المسار : منذ اندلاع حرب غزة، تتحدث التقارير الرسمية للكيان عن “مئة ألف إسرائيلي غادروا البلاد منذ أكتوبر 2023.” رقم يبدو صادماً (كرقم كبير للإسرائليين ورقم ضئيل لنا)، لكنه يعكس جزء من الحقيقة: الأرقام الرسمية تُحسب عادة بنهاية السنة وتحمل بالعادة احصائيات العام الذى سبقه ومؤشرات العام الحالى بناءا عليه، ما يجعل العدد الفعلي أعلى وريما بكثير. المؤكد بان المؤشرات الحقيقية تشير إلى أن موجة الرحيل تتسارع بشكل غير مسبوق، وسط أزمة سياسية واجتماعية متصاعدة، ونزيف ديموغرافي (نوعي يتمثل بهجرة الأدمغة والكفاءات) يهدد مستقبل المجتمع اليهودي الإسرائيلي.
أشارت بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي إلى “أن معدل المهاجرين الدائمين بين عامَي 2009 و2021 بلغ نحو 36 ألف شخص سنوياً، ثم ارتفع إلى 55,300 في 2022، وقفز إلى 82,700 في 2023” (حتى بداية أكتوبر)، أي بزيادة تقارب 50٪ سنوياً. في دولة يبلغ عدد سكانها نحو عشرة ملايين، بينهم حوالي سبعة ملايين يهودي اسرايلي فإن هذه الزيادة تعني أن نسبة ملموسة منهم تغادر البلاد في موجة لم يشهدوا لها مثيلاً.
الحيلة الإحصائية المستخدمة هنا تقوم على مقارنة الأرقام الجديدة بمتوسطات قديمة ومنخفضة، ما يجعل الزيادة الحالية تبدو وكأنها “تذبذب طبيعي.” بهذا تُحوَّل موجة الرحيل إلى ظاهرة عابرة، ويتم تخدير الرأي العام عن حقيقة أن إسرائيل بالفعل تشهد نزيفاً ديموغرافياً غير مسبوق.
تلاعب آخر مرتبط بالزمن واللغة: التقارير الرسمية وقفت عند الشهر التاسع من العام ٢٠٢٣، وتتحدث عن “ارتفاع حاد في أكتوبر” دون ذكر الأرقام التفصيلية. في الواقع، غادر 12,300 شخص في أكتوبر ٢٠٢٣ وحده، أي زيادة بنسبة 285٪ عن الشهر نفسه من العام السابق. ومنذ ذلك الحين، استمرت المؤشرات المرتبطة بالطيران والهجرة والإقامات في الخارج في تأكيد أن موجة المغادرة لم تتوقف طوال عامَي 2024 و2025. وعند جمع الأرقام التقديرية منذ 2022، قد يقترب العدد الفعلي للإسرائيليين الذين استقروا بالخارج إلى 200 ألف شخص – وهو رقم لا تستطيع المؤسسات الرسمية الاعتراف به علناً.
في المقابل، ذهبت بعض وسائل الإعلام (خصوصا اعلام المنصات الاجتماعية عندنا) إلى المبالغة، متحدثة عن “مئات الآلاف” غادروا نهائياً هكذا بدون معطيات ولان البعض بيننا ‘يطيش على شبر مية’! هنا يتم الخلط الفوضوي والرغباوي (من الرغبة والتمنى) بين المغادرين مؤقتاً للعمل أو الدراسة (والهروب الموقتة او تجنب الاستدعاء للخدمة العسكرية) وبين قطعوا علاقتهم بالبلد نهائيا. بالنسبة للكيان يُعرَّف “المهاجر الدائم” رسمياً بأنه من يغيب لمدة لا تقل عن 12 شهراً، ما يجعل الإحصاءات الرسمية دائماً متأخرة بسنة أو أكثر. الحقيقة الواضحة هو ان الكيان يشهد اليوم أكبر موجة هجرة منذ عقود، بصرف النظر عن طريقة احتسابها، وكل المؤشرات تفيد بأنها ستتصاعد.
ولا يغيب عنا أن هذا القلق الديموغرافي الوجودي يعتبر محفزاً ودافعا لهم لسياسات القتل المفتوح للفلسطينيين، محاولات الترحيل والتهجير المحمومة، هدم المنازل، الاستيطان، وعنف المستوطنين وما شابه من اجراءات مجنونة.
المشهد السياسي الداخلي يزيد من تعقيد الوضع اذ انه مع عودة الأحزاب الإسرائيلية من عطلتها، وبعد الهدنة الهشة التي فُرضت بضغط أمريكي في غزة، عادت الساحة الإسرائيلية إلى صراعاتها القديمة كالإصلاح القضائي، ملفات الفساد التي تلاحق نتنياهو، الخدمة العسكرية للمتدينين، وفاتورة الحرب الضخمة التي سيتحملها المواطن العادي. هذه الانقسامات لا تقل خطورة عن الحرب نفسها، وهي قادرة على تحويل موجة الرحيل من رد فعل ظرفي إلى مسار اجتماعي مستمر يعكس فقدان الثقة في المستقبل.
في دولة قامت على فكرة “العودة إلى الوطن”، تبدو المفارقة صارخة: آلاف الإسرائيليين يختارون الرحيل طوعاً. الحديث عن “مغادرين مؤقتين” ليس سوى ستار زائف يخفف من حجم الأزمة ويُخفي الواقع المقلق. القضية لم تعد مجرد أرقام، بل تعكس تصويتاً جماعياً بعدم الثقة في ‘الدولة والمستقبل’. وكلما طالت الأزمات الداخلية والصراعات السياسية، ازداد احتمال استمرار هذه الموجة وتوسعها.
والحقيقة ان محاولات التهوين الرسمية لم تعد مقنعة.
سامي مشعشع ( الخبير في شؤون الأونروا )
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري