المسار :يتواصل النزوح الجماعي من إقليم كردفان، حيث يفرّ المدنيون من جرائم قوات الدعم السريع نحو مصير تتجدد فيه مرارة النزوح والجوع والأمراض.
يشهد إقليم كردفان، وسط السودان، موجة جديدة من المعاناة الإنسانية، عقب تجدد القتال بين أطراف الحرب الدامية المستمرة منذ إبريل/ نيسان 2023، وامتداد المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع من إقليم دارفور إلى إقليم كردفان الذي ينقسم إلى ثلاث ولايات، شمال وجنوب وغرب، ويشهد حركة نزوح كثيفة لسكان المدن والقرى نحو مناطق شبه آمنة في ولايات النيل الأبيض والشمالية والجزيرة، بينما يتجه بعضهم نحو العاصمة الخرطوم التي ما زال سكانها يعانون نقصاً حادّاً في الخدمات، وانتشاراً للأمراض والأوبئة.
وارتفعت وتيرة النزوح الثاني بين سكان إقليم كردفان بعد استعادة قوات الدعم السريع مدينتَي بارا وأم دم حاج أحمد، شمالي الإقليم، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإعلانها التوجه نحو مدينتَي الرهد وأم روابة الواقعتين شرق مدينة الأبيض. بينما أكد تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي المدعوم من الأمم المتحدة، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، انتشار المجاعة في مدينة الفاشر بشمال دارفور وكادوغلي في جنوب كردفان، بعد أشهر من حصار قوات الدعم السريع للمدينتين.
وأثارت التحركات المفاجئة لقوات الدعم السريع هلعاً بين صفوف المواطنين، خصوصاً بعد تراجعها السابق أمام تقدم الجيش السوداني الذي كاد يحرر إقليم كردفان، علماً أن بعض سكان الإقليم كانوا قد عادوا لتوّهم من رحلة نزوح مريرة استمرت لأكثر من عامين.
تشكو سلمى عبد المعين معاناتها من النزوح المتكرر، وهي التي اضطرت إلى النزوح مؤخراً من مدينة بارا إلى مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، وتتحدث عن قسوة الأحوال المادية والمعيشية التي تعاني منها أسرتها منذ أكثر من عامين، بسبب الحرب وما يرافقها من انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
وتقول لـ”العربي الجديد”: “عندما استولت قوات الدعم السريع على مدينة بارا في بداية الحرب، نزحنا إلى ولاية نهر النيل، وقد عانينا من ضيق العيش، وانعدام الخدمات، وسوء الأحوال، حيث كنا نسكن في مخيم مؤقت مع آلاف الأسر التي شردتها الحرب. وعندما استرد الجيش المدينة في سبتمبر/ أيلول الماضي عدنا إلى بيوتنا، وكنا نظن أن معاناتنا انتهت، لكن بعد أقل من شهر عادت قوات الدعم السريع، وبسطت سيطرتها على المدينة، وتسببت بالعديد من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وهو ما دفعنا للنزوح مجدداً، ونحن في أسوأ أوضاعنا الصحية والنفسية والمادية”.
تضيف سلمى: “خرجنا في حالة هلع وخوف، لم نكن نملك حتى كلفة المواصلات، واضطررنا إلى السير مسافات طويلة، قبل أن نعثر على وسيلة نقل إلى كوستي، حيث وصلنا في حالة يُرثى لها من الفزع والجوع. عدنا إلى العيش في مخيمات النازحين التي أنهكت أجسادنا وأتعبتنا”.
لا يقوى سودانيون على تكرار النزوح ويفضّلون البقاء رغم المخاطر، واستنفد معظم الأهالي مدخراتهم ويعيشون في مخيمات تفتقر لسبل العيش الكريم
لم تكن مدينة الأبيض بعيدة عن تهديد قوات الدعم السريع التي أطبقت عليها حالياً من ثلاث جهات، وتقترب من إحكام حصارها، ما دفع آلاف السكان إلى النزوح بأعداد كبيرة، خوفاً من أن يجدوا أنفسهم في خضم معركة مرتقبة.
