
المسار الإخباري :في مشهد يعكس تكامل الأذرع الصهيونية في تنفيذ مشروعها الاستعماري، تتصاعد الهجمات الإرهابية التي تنفذها ميليشيات المستوطنين في الضفة الغربية، مدعومة بغطاء سياسي وعسكري كامل من حكومة الاحتلال، في ظل ظروف مركبة تجعل من الضفة ساحة مفتوحة للعدوان الممنهج.
فهذه الهجمات لا تأتي في فراغ، بل تتغذى من تغوّل الاستيطان الذي يسابق الزمن في ابتلاع الأرض، وتتمدّد في ظل حرب إبادة مفتوحة تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ أكثر من تسعة عشر شهراً، وهو ما يجعل الضفة الغربية اليوم جبهة مهملة لكنها حاسمة في الحسابات الاستراتيجية للصراع.
العدوان الذي شهدته بلدة دير دبوان شرق رام الله قبل أيام، وما رافقه من حرق للمنازل وترويع للسكان وتدمير للممتلكات، لم يكن سوى فصل جديد من مسلسل العنف المنظّم الذي بات يطول عشرات القرى والبلدات في أنحاء الضفة. تتكرر المشاهد في برقة، بيتا، قريوت، الساوية، طمون، اللبن الشرقية وغيرها، حيث يعربد المستوطنون في الطرقات تحت حماية جيش الاحتلال، ويُمارسون إرهابهم كأداة ضغط لتهجير السكان الأصليين وتفريغ المناطق الريفية المحيطة بالتجمعات الاستيطانية الكبرى.
هذه الهجمات ليست أعمالًا فردية، بل هي امتداد مباشر للمشروع الاستيطاني، الذي تجاوز مرحلة الزحف البطيء إلى مرحلة التفكيك الجغرافي والديموغرافي للمجتمع الفلسطيني في الضفة.
فالمطلوب إسرائيليًا اليوم ليس فقط السيطرة على الأرض، بل خلق واقع جديد يُقصي الفلسطيني من معادلة المكان والقرار، ويفرض عليه حياة تحت التهديد الدائم، يدفعه إما إلى الرحيل القسري أو إلى الخضوع المهين.
ما يزيد خطورة هذا المسار هو الطابع الأيديولوجي الذي يتغذى منه المشروع الاستيطاني، والذي بات يُدار بشكل علني من قبل وزراء يتبعون التيار الديني الصهيوني، مثل إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية الذي يشغل في الوقت ذاته منصبًا مؤثرًا في وزارة الدفاع ويتحكم فعليًا في شؤون “الإدارة المدنية”، الذراع البيروقراطية للاحتلال في الضفة الغربية.
هؤلاء لا يُخفون نواياهم في تنفيذ الضم الفعلي والممنهج للضفة الغربية، من خلال سياسات ميدانية تقطع الطريق على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، وتُعيد تفعيل أدوات الحكم العسكري الإسرائيلي بواجهة مدنية، ضمن استراتيجية تسعى إلى تذويب الخط الأخضر نهائيًا وتحويل المناطق الفلسطينية إلى جيوب معزولة ومحاصرة ضمن نظام أبرتهايد خالص.
اللافت أن هذه الهجمات تأتي في ظل انشغال العالم، والرأي العام الفلسطيني والعربي، بالحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة، وهو ما تستغله حكومة الاحتلال كفرصة سانحة لتسريع عمليات التهويد وتوسيع رقعة الاستيطان من جهة، وتعزيز أدوات القمع والهيمنة في الضفة من جهة أخرى، عبر تغوّل المستوطنين، وتصعيد الاعتقالات، وتنشيط التنسيق الأمني مع السلطة، وكأن الهدف هو إحكام الطوق حول كل أشكال المقاومة المحتملة، سواء في الميدان أو في الوعي الشعبي الفلسطيني.
ويُضاف إلى ذلك أن دور “الإدارة المدنية” عاد بقوة، ليس فقط كهيئة بيروقراطية، بل كأداة مركزية لإعادة هندسة الضفة وتكريس واقع الضم من خلال السيطرة على التخطيط والبنى التحتية والموارد، في محاولة لتجاوز حتى الهياكل الهشة للسلطة الفلسطينية، وفرض السيادة الإسرائيلية المباشرة على الحياة اليومية للفلسطينيين.
وهنا تُطرح المسؤولية على السلطة الفلسطينية ودورها الغائب أو المُغيّب. فالمفارقة المؤلمة أن أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تُحسب على السلطة الوطنية، لا تتدخل لحماية القرى المستهدفة، رغم ما تملكه من عناصر وسلاح وإمكانات، بل تواصل التزامها بسياسات “ضبط الميدان” من خلال التنسيق الأمني مع الاحتلال، وهو ما يجعلها في موقع العاجز أو المتواطئ، خاصة في ظل غياب أي استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الاستيطان وهجمات المستوطنين. بينما المطلوب أن تتحول السلطة إلى قوة دفاع حقيقية عن شعبها، عبر إعادة توجيه دور أجهزتها نحو حماية القرى والبلدات، وتوفير حاضنة مقاومة في الريف الفلسطيني المحاصر.
لقد أكدت تجارب السنوات الماضية أن الرد الشعبي على المستوطنين هو الأقدر على فرملة المشروع الاستيطاني مؤقتًا، سواء من خلال لجان الحراسة المحلية، أو المقاومة الشعبية، أو حتى العمليات الفردية التي أربكت حسابات الاحتلال. لكن هذه المبادرات لا يمكن أن تنجح وتستمر إلا إذا توفرت لها بيئة سياسية وطنية حامية، ومظلة تنظيمية تتبناها وتدعمها، وهو ما يتطلب تحرر السلطة من قيود أوسلو، والتزامها الجاد بخيار المقاومة بوصفه الخيار الوحيد الذي يُعيد للقضية الفلسطينية حيويتها ووحدتها.
في النهاية، فإن ما يجري في الضفة الغربية ليس صراعًا محليًا بين سكان ومستوطنين، بل هو حرب مفتوحة تُدار بأدوات مختلفة ضمن مشروع استيطاني توسعي لا يعترف بالسلام ولا بالحقوق، ويعمل على مدار الساعة لإعادة إنتاج النكبة بأدوات جديدة. إن التصدي لهذا المشروع يتطلب وحدة ميدانية فلسطينية، ورؤية وطنية موحدة، وإرادة سياسية تترجم الغضب الشعبي إلى فعل مقاوم يُعيد الاعتبار لفلسطين من بحرها إلى نهرها، ويؤكد أن الضفة لن تكون مجرد هامش في معادلة الصراع، بل جبهة مشتعلة قادرة على فرض معادلات جديدة إذا توفرت لها القيادة والإرادة والشرعية الثورية.
إن ما يجري في الضفة ليس مجرد تصعيد طارئ، بل هو لحظة مفصلية تستدعي قطيعة تامة مع الوهم الوطني الذي كرّسته أوسلو، وتستلزم انبعاث مشروع مقاومة شاملة يعيد تعريف العلاقة مع الاحتلال لا كمفاوضٍ، بل كعدوٍ وجودي. فالضفة اليوم بحاجة إلى مثقفيها، مقاتليها، مزارعيها، وشبابها أن يشكّلوا جبهة واحدة في وجه مشروع الإبادة البطيئة، وأن يعلنوا بوضوح أن زمن التعايش مع الاستيطان قد انتهى، وأن الأرض لا تُسترد بالتصريحات، بل تُحمى بالدم والمقاومة المستمرة.