اقتصادتقارير ودراساتفلسطيني

نصرعبد الكريم: الحرب على قطاع غزة شلّت قدرة السلطة الفلسطينية على الإنفاق العام (1-2)

تتجاوز عقوبات الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين قصفهم وحصارهم وقتلهم، فلا يوجد حالة مواجهة خاضتها إسرائيل ضدهم إلا وحاولت أن توظف الاقتصاد كواحد من أدوات المواجهة والعقاب، وهو ما يحدث في العدوان الجاري على قطاع غزة، وما زال، حيث تمارس سياسات العقاب الجماعي من بوابة الاقتصاد.

وفي هذا الحوار الموسع مع الخبير الاقتصادي والأكاديمي الفلسطيني الدكتور نصر عبد الكريم نقف على الملف الاقتصادي والحرب، وأبرز معالم المعركة الاقتصادية التي تلعب دورا كبيرا في صمود الفلسطيني وبقاء مقاومته.

وفي حواره مع «القدس العربي» يشدد عبد الكريم على أن السلطة الفلسطينية تعاني من شلل في قدرتها على الانفاق العام الحكومي، وهو أمر وصل إلى حوالي 80%، حيث بقي الاقتصاد الفلسطيني يعمل بطاقة 20% فقط.

ويرى عبد الكريم وهو أستاذ جامعي ومستشار لمجموعة من المؤسسات الرسمية والدولية أن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها السلطة هي أزمة سيولة، وأن البنوك الفلسطينية يمكنها أن تحل جانبا مهما من الأزمة التي تسبب بها امتناع الحكومة الفلسطينية عن قبول تحويلات أموال المقاصة.

ويرى عبد الكريم أن الدول العربية يمكنها أن تحل أزمة السلطة، لكنها لا تفعل لكونها ترتبط بموقف سياسي واضح، وفي انتظار ترتيبات سياسية معينة تتعلق بإعادة هندسة السلطة من جديد.

ووصف حالة السلطة الفلسطينية أنها «حالة انتظار» وشلل وجمود، كما اعتبر أن الاحتلال الإسرائيلي لن يسمح للفلسطينيين بالانفكاك عنها اقتصاديا، على اعتبار أن «الاقتصاد هو الخاصرة الرخوة في الجسم السياسي الفلسطيني» وأن دولة الكيان لن تمنح الفلسطينيين «حق التمرد عليها» وفيما يلي نص الحوار:

هناك عدوان وحشي منذ أكثر من شهرين على قطاع غزة والضفة الغربية أيضا، وبالمقابل هناك حرب اقتصادية توازي ما يجري في الميدان العسكري، ما هي قراءاتك لأبرز معالم هذه الحرب؟

■ لا يوجد حرب خاضتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، إلا وحاولت أن توظف الاقتصاد كواحد من أدوات المواجهة معنا، حدث هذا طوال تاريخ المواجهة، فدولة الاحتلال تعتقد أن الاقتصاد هو أحد ساحات المواجهة، وهو ما يفسر محاولات إسرائيل منذ الـ1967 في أن تُبقي الاقتصاد الفلسطيني في حالة تبعية مطلقة لها، بحيث يكون هناك هيمنة كبيرة عليه، حتى عندما وقعت اتفاق أوسلو، حاول الاحتلال أن يضع مفاتيح الاقتصاد الفلسطيني في يده، فهو يرى أن الاقتصاد هو أحد الأدوات التي يمكن أن تستخدم تماما مثل المدرعات والدبابات.

تبعا لذلك، وعندما شن الكيان عدوانه الأخير على غزة، وما زال، كان من الطبيعي أن تمارس هذا النوع من العقاب الجماعي للفلسطينيين من خلال الاقتصاد، في غزة لا يوجد مرتبة أعلى من العقاب الذي تمارسه اليوم في العدوان بواسطة الطيران والدبابات، وبالتالي مقاييس الاقتصاد في غزة تختلف، فلا نستطيع أن نطبق المقاييس التقليدية في غزة لأنها خرجت عن كل توصيف.

في الضفة الغربية أنا كنت أتوقع منذ اليوم الأول للحرب أن تمارس إسرائيل الضغط، وبعضه جاء بشكل تلقائي، ودون رغبة من دولة الكيان وإنما لاعتبارات أمنية، فيما القسم الاخر هم من اختاروه وقرروه، فمثلا عندما نتكلم عن منع العمال في الداخل المحتل من العمل، هو نتيجة طبيعية للغاية ولاعتبارات أمنية أن يدفعوا الفلسطينيين للمغادرة.

في جانب أخر، تمت معاقبة الفلسطينيين من خلال السلطة الفلسطينية، حيث تم اقتطاع جزء إضافي من أموال المقاصة. قبل الحرب وبشكل شهري، وعلى مدى سنوات طويلة كان الكيان يقتطع مبلغ 250 مليون شيكل من أموال المقاصة، وبالتالي كان يتبقى للسلطة مبلغ 750 مليون شيكل تقريبا، وعندما بدأ الهجوم قام كل من «سموتيرتش» و»بن غفير» باقتطاع كل الأموال التي تدفع لغزة، أي ما بين 150 الى 200 مليون شيكل إضافية. طبعا فاتورة غزة مسألة معقدة وإشكالية، فهناك من يعيش في الضفة ومسجل على رواتب غزة مثلا. وبالتالي أصبح مجموع ما تم خصمه ما يقرب من 450 مليون شيكل.

أيضا هل هناك ضرر يتعلق بالاقتصاد الفلسطيني في الضفة في ظل سياسات الاحتلال التي تقوم على الحصار وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية؟

■ بالنسبة إلى الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية، يكمن الضرر في الاجراءات الاسرائيلية الداخلية، وهذا عقاب مباشر، حيث تعتمد قوات الاحتلال على تقطيع أوصال الضفة، لقد حولت مدن الضفة إلى تجمعات سكانية منعزلة، وهذا عطل الحياة الاقتصادية في الضفة، عطل حركة ما تسمى بال movement» access to» وهي إمكانية التحرك سواء لنقل البضائع وتنقل الاشخاص والعمال فهي أصبحت أصعب، ومكلفة أكثر أيضا، وبالتالي هذا شل تقريبا بتقديري 40% من حركة الاقتصاد الفلسطيني لوحده فقط، دون عقوبات إسرائيلية أخرى.

وإذا نفترض أن الموازنة وعملية حجبها والامتناع عن قبول جزء كبير منها عبر رفض استلام أموال المقاصة منقوصة فإن النتيجة هي شل قدرة السلطة على الانفاق العام الحكومي الذي كان يقدر بمليار و400 مليون شيكل شهريا، إلى جانب توقف العمال في الداخل الفلسطيني المحتل، هنا نستطيع أن تقول إن الاقتصاد الفلسطيني، شل حوالي 80% منه تقريبا، حيث بقي الاقتصاد الفلسطيني يعمل بطاقة 20% منه فقط.

هذه الـ20% التي يتحرك فيها الاقتصاد في الضفة الغربية، ما هي أبرز مجالاتها؟

■ ما تبقى من السيولة التي استلمها الموظفون (50% من الراتب) إلى جانب بعض العمال الذين عادوا في الفترة الأخيرة للعمل في المستعمرات الإسرائيلية، مع الأسف، إلى جانب القطاع الخاص ومؤسساته، مثل: شركات التأمين، الجامعات، البنوك، كما أن هناك قطاعا خاصا لا بأس به، حيث لا زال يدفع رواتب موظفيه، وهناك أيضا وسائل ادخار، هناك مدخرات سابقة كانت موجودة، وأظن أنه مع نهايات هذا الشهر تكون الناس قد استنزفتها، وهناك تحويلات الفلسطينيين من الخارج، من المغتربين الى أهاليهم في الضفة، وهذه العوامل كلها تفيد أن 20% من الاقتصاد ما زال يعمل.

