بين توسيع العدوان والضغط لفرض اتفاق مع وصول ترامب إلى المنطقة
وبحسب الطناني، فإن السيناريوهات التي باتت تُطرح اليوم وتُنشر على لسان مسؤولين إسرائيليين والإعلام الإسرائيلي، تؤكد على نيّات تحويل رفح إلى مخيم كبير للنازحين، أو بمعنى أدق “معسكر اعتقال جماعي” لكل سكان قطاع غزة. ويبيّن أن تحقيق مثل هذا السيناريو “يتطلب خطوات كبيرة لوجستية، مرتبطة أولاً بتهيئة مدينة رفح لتكون مكاناً يصلح لهذه المهمة، وهو ما يعني عمليات إزالة واسعة لآثار العدوان والركام بحيث توضع مكانها المخيمات المفترضة للنازحين”. يتطلب ذلك أيضاً “موازنة وكلفة كبيرة ووقتاً للعمل عليه لا يتطابق مع السرعة والزخم الوارد في حديث قادة الاحتلال عن شكل العملية العسكرية الموسعة التي ستتضمن اجتياحاً واحتلالاً كاملاً للقطاع ونقلاً لسكان شمال قطاع غزة إلى جنوبه”.
وبشأن سيناريو تحويل رفح إلى محطة لتوزيع المساعدات، يعتقد الطناني أن هذا السيناريو “يحمل مؤشرات حقيقية يمكن أن تُطبق”، مشيراً إلى أن “الصور الجوية والمعطيات الميدانية تشير إلى تسوية الاحتلال مساحة جغرافية محددة تقع غرب رفح (بالأرض)”. يمكن أن تُشكل هذه الخطوة “محطة تطبيق النموذج الأول لهذا الخيار الذي يتضمن توزيع المساعدات عبر وكلاء أمنيين ومؤسسات دولية متعاونة مع الاحتلال، بحيث يستخدم الأخير المساعدات أداةً لهندسة المجتمع ووعيه، وتثبيت القدرة على تجاوز السلطات الحكومية القائمة في قطاع غزة، وتحفيز السكان على مغادرة مناطق سكنهم ليكونوا بالقرب من محطات توزيع المساعدات”. ووفقاً للطناني، دخلت الحرب منعطفاً محورياً يضع الأوضاع بين مرحلتين، الأولى “مرحلة اللاعودة، والدخول إلى مستوى جديد من العدوان الذي سيُبعد إلى درجة كبيرة أي أفق متاح للوصول لاتفاق لإنهاء الإبادة بحق أهالي القطاع، وإنجاز صفقة لتبادل الأسرى”. والثانية هي الضغط الأقصى للوصول “لأرضية اتفاق وفقاً للرغبة الأميركية بتحويل زيارة ترامب إلى المنطقة إلى زيارة تحمل معها حلولاً واضحة لعدد من القضايا الساخنة”.