وتقول آمنة عبد السلام، وهي نازحة من مدينة بارا إلى الأبيض، إنها تفاجأت بنزوح سكان المدينة نحو مناطق بعيدة خارج إقليم كردفان. وتضيف لـ”العربي الجديد”: “كنا قد عدنا إلى مدينة بارا بعد تحريرها، لكننا اليوم اضطررنا إلى النزوح مجدداً. والمفارقة أننا وصلنا إلى مدينة الأبيض بعد مشقة طويلة، ونحن لا نملك أي إمكانيات مادية، وتفاجأنا بسيطرة قوات الدعم السريع على المدينة بشكل مفاجئ، لم نكن نتوقع أن سكان الأبيض يتجهزون بدورهم للنزوح بعد اقتراب وقوعها في الحصار. لا نقوى على النزوح مرة ثالثة، سنبقى هنا رغم خطر الجوع والقتل”.
وكشفت “شبكة أطباء السودان” في 4 نوفمبر، عن تواصل موجات النزوح الجماعي من مدينة بارا في ظروف بالغة القسوة، حيث يفرّ المدنيون سيراً على الأقدام نحو المجهول، من دون غذاء أو دواء أو مأوى، بينما تنهار الخدمات الصحية تماماً، وتنتشر الأمراض وسوء التغذية بين الأطفال والنساء وكبار السن. وأكدت أنها تتابع بقلق ما يجري في مدينة بارا من جرائم مروّعة، ترتكبها الدعم السريع بحق المدنيين العزّل، في مشهد يلخص أبشع صور الانتهاك الإنساني والقتل الممنهج. وأشارت الشبكة إلى “تكدس عشرات الجثث داخل المنازل في بارا، بعد أن منعت قوات الدعم السريع ذوي الضحايا من دفنهم، ليبقى الموتى محاصرين في بيوتهم، والأحياء محاطين بالرعب والجوع والعطش. كما تتزايد أعداد المفقودين يومياً، مع انقطاع كامل للاتصالات، وانعدام أي وجود طبي أو إنساني فاعل في المدينة”، معتبرة أن “ما يحدث في بارا جريمة ضد الإنسانية، واستمرار الصمت الدولي تجاهها يمثل تواطؤاً مخزياً”.
وتكرّر نزوح آلاف المواطنين من مدينة أم دم حاج أحمد إلى ولايتَي نهر النيل والخرطوم ومدينة أم درمان. يقول إبراهيم عبد الله، والذي نزح إلى أم درمان، لـ”العربي الجديد”: “إنها المرة الثانية التي ننزح فيها خلال عام واحد، وقد استنفدنا كل مدخراتنا، ونعيش اليوم في مخيمات تفتقر إلى كل سبل العيش الكريم. بعد تحرير المدينة اعتقدنا أن مأساتنا انتهت، إلى أن هاجمت قوات الدعم السريع المنطقة للمرة الثانية، وعاثت فيها نهباً، ما دفعنا إلى الفرار مجدداً، كي نتجنب الانتهاكات الإنسانية بعد الاستيلاء على ممتلكاتنا”.
وتوالى نزوح السكان من مناطق عدة بإقليم كردفان، منها العباسية وأبو جبيهة وكادوقلي والرهد والدبيبات، حيث تعرض السكان لانتهاكات شديدة خلال الاشتباكات المتكررة بين الجيش وقوات الدعم السريع.
