المسار : كشف موقع “ميديابارت” الاستقصائي الفرنسي، أنجزه بالتعاون مع ثماني وسائل إعلام أوروبية أخرى (EIC)، دور قسم أُنشئ خصيصًا داخل الحكومة الإسرائيلية لخدمة حربها القانونية أمام المحاكم الأوروبية والدولية، مع تزايد الكشف عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
تحقيق “ملفات إسرائيل” يسلّط الضوء على الوسائل الهائلة التي سخّرتها الحكومة الإسرائيلية لضمان إفلات قادتها من المساءلة، حيث كشف عن تسريب يضم أكثر من مليوني رسالة إلكترونية داخلية من وزارة العدل الإسرائيلية، تعود إلى الفترة بين عامي 2009 و2023، عن استراتيجية شاملة تهدف إلى تسخير القانون وخوض ما تسميه إسرائيل “الحرب القانونية” ضد كل من يسعى لملاحقة الجرائم الإسرائيلية أمام القضاء.
التحقيق يوضّح أنه في عام 2010، أُنشئ قسم خاص داخل وزارة العدل يُعرف بـ“قسم الشؤون الخاصة”، ووُضع تحت سلطة محام عسكري سابق كان مكلفًا سابقًا بصياغة مرافعات قانونية لتبرير عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء التي نفذها الجيش الإسرائيلي. وتتمثل مهمته الرسمية في “إدارة جميع القضايا المتعلقة بالإجراءات القضائية الدولية الناشئة عن أفعال الدولة”.
من بين مهامه تقييم مخاطر توقيف مسؤولين عسكريين أو مدنيين إسرائيليين أثناء سفرهم إلى الخارج. وفي عدة حالات، نجح القسم في دفع شخصيات سياسية بارزة، يُحتمل أن تكون ملاحقة أو مهددة بالاستجواب في قضايا جرائم حرب، إلى إلغاء زياراتها لدول أوروبية.
وفي وثيقة سرية تعود إلى عام 2020، تفاخر القسم بأنه “غيّر بشكل لا رجعة فيه طريقة تعامل إسرائيل مع تحديات الحرب القانونية”، وأنه حقق “إنجازات مهنية استثنائية”، بما فيها “إغلاق عشرات القضايا الجنائية والمدنية حول العالم ضد الدولة وكبار مسؤوليها”.
منع الملاحقات المرتبطة بالتسليح والاستيطان
الجزء الأكبر من عمل القسم جرى خلف الكواليس، حيث إنه تدخل مرارًا للتأثير على مسار إجراءات قضائية في دول غربية ضد شركات تزوّد الجيش الإسرائيلي بالسلاح أو تعمل في المستوطنات المقامة في الضفة الغربية، يتابع “ميديابارت”.
الجزء الأكبر من عمل القسم جرى خلف الكواليس، حيث إنه تدخل مرارًا للتأثير على مسار إجراءات قضائية في دول غربية ضد شركات تزوّد الجيش الإسرائيلي بالسلاح أو تعمل في المستوطنات المقامة في الضفة الغربية
في عام 2018، على سبيل المثال، تم النظر في قضية أمام محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي بشأن قانونية قرار فرنسي يُلزم بوسم منتجات المستوطنات الإسرائيلية على أنها كذلك. وإدراكًا لخطر تحوّل قضية محلية إلى سابقة قضائية أوروبية، مارس القسم ضغوطًا على منتج النبيذ الإسرائيلي “بسغوت”، صاحب الدعوى، لسحب شكواه، يذكّر “ميديابارت”.
في وثيقة داخلية يعود تاريخها إلى شهر سبتمبر من عام 2019، حذّر القسم من أن “مجرد خطر صدور قرار سلبي في مسائل أساسية من القانون الدولي في هذا التوقيت، بينما تحاول إسرائيل منع فتح تحقيق محتمل من قبل المحكمة الجنائية الدولية، يُعد أمرًا مقلقًا للغاية”.
كما أظهرت الوثائق اتفاق وزارات العدل والخارجية والتجارة الإسرائيلية على حشد “الدول الصديقة” داخل الاتحاد الأوروبي لتقديم مذكرات داعمة لإسرائيل أمام محكمة العدل الأوروبية، يؤكد “ميديابارت”.
