إسرائيليات

“بلاد للجميع”.. منظمة إسرائيلية- فلسطينية ترفض “الدولة” و “الدولتين” وتطرح حلًا ثالثًا للصراع

المسار …

فيما تستمر حرب الإبادة في غزة منذ 20 شهراً، وتُرتكب المذابح، تصعد حركة فلسطينية- إسرائيلية مشتركة ترى بأن الحل للصراع الكبير ليس حل الدولة ولا الدولتين، إنما بـحل “بلاد واحدة”.

هذه المنظمة تتحدى مبدأ تقسيم البلاد، وتطرح بدلاً منه صيغة بديلة بعنوان: “دولتان، وطن واحد”. والمسار الذي تطرحه “بلاد للجميع” لإنهاء الصراع هو إقامة كونفدرالية بين دولتين ذواتي سيادة في المنطقة الممتدة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

تكون الحدود بين (دولتَي) إسرائيل وفلسطين مفتوحة، ويتم ضمان حرية جميع المواطنين في التنقل بين الدولتين، وتقوم مؤسسات عليا مشتركة بتنظيم شؤونهما المشتركة في مجالات مثل الاقتصاد، البيئة، الثروات الطبيعية، وما إلى ذلك.

كذلك، وطبقاً لهذه المنظمة، يكون النظام في كلتيهما ديمقراطيًا، ويحمي حقوق الأقليات فيهما، ويتم تجنّب إخلاء المستوطنين بصورة جماعية واسعة، ويكون بإمكان أولئك الراغبين في ذلك الحصول على الإقامة في فلسطين.

ماي بونداك: أبي كان رجلًا حكيمًا، لم يكن ليتمنى لي أن أكرر الأشياء نفسها التي حاول هو القيام بها ولم ينجح

من ناحية أخرى، يتم التوصل إلى تسوية بشأن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، من خلال آليات متفق عليها بين الدولتين، وتكون القدس عاصمة للدولتين، وتكون السيادة فيها مشتركة.

وتقود هذه الحركة اليوم سيدتان: رُلى هردل، محاضرة فلسطينية من بلدة البقيعة في الجليل داخل أراضي 48، اختارت العيش في رام الله، وهي مديرة مشاركة لـحركة “بلاد للجميع”، وشريكتها الإسرائيلية ماي بونداك، وهي ابنة مهندس اتفاقيات أوسلو.

معاً، تقودان منظمة سلام تثير صدى متزايدًا في أنحاء العالم، وتحمل بُشرى جديدة.

تفرد صحيفة “هآرتس” العبرية ملفًا مسهبًا حول الحركة، تقول فيه بونداك: “صحيح، نحن غارقون في أزمة رهيبة. لكن هذه، بالضبط، هي اللحظة المناسبة تمامًا للأفكار الكبيرة”.

تتذكر ماي بونداك، المديرة العامة لـمنظمة “بلاد للجميع”، بصورة ضبابية فقط الحفل الذي أُقيم على مسطّحات العشب الأخضر في البيت الأبيض، حيث وقّع القادة على اتفاقيات أوسلو.

“أتذكر أساسًا أنه كان واضحًا للجميع أنه يجب أن يحلّ السلام، وأن والدي هو من كان منشغلاً بإحلال السلام”، تقول بونداك، التي كانت تبلغ من العمر ثماني سنوات آنذاك. “كنت فخورة به للغاية، بالنسبة لي كان روك ستار”.

كان والدها، رون بونداك، شخصية رائدة في تعبيد المسار السري مع “منظمة التحرير الفلسطينية”، وأحد أكثر الأشخاص ارتباطًا بحل الدولتين. لم يفقد الأمل في تحقيق السلام مع الفلسطينيين، حتى بعد انهيار أوسلو بوقت طويل.

فبعد ذلك بنحو عقد من الزمن، كان ضمن المجموعة التي صاغت مبادرة جنيف.

كانت ابنته الكبرى، وقد أصبحت فتاة بالغة آنذاك، برفقته في حفل التوقيع الذي أُقيم في فندق في الجانب الأردني من البحر الميت.

“كان أبي يوقّع على الاتفاقيات، وكنت أقضي وقتي في بركة السباحة”، تستذكر.

في السنوات التالية، تزايَدَ اهتمامها بمشروع حياة والدها، كما ازدادت أيضًا علامات الاستفهام بشأنه.

“كلما بدأت أفهم أشياء مختلفة وأتعمق فيها، كان لدي الكثير من الانتقادات ضده أيضًا”، تقول بونداك.

“أجرينا عددًا غير قليل من المحادثات الثاقبة. سألتُ: لماذا لم يتم دمج النساء في مراكز صنع القرار في أوسلو؟ أي نوع من الوهم هذا أن العرب مواطني إسرائيل، الذين من الواضح اليوم أنهم يشكلون عاملاً أساسيًا في بناء حياة مشتركة هنا، لم يكونوا جزءًا من العملية؟”.

فلسفة وقانون

بونداك، الحاصلة على اللقب الأول في القانون والفلسفة، واللقب الثاني في القانون الدولي وحقوق الإنسان من “الجامعة العبرية” في القدس، شقّت لنفسها مسارًا مستقلًا للنضال ضد الاحتلال.

من بين أمور أخرى، شاركت في تأسيس طاقم قانوني لدعم نضالات الفلسطينيين في القدس الشرقية، وفي تأسيس مجموعات حوار لأبناء الشبيبة اليهود والفلسطينيين في المدينة.

“لم أفكر بالتوجّه نحو العمل السياسي”، تقول. “بدأتُ بالانخراط في هذا بعد أن اصطدمتُ بحائط فقط”.

وفاة رون بونداك

في العام 2014، توفي رون بونداك جرّاء مرض السرطان عن عمر 59 عامًا، وبالذات عندما أصبحت أسئلة ابنته الكبرى أكثر مصيرية.

“كنتُ أعتبر نفسي دائمًا مؤيدة لحل الدولتين الكلاسيكي. لكن في مرحلة ما، بعد محادثات ولقاءات مع فلسطينيين، أشخاص من خلفيات أكثر دينية وتقليدية، ومهنيين على دراية بالواقع وبالميدان، أدركتُ أنني أدافع عن شيء فقدتُ السيطرة عليه. شعرتُ بأنني لم أعد أستطيع الوقوف خلفه. شعرتُ بأن تمسّكي به أقوى مما يقدّمه، وأنه يتفتّت بين أصابعي”.

هل هذا كسر هويّاتيّ أيضًا؟

بالتأكيد، كنتُ منهارة. معنى هذا هو النظر مباشرة إلى كل ما كنتِ تعتقدين أنه صحيح في هذا العالَم، وأنه الحل والخلاص، ثم الاعتراف بأنه غير ذي جدوى.

فإذا لم يكن هنالك أي أمل لدولة واحدة، وإذا كان حل الدولتين غير مواكبٍ للعصر على الأقل، فأين أنا في هذه الثنائية إذًا؟

كنتُ تائهة تمامًا، وكنتُ قد فقدتُ والدي كي أتحدث معه حول هذه الأمور.

“بعد يوم 7 تشرين الأول بثلاثة أيام، كان لدينا اجتماع عبر تطبيق زووم مع أعضاء مجلس إدارتنا الإسرائيليين والفلسطينيين”، تروي بونداك. “كان الإسرائيليون يشعرون بأن عالمهم قد انهار فوق رؤوسهم، وكانوا لا يزالون في عمق الهاوية، بينما أدرك الفلسطينيون جيدًا مدى الدمار المتوقع في قطاع غزة. كانت أفكاري تقول: إما أن تنهار الحركة وتتفكك، وإما أن تولد من جديد. وقد وُلدت من جديد”.

عندما تُسأل بونداك عن مكان حضور مُركّب “قتل الأب” في نشاطها الحالي، تجيب بأنه “في كل مكان”.

الانتقال إلى رام الله كان يهدف، ضمن أمور أخرى، إلى خوض تجربة الاحتلال. ليس بدافع المازوشية، ولكن بدافع الرغبة في تجربة أن تكون فلسطينيًا حقًا

وبعد تفكير إضافي، تجيب بأن “أبي كان رجلًا حكيمًا، لم يكن ليتمنى لي أن أكرر الأشياء نفسها التي حاول هو القيام بها ولم ينجح. ناهيك عن أنه قد مرت 30 عامًا وتغيّرت أمور كثيرة منذ ذلك الحين.

ذلك أن مواصلة فعل الشيء نفسه ستكون أمرًا أحمق. الاستنتاج الأساسي الذي توصّلتُ إليه هو أنني لا أملك كل الإجابات، ولذا يجب أن يكون نشاطي ضمن شراكة.

في المقام الأول، شراكة إسرائيلية- فلسطينية، ولكن أيضًا من خلال إنشاء شراكات داخل المجتمع الإسرائيلي.

لذلك، لم أكن لأصف ذلك بقتل الأب، وإنما بالتحدث عنه بمصطلحات التحرّر من التّشبّث”.