نزح إسماعيل تميم، من بلدة الدبيبات، جنوب كردفان، برفقة أسرته المؤلفة من ستة أفراد، إلى إحدى القرى المجاورة، ومنها إلى الأبيض، ووصل أخيراً إلى أم درمان في عملية نزوح طويلة. ويقول لـ”العربي الجديد”: “كانت تجربة قاسية، حيث اضطررنا إلى السير مسافات طويلة وركوب الدواب واستخدام مياه شرب غير نقية، والنوم على الأرض لأيام عدة من دون أغطية، قبل أن نصل إلى أم درمان ونحن نتضوّر جوعاً”. ويتابع إسماعيل: “فقدنا عدداً من أفراد أسرتنا، علماً أنهم مدنيون لا ينتمون لأي جهة، وخسرنا كل ممتلكاتنا وأشغالنا ومدّخراتنا القليلة، وصرنا في عداد آلاف النازحين، نقتات ممّا توفره التكايا وفاعلو الخير، ونتقاسم المواد الغذائية الشحيحة”.
تنطبق الحال على مدينة أم روابة التي سبق أن خضعت لسيطرة قوات الدعم السريع عام 2023، قبل أن يحررها الجيش السوداني مطلع العام الجاري، إذ تشير المعطيات إلى أن المدينة قد تصبح ساحة المعركة المقبلة، بعد سقوط مدينتَي بارا وأم دم حاج أحمد، ما دفع العديد من سكانها إلى النزوح.
ويقول جابر صالح الذي نزح من أم روابة إلى مدينة تندلتي، بولاية النيل الأبيض: “على الرغم من فقر الحال، بسبب النزوح المستمر الذي تسبب بخسارة الأهالي أعمالهم ومدّخراتهم، فإن أحداً لا يملك الرغبة في البقاء وانتظار وصول قوات الدعم السريع. سبق أن عانينا من انتهاكاتها عندما كانت تسيطر على المدينة، ونسمع ونشاهد حالياً ما ترتكبه من جرائم في المناطق التي سيطرت عليها، حيث تقتل وتنهب وتُعامل المواطنين بوصفهم أعداء، ما دفع بأهالي مدينتي إلى النزوح مبكراً قبل سيطرة الدعم السريع على المنطقة”.
ويضيف جابر لـ”العربي الجديد”: “لا يملك الأهالي رفاهية الاختيار، على الرغم من معاناتهم وسوء أحوالهم. قبل أشهر، عدنا من النزوح، وكنا قد فقدنا مدّخراتنا وممتلكاتنا، وعشنا فترة قاسية في مخيمات النزوح، واليوم تتجدد المعاناة. نهرب من الحرب يميناً وشمالاً كي لا نقع ضحية الانتهاكات”. ويتابع: “مجرد التفكير بالنزوح يذكّرنا بحجم الألم والعذاب، ومرارة التشرد المتواصل، بعيداً عن منازلنا وبلداتنا، مع العلم أن النزوح يكون في كل مرة أكثر بشاعة ممّا سبق”.
وفي 2 نوفمبر الجاري، أفادت المنظمة الدولية للهجرة بأن 36 ألفاً و825 مدنياً سودانياً فرّوا من خمس بلدات وقرى في شمال كردفان بين 26 و31 أكتوبر الماضي.
ويتفشّى الجوع والأمراض بين آلاف النازحين من إقليم كردفان، الذين تكررت معاناة نزوحهم لأكثر من مرة خلال العامين الماضيين. ويقول مسؤول في حكومة ولاية شمال كردفان، طلب إبقاء اسمه طي الكتمان، لـ”العربي الجديد”: “الوضع متأزم للغاية لجهة انعدام المواد الغذائية وارتفاع الأسعار وانهيار العملة، ما فاقم معاناة النازحين الذين فرّوا من مدنهم وقراهم بأيادٍ خالية، ولا يملكون ما يسدّ رمقهم، بينما يقيمون اليوم في مخيمات مؤقتة تفتقر إلى الخدمات الأساسية والطعام ومياه الشرب والرعاية الصحية، في الوقت الذي تتفشى فيه الأمراض في كل مكان”. ويختم المصدر ذاته بالقول: “تعجز السلطات كذلك عن تقديم أي مساعدة للنازحين، وينتظر الجميع الفرج”.

