المسار : يعلم كلّ مطلع على القضية الفلسطينية تفاصيل بداية المشروع الصهيوني العنصري والإحلالي والإبادي في فلسطين، منذ كان مجرد فكرة خطها تيودور هرتزل مرورًا بوعد بلفور وصولًا إلى اليوم أو إلى “خطة الحسم”، الواضح من ذلك كلّه وضوح المشروع الصهيوني على مدار سنواته كلّها، قبل تجسيده عمليًا، وفي كلّ المنعطفات والتهديدات والتحديات التّي واجهها، فالهدف واضحٌ وجليٌ متمثّل باحتلال فلسطين كلّها (بل وسواها) وتفريغها من شعبها الأصلي وإحلالها بمجموعات جديدة تنتمي للديانة اليهودية وتؤمن طبعًا بمشروعها الصهيوني العنصري والإحلالي والإبادي.
اللافت هنا ثبات نظرة الاحتلال الاستراتيجية طويلة المدى، في مقابل تنوعات التكتيك السياسي مرحليًا، من تلك الأمثلة الإقرار بقبول تطبيق قرارات الأمم المتّحدة بخصوص فلسطين وقضيتها وشعبها للحصول على اعتراف دولي مشروطٍ بدايةً، ثمّ رفض تطبيقها عمليًا، مثل القرارات المعنية بحقّ العودة، وتقرير مصير شعب فلسطين الأصلي، وصولاً إلى الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية. فحتّى ما دعيَ بمسار سلام “مؤتمر مدريد” ونتاجه غير الشرعي “اتّفاق أوسلو”، لم يتناقض مع توجهات الاحتلال الصهيوني ومشروعه الاستراتيجية، إذ لم يقر بوجود شعب فلسطين، ولا بحقّه في العودة، ولا بحقّه بالحرية والتحرر وإقامة الدولة، من هنا قولب الاحتلال الاتّفاق رويدًا رويدًا ليصبح ذراعًا أمنيةً له، مع بعض المهام الإدارية لا أكثر ولا أقلّ.
إن غياب الوضوح الاستراتيجي فلسطينيًا هو السبب الرئيسي لغياب الخطة، لتغدو مقاومتنا وصمودنا فعلًا عفويًا أسطوريًا فقط، بجدوى محدودة في معظم الأحيان، يسهل الالتفاف عليها وتحويلها من فرصة فلسطينية إلى تهديدٍ جديدٍ
في المقابل تاه المشروع الفلسطيني بين الاستراتيجي والتكتيكي، حتّى بات التكتيكي استراتيجيًا والاستراتيجي انتحارًا أعمى، أو بالأصح لم يفهم الجسم السياسي الفلسطيني معنى التوجه الاستراتيجي، وما زال حتّى اللحظة يتوه بينهما، من هنا بات ما يوصف بالسياسية الواقعية هو لب الفهم الاستراتيجي لدى تيار فلسطيني ما، في مقابل تيار أخر لا يملك رؤيةً تكتيكيةً آنية. بمعنى أخر؛ بات الواقع المتغير هو منطلق الفكر الاستراتيجي لدى التيار الانهزامي الفلسطيني، ومع تغيير الواقع تتغير الاستراتيجية، وهو ما يتناقض مع مفهوم الفكر الاستراتيجي أصلاً! لذا بات الاعتراف بالاحتلال وحمايته هو غاية بعضهم للأسف.
وفي سياقٍ موازٍ عرف الوسط الفلسطيني غيابًا كاملًا للفكر التكتيكي الخادم للفكر الاستراتيجي، لا المتناقض معه، فالتكتيك نهج آني لمرحلة ما، يحمل في طياته فهمًا للواقع وخطة لتحويل التحديات إلى فرص تخدم التوجه الاستراتيجي نفسه لا تتناقض معه، كما في تفعيل المقاومة الشعبية، القانونية، والسياسية، وتمتين حاضنة القضية الفلسطينية الشعبية، وتفكيك رواية الاحتلال وسواها من السياسيات التكتيكية الداعمة للأهداف الاستراتيجي، فالتكتيك متنوع ومتغير وفق الظروف، وليس ثابت دائمًا، والاستراتيجي دقيق وواضح، وليس عامًا وفضفاضًا حمالًا للأوجه.
إن غياب الوضوح الاستراتيجي فلسطينيًا هو السبب الرئيسي لغياب الخطة، لتغدو مقاومتنا وصمودنا فعلًا عفويًا أسطوريًا فقط، بجدوى محدودة في معظم الأحيان، يسهل الالتفاف عليها وتحويلها من فرصة فلسطينية إلى تهديدٍ جديدٍ، تمامًا كما حول “اتّفاق أوسلو” غير الشرعي الفرصة التّي خلقتها الانتفاضة الأولى إلى تهديدٍ جديٍ، هز أهمّ أركان القضية الفلسطينية، متمثّلة بـ”وحدة الأرض والشعب والقضية” نتيجة توقيع اتّفاق أوسلو. وهو ما قد يتكرر مجددًا بعد الفرص التّي أتاحها “طوفان الأقصى”، إن تحولت إلى تهديدات تمس جوهر الحقوق الفلسطينية، من حقّ المقاومة إلى حقّ تقرير المصير، وصولًا إلى الحقّ في الحرية والتحرر والحياة.
في الخلاصة؛ بدأ الاحتلال في تطبيق خطة الحسم قبل تشكيل حكومة الاحتلال الحالية بسنواتٍ عديدةٍ، ثمّ تسارعت مع حكومة الاحتلال الحالية، ومن ثمّ تسارعت أكثر بعد “طوفان الأقصى”، والتّي قد تتسارع أكثر بعد إقرار مجلس الأمن مشروع القرار الأميركي 2803، الذي يعني مزيدًا من الانخراط الأميركي الميداني في حرب/ عدوان الإبادة، وفي تصفية القضية الفلسطينية. من ذلك كلّه نلحظ أن تزايد الانخراط الأميركي في تطبيق خطة الحسم الصهيونية تعبير ليس عن أزمةٍ فلسطينية فقط، بل عن أزمة صهيونية وأميركية ودولية أيضًا، لكن المشكلة هنا أن الاحتلال وداعمه الأميركي يملكان خطة للتعامل مع أزماتهما، في حين يلجأ الفلسطيني إلى مواجهة خطة الاحتلال وداعمه الأميركي إلى جانب أزماته المتوالدة يوميًا بعشوائية وعفوية تنجح أحيانًا، لكنها غالبًا ما تعود وبالًا عليه لاحقًا، فهل حان الوقت كي نحدد رؤيتنا الاستراتيجية وما هي خطتنا لمواجهة الواقع وتأطيرها في خدمتها؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار

