المسار : هل من حقّ أيّ منّا أن يهوّن من الاعتراف بدولة فلسطين، أو أن يستهين به كما تتظاهر دولة الاحتلال المنبودة؛ ويتذرّع بأنّه قرار يجيء بعد فوات الآن، وفي خضمّ هذا التدمير الرهيب في غزّة والحرب على المدنيّين العزّل، وليس بين طرفين متكافئين؟ لقد ظلّت هذه الدول الغربيّة المعروفة بولائها الأعمى لإسرائيل، تؤجّل الإفصاح عنه؛ وتطرَح المسألة الفلسطينيّة، في أحسن الأحوال من منظور أمنيّ أو دبلوماسيّ، أو مساعدة إنسانيّة. والاعتراف بهذا الحقّ مهما تكن «نقائصه» أو «رمزيّته»، إقرار بحقّ الفلسطينيّين في أرضهم، وإقامة دولتهم، وإنصاف لشعب عظيم؛ لا تنكر إسرائيل وجوده فحسب، بل تسعى أيضا إلى مصادرة ما تبقّى من أرضه واقتلاعه وتقطيعه ومحوه. وعليه فإنّ هذا الاعتراف إنّما يُقرأ في سياقه السياسي، ومن منظور تفكيك سرديّة الاستعمار الصهيونيّ، من أجل أن ندرك أنّ دولة فلسطين المنشودة، ليست مجرّد كيان إداري أو جهاز بيروقراطيّ كما قد تريد لها المفاوضات الدوليّة، أو رسم حدود جغرافيّة؛ وإنّما هي شعب وذاكرة وتاريخ. ولا أحد يجادل أو يماري في أنّ «الاعتراف» الحقّ يستند إلى مفهوم سيادة الدولة واستقلالها، وفلسطين لا تزال محتلّة. بيْد أنّ هذه الموجة من الاعتراف التي بدأت تقوى وتتواتر منذ الحرب على غزّة خاصّة، تعزّز ما يقوله الفيلسوف الألماني المعاصر أكسل هونّيث، من أنّ مزيّة الاعتراف تكمن في كونه «ركيزة أخلاقيّة» لا يمكن فهمها بمعزل عن العلاقات الدوليّة وتفاعلاتها، وإدماج الدول جميعها في «الجماعة الأخلاقيّة» جماعة الأمم.
وفلسطين في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الركيزة، في عالم اليوم حيث «الغالب» المدجّج بالأسلحة الفتّاكة هو الذي يريد أن يفرض إرادته وسلطانه. وهذا الفيلسوف نفسه يتمثّل بفلسطين في نصّ له قبل ظهور هذه «الموجة»، ويقول إنّه قد يتعذّر فهم المواقف التي تتّخذها القيادة الفلسطينيّة مثلا، بدون أن نأخذ بالحسبان تطلّعها إلى اعتراف دوليّ بكيانها وحقوق شعبها. وهو يضرب أمثلة أخرى (روسيا وأوروبا الغربيّة) ليس هنا مجال عرضها؛ ليخلص إلى أنّ الاعتراف مطلب رئيسي وأساسي في سلوك أيّة دولة، وإقرار متبادل بشرعيّة الوجود والسيادة، وليس ثانويّا أو «رمزيّا» كما نقرأ في شتّى النظريّات التي تُعنى بالعلاقات الدوليّة، وتتركّز في منطق استراتيجيّ ركيزته مفهوم الدولة السياديّة المستقلّة المحكومة بذرائع عقلانيّة، ودافع أداتيّ مردّه إلى الإعلاء من مصالحها وقوّتها قبل أيّ شيء.