محاضرة فلسطينية

وقبل حوالي سنة ونصف السنة، انضمّت الدكتورة رُلى هردل، الحائزة على درجة الدكتوراه والمحاضرة في العلوم السياسية، إلى منظمة “بلاد للجميع” كمديرة عامة مشاركة، وانتقلت المنظمة إلى نموذج القيادة المشتركة.

تقول بونداك: “منذ اللحظة الأولى كان من الواضح لي أنه لا يمكنني التحدث عن الشراكة من غير العمل في إطار شراكة، وأنه من الوقاحة أن أفترض أنني أستطيع القيام بالعمل في الجانب الفلسطيني بشكل فعّال.

ربما كان هذا أيضًا درسًا من اتفاقيات أوسلو، التي من بين الانتقادات الموجهة إليها أن قادتها في الجانب الإسرائيلي لم ينظروا إلى الفلسطينيين كأشخاص متساوين”.

في مكتبة رُلى هردل المزدحمة، هناك كومة من الكتب المخصصة لمفكرين إسرائيليين وصهيونيين من عصور مختلفة. من كتاب “دولة اليهود” الذي كتبه هرتسل في أواخر القرن التاسع عشر، مرورًا بكتاب “على ذلك، فقد اجتمعنا” ليوسـي سريد، من نهاية العقد الماضي، وصولًا إلى كتاب “الليبرالية” لتومر برسيكو، الذي نُشر في صيف العام الماضي.

وإلى جانبها، تشكيلة غنية من الأدب العربي. هذا المزيج مميز لهردل، إحدى أبرز المتحدثات باسم الوطنية الفلسطينية في أوساط فكرية مختلفة، لكنها تعرف أيضًا وبصورة معمّقة السردية الصهيونية بمختلف أطيافها، وتحافظ على اتصال دائم بها.

في الواقع، لا تحتاج هردل إلى كتب للمحافظة على هذه الرابطة وعلى التناقض الوجداني المستديم الذي تخلقه. فهي تعيشها كل يوم كإسرائيلية اختارت العيش في رام الله.

فالانتقال إلى رام الله، التي يتطلب كل دخول إليها وكل خروج منها انتظارًا مُحبطًا عند الحواجز، كان يهدف، ضمن أمور أخرى، إلى خوض “تجربة الاحتلال” التي يعيشها أبناء شعبها.

“ليس بدافع المازوشية، ولكن بدافع الرغبة في تجربة أن تكون فلسطينيًا حقًا”، توضح هردل. “ثمة في هذا تصريح أيضًا بأن هذه المساحة كلها هي لي كفلسطينية. أنني أستطيع السكن في تل أبيب، البقيعة، حيفا، وفي رام الله أيضًا. نوع من رفض قبول التقسيم الداخلي الذي فرضته إسرائيل علينا، بين فلسطينيي 48 وفلسطينيي 67 وفلسطينيي الشتات”.

عملت هردل لمدة ست سنوات محاضِرة للعلوم السياسية في جامعة القدس في أبو ديس، وفي الوقت نفسه، كانت محاضِرة زائرة في الجامعة العربية- الأمريكية في رام الله، وشاركت في مجموعات بحثية في معهد فان لير في القدس الغربية.

وانضمت، قبل ثلاث سنوات، كـ “زميلة باحثة” إلى معهد هارتمان، الذي يعمل على تدريب القيادة وتطوير الفكر اليهودي.

“هذه التعقيدات هي جزء مني، أتركها دون حل عن قصد”، تقول. “هذه هي أنا: عربية من البقيعة، أعيش في رام الله، وأقضي نصف الأسبوع في تل أبيب. أعمل في الأوساط الأكاديمية الفلسطينية، ومرتبطة بالأوساط الأكاديمية الإسرائيلية أيضًا. أنا تجسيد لـ بلاد للجميع”.

بالفعل، منذ تعيينها مديرة عامة مشاركة للمنظمة الإسرائيلية- الفلسطينية، وضعت هردل نشاطها البحثي جانبًا، وتكرّس معظم وقتها الآن لتعزيز هذه المنظمة.

تعتقد هردل أنه “يجب على الخطاب الوطني الفلسطيني أن يُعيد تعريف نفسه. يجب على الشعب الفلسطيني أن يستوضح ويُحدد مَن هو.

اتفاقية أوسلو قلّصت حدود الهوية الفلسطينية وحصرتها في أولئك الذين يعيشون تحت سيادة السلطة الفلسطينية، بينما في الواقع، الشعب الفلسطيني يضمّ أيضًا 1.8 مليون فلسطيني من مواطني إسرائيل، وسبعة ملايين فلسطيني في الشتات”.

ووفقًا لخطتكم، هل سيُسْمَح لهؤلاء الملايين السبعة بالعودة إلى إسرائيل؟

“قضية اللاجئين الفلسطينيين هي أكثر تعقيدًا من مسألة العدد. يجب أن تبدأ بالاعتراف بأنهم أصبحوا لاجئين لأن الحركة الصهيونية هجّرتهم. ومن هنا، ينبغي التفكير في آليات التعويض. وفقط في المرحلة الثالثة يمكن الحديث عمَّن يعود، وكم عدد الذين سيعودون.

أنا أقارن ذلك دائمًا بالشتات اليهودي في العالم. فالحديث يجري عن ملايين لا ينوي معظمهم العودة إلى إسرائيل. الأمر نفسه ينطبق على الفلسطينيين أيضًا. أفترض أن الغالبية الساحقة لن ترغب في ممارسة هذا الحق، لكنهم سيعلمون أنهم يستطيعون، حتى لو كان ذلك لغرض الزيارة فقط”.

ولكن، أي نوع من العودة ستكون هذه؟ أإلى المنازل التي هُجرت في صفد ويافا؟ أم إلى الدولة الفلسطينية الجديدة؟

“هذه مسألة سيتم حلها وبلورتها في إطار الاتفاقيات والتسويات التي ستُعقد بين الدولتين. إن كنت تسألني شخصيًا، فسيكون بإمكانهم العودة إلى أراضي الدولة الفلسطينية السيادية كمواطنين، كما سيكون بإمكانهم أيضًا التقدّم بطلب للحصول على الإقامة في إسرائيل.

في هذا السياق، إذا قرر شخص ما العيش لفترة معينة في يافا أو صفد لأنّ لديه عملًا أو مشروعًا تجاريًا هناك، فسيكون بإمكانه ذلك”.

ثمة من سيقول إنك تحاولين دفن حل الدولتين الكلاسيكي، وإنك تُشرّعين مشروع الاستيطان القائم على العنف والنهب؟

“لا، أنا أعارض مشروع الاستيطان بشدة، ولا أقوم بتطبيعه، بالتأكيد. ينبغي لأي اتفاق أن يكون مشروطًا بتفكيك المستوطنات.

في إطار هذا التفكيك، سيتم وضع ترتيبات مع دولة فلسطين تسمح لبعض المستوطنين الذين يرغبون في ذلك بالبقاء في أماكنهم، تحت السيادة الفلسطينية. لكن بدون امتيازات، بدون فوقية يهودية، وبدون ضم المزيد من الأراضي.

ولا يقل عن ذلك أهمية، بناء آليات للتعويض لدولة فلسطين، أو لأصحاب الأراضي الأصليين، إذا كانت أرضًا خاصة سُلبت منهم”.

وتقول “هآرتس” إن هردل وبونداك قطعتا شوطًا كبيرًا حتى أصبحتا ملتزمتين بأفكار وطروحات “بلاد للجميع”.

وتتابع: “كان هذا طريقًا معاكسًا، بمعانٍ عديدة ومختلفة. فقد تعيّن على بونداك، كما ورد آنفًا، أن تتمرّد على حل الدولتين الذي تربّت عليه في منزلها. أما هردل، في المقابل، فقد جاءت من دوائر أكاديمية يزدهر فيها التفكير في خيار الدولة الواحدة، وهو نموذج يحظى بتأييد كبير بين الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات”.

“أنا أيضًا كنت هناك عندما كنت أعيش في الخارج”، تقول هردل. “كنت أعتقد أنه من أجل إنهاء الاحتلال واستعادة العدالة التي قُطِعت في النكبة، يجب تفكيك الحركة الاستعمارية التي تسيطر على المنطقة، أي الصهيونية، وتطبيق صيغة ما من الثنائية القومية، على مبدأ “صوت واحد لكل شخص” كما هو الحال في أي نظام ديمقراطي ليبرالي.

عندما عدت إلى البلاد، اكتشفت أنني كنت مخطئة. أن الشعبين بعيدان عن أن يكونا في موقع ما بعد قومي، وأنهما يصرّان على تقرير المصير في شكل دولة ذات سيادة.

لكن شعبًا واحدًا فقط، هو الشعب اليهودي، هو الذي مارس حقه في تقرير المصير، ويواصل قمع حق الشعب الآخر، من خلال تعميق النهب، سرقة الأرض، وحتى الإبادة الجماعية ضده، مثلما يحدث في قطاع غزة الآن”.