انظر إلى مدينة مثل رام الله التي تعتبر منطقة اقتصادية حيوية، ستلاحظ ان المقاهي والمطاعم وحركة التجار جميعها انخفض نشاطها من 50 إلى 60% ، وبعض مرافقها أغلقت بسبب قلة المرتادين. وبالتالي نجد أن ما بين 20-25% من الاقتصاد لا زال يعمل، والباقي تعطل بشكل مؤقت، وهذا هو المشهد.

الأزمة الاقتصادية هي أزمة سيولة على كل الأحوال، وكل هذا يتلخص فيما يسمى «liquidity crush» يعني وجود «صدمة سيولة» فلا يوجد سيولة في الضفة، السيولة التي كانت تأتي من مصادر مختلفة مثل: العمال، الانفاق الحكومي، مساعدات ومؤسسات دولية، جميعها تراجعت، منها ما تم شطبه تماما، مثلا 90%من عمال الداخل انشطبت، الانفاق الحكومي تراجع إلى أكثر من 80%، المساعدات والمؤسسات الدولية تقريبا أصبحت تعمل في الحد الأدنى خصوصا ونحن في نهاية السنة، لم يجددوا أي مشاريع جديدة، ومنهم من حجب التمويل الذي كان لمؤسسات حكومية وحقوقية بادعاء أنهم لم يستنكروا ولم يدينوا حماس، حيث تم حجب التمويل عن 6 مؤسسات مجتمع مدني قبل فترة، لذلك هذه المصادر جففت السيولة، بمعنى أن كثيرا من حركة التجارة والاقتصاد تراجعت كثيرا، آخر احصائية لوزارة الاقتصاد الوطني قالت إن 61% من الشركات خفضت عدد عمالها على الأقل بنسبة 40%، بالمتوسط، لذلك من الواضح أن أكثر من ربع العمال تقريبا فقدوا عملهم، وأيضا من كان يعمل في الأعمال الحرة فقد عمله، هذا كله خلق أزمة سيولة، وفي المقابل توقفت البنوك عن منح القروض، وأصبحت حذرة جدا.

لكن حذر البنوك الفلسطينية قابله تقديمها 50% من رواتب الموظفين عن الشهر الماضي؟

■ صحيح، لقد ساهمت بنسبة 50% من رواتب الموظفين، لكن هذا غير كافي، لذلك فإن أزمة السيولة هذه عكست الأوضاع العامة، والبديل والحل لذلك هي أن تضخ سيولة جديدة، والذي يستطيع أن يضخ سيولة في السوق هما مصدران أساسيان: السلطة والبنوك، فالسلطة بمعنى الرواتب والنفقات الأخرى والمستحقات للقطاع الخاص، حيث يتوجب على السلطة دفع مستحقات متأخرة تقدر بالمليارات سواء للمستشفيات والشركات…الخ. يبدو المشهد وكأن الأطراف جميعها تعمل لخزينة السلطة، فمثلا البنوك تعطي قروضا للموظفين، وكذلك تعطي قروضا للسلطة، القطاع الخاص يعطي ويقدم سلعة للمواطنين ويبني مشاريع دون أن يحصل على مقابل مادي من الحكومة، إلى جانب الممولين الدوليين الذين يلاحظ أنهم تراجعوا في الفترة الأخيرة.

وبالتالي الجهات الممولة للسلطة وهم الذين تتكئ عليهم في أزماتها المالية أصبحوا في أزمة مضاعفة، ومع الأسف لقد تراكم على الحكومة الدين العام كثيرا، وأنا أرى أنه كي تستطيع السلطة أن تعود وتنفق ويأتيها مصادر دخل إضافية فإن المطلوب من البنوك أن تعيد النظر في سياستها، بمعنى ألا تمارس نفس الحذر الذي تمارسه اليوم.