ضغوط على القضاء في دول أوروبية
أسهمت الضغوط، التي أُخفيت على الأرجح في خرق للقانون الإسرائيلي، في إسقاط قضايا عدة، منها قضية ضد شركة Riwal الهولندية المتورطة في بناء جدار الفصل في الضفة الغربية.
كما ساهمت جهود اللوبي الإسرائيلي عام 2009 في حفظ قضية جنائية في إسبانيا كان يُشتبه فيها بضلوع وزير الدفاع آنذاك بنيامين بن إليعازر وستة ضباط كبار في مقتل 14 مدنيًا في غزة، بينهم أطفال ورضّع.
كما عمل القسم على حماية الجنود مزدوجي الجنسية في الجيش الإسرائيلي، عبر إنفاق عشرات ملايين اليوروهات على أتعاب محامين في دول عدة، من بينها إسبانيا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، يؤكد “ميديابارت” في تحقيقه هذا مع وسائل إعلام أوروبية أخرى.
كسب الوقت
تمثلت أبرز “نجاحات” القسم – بحسب تقاريره – في تأخير فتح تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية لمدة عشر سنوات.
عمل القسم على حماية الجنود مزدوجي الجنسية في الجيش الإسرائيلي، عبر إنفاق عشرات ملايين اليوروهات على أتعاب محامين في دول عدة
فبعد عملية “الرصاص المصبوب” (2009-2008) التي أودت بحياة أكثر من 1400 فلسطيني في غزة، طالبت السلطة الفلسطينية بفتح تحقيق. وفي عام 2015، وبعد إعلان المدعي العام فتح تحقيق أولي، سمح بنيامين نتنياهو ببدء “حوار سري” مع مكتب الادعاء للطعن في اختصاص المحكمة.
لعب قسم الشؤون الخاصة دورًا محوريًا في هذا الحوار، وصرّح في تقاريره بأنه “حافظ على حضور دائم في لاهاي، وحدد مراكز النفوذ داخل مكتب الادعاء، وبنى علاقات مع شخصيات رئيسية”. وقد زار مدير القسم، روي شوندارف، مقر المحكمة مرتين على الأقل خلال عامي 2015 و2018.
وفي نهاية المطاف، تم فتح التحقيق رسميًا عام 2021، لكن القسم يرى أنه نجح في كسب “وقت ثمين”، حيث “ساهم بشكل كبير في تأخير قرار فتح التحقيق لعقد كامل”.
التدخل في قضايا وطنية أوروبية
لم تقتصر أنشطة القسم على القضاء الدولي، حيث إنه تدخل في هولندا في قضية ضد شركة Four Winds التي تزود الجيش الإسرائيلي بالكلاب. ففي عام 2014، هاجم كلب عسكري فتى فلسطينيًا يبلغ 16 عامًا، ما أدى إلى إصابته بجروح خطيرة. وطالبت محاميته بتعويض وبمنع الشركة من تصدير الكلاب لإسرائيل، يوضح “ميديابارت”.
كلفت وزارة العدل الإسرائيلية محاميًا هولنديًا بتمثيل الشركة سرًا، دون الإفصاح عن أنه يعمل أيضًا لصالح الدولة الإسرائيلية. وتم التوصل إلى تسوية مالية بقيمة 20 ألف يورو مقابل إسقاط الدعوى، تبيّن لاحقًا أن الحكومة الإسرائيلية هي التي دفعت المبلغ، وليس الشركة.
تقول المحامية اليوم: “كنت أعتقد أنني أتفاوض مع شركة هولندية، بينما كان المحامي في الواقع تحت سيطرة إسرائيل”، كما ينقل عنها التحقيق.
أكدت وسائل الإعلام الأوروبية هذه في نهاية التحقيق أنها وجّهت أسئلة تفصيلية إلى وزارة العدل الإسرائيلية، وأنّ الأخيرة اكتفت بتأكيد التوصل بالأسئلة لكنها لم تقدم أي رد عليها. مع الإشارة إلى أن قانون وسائل الإعلام في إسرائيل يمنع نشر أو مناقشة مضمون هذا التسريب.
المصدر صحيفة القدس العربي