وفي نظريّة هذا الفيلسوف الذي يعيد الاعتبار للأخلاق بدل السياسة المحكومة بمنطق توازنات القوّة والحسابات البراغماتية، أو كما تمارس من حيث هي ميدان لا مكان فيه للأخلاق أو الفضائل؛ فإنّ العلاقات الدوليّة لا تُختزل في لعبة المصالح والقوى والوعود الجوفاء، بل هي أعمق من ذلك وأجلّ؛ إذ تنهض على مطالب أخلاقيّة جديرة بالاعتراف والتقدير، من أجل بناء نظام أكثر إنصافا وعدلا. ومن حقّ الفلسطينيّين أن يسعوا إلى تحصيل اعتراف الدول الأخرى وخاصّة الغربيّة المتنفّذة التي كان بعضها من أسباب نكبتهم؛ من أجل تثبيت وجودهم دولة مستقلّة وشعبا حيّا يقاوم رغم المحن والمصائب؛ حتّى وإن كان إحياء حلّ الدولتين متعثّرا، ولا يزال منذ اتفاقيّات أوسلو في تسعينات القرن الماضي ما بين طريقين شتّى: مستقيم وأعوج.
أمّا «دولة سبارطة» أو «مدينة الغد» التي يبشّر بها نتنياهو، فهي لا تختلف عميقا عن «سبارطة القديمة»، إذ لا مكان فيها ولا حقّ إلاّ للإسرائيلي اليهودي «القويّ القاسي» ومدى استعداده للطاعة والقتال، في معسكرات وميادين تدريب تخلو من أيّ دفء إنسانيّ؛ فهو رقم ومشروع عسكريّ في شبكة الخوارزميّات لا غير؛ مُراقب في طعامه وشرابه ونومه وأحلامه. ولا غرابة فقد كان الطفل «السبارطي»، يُنتزع منذ طفولته المبكّرة، من أحضان أمّه؛ ويجوّعُ ويُضرب بالسياط حتى يمتحن في مدى صبره وتحمّله وثباته في الشدائد والمصائب؛ بل كان يعلّم السرقة من أجل لقمة عيشه. والويل له إذا ضبط متلبّسا بـ«حقّه» في السرقة، فعندها يكون عرضة للتوبيخ والفضيحة والخزي؛ حدّ التعذيب والهلاك.
«سبارطة»حلم صهيوني مبتور؛ ماهيته جغرافيا لاهوتيّة تجعل من إسرائيل في المنظور الاستعماري الاستيطاني، دولة الصعود والعودة والتجمّع وإعادة التكوين.
وهذا طرح زائف، لا سند له من جغرافيا فلسطين وتاريخها؛ حتى وإن قدّمه اليمين الإسرائيلي، في سياق من أساطير دينيّة؛ ولا جبل صهيون حتى بالنسبة إلى المسيحي، مملكة من هذا العالم، وهو تأكيدا لا يعني فلسطين. والجغرافيا اللاهوتية على ما أثبته بول ريكور في نصّ قديم له، مرحلة ألغاها تاريخ الأنبياء اليهود الروحي. وعليه فإنّ الماهية المؤسّسة للوجود الإسرائيلي، ليست الماهية المؤسّسة لوجود المسلم أو المسيحي أو حتى اليهودي الشرقي المولود في فلسطين والذي عاش قبل وعد بلفور، في مجتمع فلسطينيّ حفظ له حقّه في إقامة شعائره الدينيّة وفي العيش المشترك.
واعتبار إسرائيل نفسَها «سبارطة الجديدة» ليس أكثر من امتداد لإسرائيل الوهم والمخيال الديني، وليس التاريخ في كلّ الأحوال؛ بل هي كما يبشّر بها نتنياهو وعتاة اليمين المهووس، صورة العنف المسلّط على غزّة والضفّة، بكل وحشيّة وهمجيّة؛ حيث يشرّع وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس للجريمة، ويرفعها ويصيّرها على طريق نافذ سالك؛ وهو يبشّر بـ«فتح باب الجحيم على غزة»، صور الجحيم والقيامة في الكتب الدينيّة، أو تمثيل المسيح على الصليب، وما إليها. وما يعتبره أحرار العالم عنفا وإبادة، تعدّه دولة الاحتلال من المآثر والمفاخر، في هذه الحرب على الفلسطينيّين، حيث نقف على الجسد الفلسطيني المقطّع المفكّك، الذي ليس بميسور العين أن تقيسه أو تستوعبه بيسر؛ وكأننا في فيلم «فرانكشتين» أو ما يشبه «مطبخا مأتميا» للأجساد المقطّعة، أو الإنسان وهو يُمسخ حجرا.. حيث تتحوّل الهمجيّة إلى فرجة توقفنا على حدّ الرعب والفزع من نُذر المستقبل؛ وما هو محتمل أو وارد أو مجهول، مثل محاولة تهجير الفلسطينيين من غزّة، في عالم يكاد يكون فيه المستقبل جزءا من حاضرنا القلق؛ فلا غرابة أن يحضر الدين بقوّة في هذه الحرب على الفلسطينيّين، عند هؤلاء المهووسين من عتاة الصهيونيّة الذين يولدون «مكبّلين سلفا» بالأساطير، وما يترّب عنها من متلازمات الخوف والصراع والهروب وما بعد الصدمة؛ وهي تتضافر كلّها في هذه العدوانيّة التي صارت تميّزهم. والمشكل أن أسطورة الأصل والبدايات، تؤخذ عند المحتل الإسرائيلي الذي يتمثل بـ«العهد القديم» مسلّمةً أو حقيقةً من حقائق التاريخ. أمّا ذريعة «معاداة السامية» فقد بدأ بريقها يخفت؛ وعلى ذلك ما انفكّت دولة الإبادة تسم بها كلّ من يعترف بدولة فلسطين، وينددّ بحرب الإبادة، وتعدّ اعترافه وصمة عار.
أمّا الحلم الفلسطيني فتعضده ماهيتَه التاريخُ والجغرافيا والمقاومة، ومنها يستمدّ هذا الاعتراف شرعيّته. والأمل أن يظلّ حتى تقوم الدولة بكلّ مؤسّساتها، في حركة دائبة ذهابا وإيابا، أشبه بـ«مفصلة المحارة» أو بمفصل في نابض، إذْ تسمح بفتح باب في الاتّجاهين: من فلسطين إلى العالم، ومن العالم إلى فلسطين. وهل من بديل في حال غياب «حلّ الدولتين» سوى حلم بعيد المنال في دولة واحدة علمانيّة وديمقراطيّة، لكافّة سكّان فلسطين التاريخيّة، حيث يعيشون بكامل حقوقهم المدنيّة والخاصّة؟ وهو «حلّ» كان قد طرحه الشيوعيّون في الأربعينات، وأعيد طرحه في الستينات والسبعينات (الجبهة الشعبيّة والجبهة الديمقراطيّة وحركة فتح أيضا)؛ وقد انطفأ بريقه، والأمثلة على «أنصاره» في دولة الاحتلال، أو في رام الله، قليلة جدّا تكاد لا تذكر؛ بل ربّما صمت أكثرهم في جحيم الحرب على غزّة، وقضم أراضي الضفّة. ولعلّ من أبرزهم الإسرائيليّة ماي بندك وصديقتها الفلسطينيّة رولا حردل؛ وهما ممّن يقترحون هذا «الطريق الثالث» بعد أن تعذّر «حلّ الدولتين»؛ ضمن إطار كونفدرالي، أو دولة «مزدوجة المواطنة» للفلسطينيّين والإسرائيليّين. وهي مصطلحات يختلف بعضها عن بعض عميقا، وليست بمترادفات كما قد يقع في الظنّ.
ليكن ما سوف يكون، فالفلسطيني هو الذي ينتسب إلى هذه اللحظة الفلسطينيّة بامتياز، حيث الأرض نشيده، بالرغم من أهوال الحرب والدمار.. اللحظة التي يعيشها ويعيش فيها.. وهو الذي يقف وحده على شفا عالم يتغيّر، ويجعل السماء تُرجّى وهي تحتجب، ويهبها أنفاس نجوم لن تأفل.. ولنا يبسط ساعديه، ليمسك بنا؛ وينفض الغبار الذي يعفّر جوانحنا.. وهو أبدا في مكانه المناسب وفي وقته المناسب؛ حتى وهو السجين في وطنه بسلاسل أو من دونها. بل هو صانع هذا «الاعتراف» وهو ليس بمزيّة ولا هبة من أحد، وإنّما هو ثمرة مقاومة ونضال. وهذا الاعتراف حتى على «رمزيّته»، إنّما يزيد أرض فلسطين سعة في قلوب الناس في شتّى أنحاء المعمورة.. شرقا وغربا.
*كاتب من تونس
منصف الوهايبي
(المصدر… القدس العربي )