إذن هل تبدو السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وتحديدا الحكومة في مأزق كبير ؟

■ طبعا، لكي تتمكن الحكومة من الانفاق وضخ سيولة فإنه يلزمها مصادر دخل، نلاحظ اليوم أنها لن تستطيع أن تجني ضرائب، فمثلا لن تقوم الأن بطلب ضرائب محلية مثل: ضريبة الدخل، أما ضرائب القيمة المضافة والجمارك فالملاحظ أن هناك تراجعا كبيرا في ظل ضعف الاستهلاك.

شخصيا، لم أصدم عندما قالوا إن تحصيلات السلطة من الضرائب والجباية المحلية قلت بنسبة 60% أو أقل، حيث لم يتبقى منها إلا حوالي 45%، فبعد أن كانت تجلب 400 مليون شيكل شهريا في آخر شهر أكتوبر الماضي نجدها في شهر نوفمبر لم تتجاوز 150 مليون. وبما أن معظم موارد السلطة الفلسطينية مصدرها المقاصة، أي 70% تقريبا، وليس من الجباية المحلية، ندرك بعمق مدى اعتمادنا على أموال المقاصة، التي امتنعنا عن قبولها كنوع من الموقف السياسي، وبالتالي أصبحنا في أزمة حقيقة.

لذلك عندما لا تستطيع أن تأتي بجباية محلية، ولم تقبل بأموال المقاصة لاعتبارات سياسية، فالبديل هنا هو ما تقترضه من البنوك، والبنوك حذرة ومترددة جدا في هذا الموضوع، لكن ستفعل هذا الشهر أيضا، فهي تقدر وتستطيع أن تقدم تمويلا للحكومة وهي ستفعل ذلك دون شك. أنا أعتقد أنها ستقرض السلطة. فعندما تريد أن تمرر أزمة يجب أن تساعد وأن تكون شريك لتمريرها، والبنوك تقدر على فعل لذلك.

عمال فلسطينيون يرممون أحد أنابيب المياه بعد قصف قوات الاحتلال له

هل يطرح البعض بديلا آخر إلى جانب كل ما تحدثت عنه؟

■ البديل الآخر هو المساعدات الدولية، سمعت قبل أيام أن النرويج تحاول أن تعوض النقص الذي حصل بسبب أموال المقاصة، بان تدفع 70 مليون شيكل، لكن هذا مبلغ زهيد، مثلا لو قامت دولة عربية بتعويض النقص بإن تدفع 100 مليون دولار شهريا فإنه يمكن لهذا المبلغ أن يحل الأزمة، لكن على ما يبدو هناك موقف سياسي ما، فالعرب (اقتصاديا) قادرون على دفع المبلغ، لكن هناك موقف سياسي واضح، من الممكن أن يكونوا راغبين لكنهم ينتظرون سياسات وترتيبات معينة، هم ليسوا أحرارا( بالتصرف ) ولا يمتلكوا السيادة المطلقة على مواردهم، أظن أنهم ينتظرون مباركة امريكية، مثل أوروبا تماما، وهذه المباركة من الواضح أنها لم تأت بعد، لأن أمريكا أيضا تضغط على الوضع الفلسطيني لتسهيل مهمة إعادة الترتيبات، ولإعادة هندسة السلطة من جديد.

هذه الصورة كما تسردها ليست ايجابية، هل يمكن أن تتحول لأداة ضغط على السلطة أو على القرار الفلسطيني أو على مصير السلطة ومستقبلها؟

■ اعتقد أن العلاقة ضعيفة للغاية، من الواضح أن الناس حتى الآن ليست متذمرة من الوضع الاقتصادي، كما في الكيان الصهيوني، هناك يدفعون مليارات الشواكل للناس المتضررة، هذه رشوة كي يلتزموا الصمت، وبالتالي هناك لم يشعروا بأن الحرب طالتهم أو أثرت عليهم شخصياً.

في فلسطين هناك أسباب كثيرة تمنع الناس من أن تتذمر وتحتج حتى لو تضررت اقتصاديا، رغم عدم وجود من يعوضهم، أولا، كثير من الموظفين يعملون في السلطة الفلسطينية تقريبا 200 ألف عائلة، وكثير منهم محسوبون على حركة فتح وهي التي تحكم البلد، حتى الحكومة من حركة فتح، وكثير منهم محايدون ولم يتضرروا، وهم المثقفون والنخب الذين يعملون في مؤسسات دولية، والأحزاب حركتها مع الأسف ضعيفة جدا ، وعلاقتها مع الجمهور والشعب متوترة جدا ، وفيها شكوك كثيرة.

بالتالي في الشارع الفلسطيني لا يوجد دوافع تجعلنا نشعر أن هناك احتجاجات وتذمرا يضغط على الموقف القيادي الفلسطيني، وأنا أخشى أنه حتى لو ظهرت مواقف من هذا النوع فإنها يمكن أن تُفسَرَ سياسيا في هذه المرحلة بأن هؤلاء الناس يتحركون خدمة لأجندات خارجية ولا تحركهم المصلحة الوطنية، وهنا يرفع في وجوههم عبارات أن المشروع الوطني مهدد وجوديا.

أيضا، لو كان هناك من فرصة للاحتجاج على الوضع الاقتصادي ،لظهرت على مدار الـ28 شهرا الماضية التي انقطعت فيه الرواتب الكاملة، تصور أنه مضى 28 شهرا والموظفون يحصلون على 80% من رواتبهم ولم تسمع أي صوت.

حسنا، في المقابل، هل يمكن أن يؤثر ذلك على السلطة أو على موقفها السياسي، نحن إزاء مشهد اقتصادي متعثر جدا وفي أزمه كما عكسته الأرقام التي قدمتها أعلاه؟

■ لا، أعتقد أن السلطة بمرحلة انتظار، إنها في مرحلة تجميد لحركتها بالحد الأدنى، وهي تنتظر، لديها تخوفات على مصيرها ومصير قيادتها، وبالتالي حتى على مصيرها بشكلها الحالي، لذلك أنا أظن أنها تكتفي اليوم بدور المتفرج، إلا من تصريح هنا وهناك. حركتها واضحة وبطيئة جداً، ومقيدة ومشلولة، ليست قادرة على أن تلعب دورا في(وقف ) الحرب على غزة، ولا بالحراك الدبلوماسي، لذلك يصعب على السلطة اليوم أن تأخذ أي خطوة سياسية أو أمنية غير محسوبة ، وهذا يعني أنه قد يهدد وجودها بالكامل، وتحديدا هيكلها القيادي.

من الواضح أن هناك تحييدا متعمدا لها من المواقف التي تجري، تترك المركب يسير لترى على أي شاطئ سيرسي، إنها تنتظر، وتراهن على وعود أمريكية بأنها ستستمر، وأنه سيكون هناك أفق سياسي دولي، وأنها الوحيدة المرشحة للعودة إلى غزة، بغض النظر عن موقف اسرائيل، وبالتي هي كالعادة تنتظر على الرصيف، وتلعب دور المتفرج.

القصة هنا أن الانتظار ليس فعل وليس موقف بالمرة في لحظة حرجة؟

■ صحيح، هناك تجميد وتحييد لدورها، عندما ترى أن الظروف مناسبة للتحرك ستتحرك، أنا أراهن على أنها ستعود وتنشط وتتخذ مواقف مرة أخرى، وقد تكون أكثر وضوحا في موضوع الصراع على غزة، لكن اليوم هناك خجل حتى في المواقف.

استخدمت خلال الحوار كلمة للأسف، عند الحديث عن موضوع عودة العمال للعمل في المستعمرات، وهو أمر غير وطني وغير أخلاقي، وتحديدا في هذه اللحظة، لكن هل هناك حل أو بديل بحيث يمكن للفلسطيني العزوف عنه؟

■ في سنة 2010، تم اصدار مرسومين بقرار من الرئيس محمود عباس، الأول كان ينص على أنه يمنع منعا باتا العمل في إسرائيل، وهو أمر يعرض الشخص للملاحقة، والثاني يمنع منعا باتا التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية والاستثمار فيها، وعلى ضوء ذلك بدأ جدل حول هذين القرارين، وهما عنوان لتقصير كبير، فالسلطة عمليا لا تستطيع أن تدفع العمال- في كل سياستها منذ تأسيسها وحتى اليوم- للعمل والتجارة والخدمات..الخ في اتجاه إسرائيل، بحيث تدخل مع الاحتلال بالكامل ضمن حالة تبعية مطلقة، ثم تقول أنها ستقوم على انجاز انفكاك عن الاحتلال. سيكون السؤال: كيف نظمت الأسواق؟ كيف عدلت بين الناس؟ وكيف وزعت المكاسب بين الناس؟ لقد أصبح هناك فجوة طبقية هائلة في الحالة الفلسطينية، الذي يصبح غني فقط من كان قريبا من السلطة، أو القريب من إسرائيل فقط، حتى القطاع الخاص الفلسطيني الذي كان مستقلا وليس له علاقة بالسلطة والاحتلال، ظل كما هو، فعمليا الأغنياء في فلسطين بعد دخول السلطة عام 1994 جاؤوا من علاقاتهم المتميزة إما من كونهم صناع قرار في السلطة الفلسطينية أو من العلاقة مع الكيان بعلاقات تجارية، أو الاثنين معا.

عمليا السلطة لم تقدر على تنفيذ القرارين، وهذه نتيجة منطقية، هنا استحضر مشروع الدكتور محمد اشتية الذي قدمت حكومته خطة الانفكاك بصفتها هدفا استراتيجيا (2019) حيث اعتمد «التنمية بالعناقيد» كان يحمل هدفا نبيلا، لكنه غير واقعي وغير ممكن، وأسباب ذلك كثيرة من ضمنها أنه استخدام مصطلح «التنمية بالعناقيد» بطريقة خاطئة، ولم يكن لهذا المصطلح أي صلة بالواقع، وكانت شيئا مخترعا، وثانيا نحن وبشكل عملي لا نسيطر على حدود أو أرض أو موارد، أو مياه أو طرق، وبالتالي لا يمكن أن تعمل تنمية تدفع بك للانفكاك عن اسرائيل، واسرائيل لن تسمح لك بذلك، هي تؤمن أن الاقتصاد هو الخاصرة الرخوة في الجسم السياسي الفلسطيني، وهي تريد أن تبقي على هذه الحالة من الرخاوة التي مصدرها العمال والتجار والسلطة وموازنتها وأموال المقاصة، وعليه يكون السؤال: كيف تمنحك إسرائيل حق التمرد عليها؟ سياسيا الأمر لا يستقيم.

السؤال هنا هل من الممكن ذلك؟

■ عمليا نعم ممكن، الكثير من الناس تخلط بين الاستقلال والسيادة، الاستقلال ليس دائما عنوانا للسيادة، هناك عدة دول مستقلة لكنها ليست سيدة، أنا أريد سيادة وليس استقلال، السيادة شرط كافي للاستقلال، لكن الاستقلال ليست شرطا كافيا للسيادة، نحن نحتاج إلى سيادة على الأرض والحدود والسياسة..الخ، سيادة في السيطرة على كل شيء، على الشعب، سيادة في الحق أن اقرر ما يخدم مصلحتي، وطالما هناك سيادة منقوصة لا يمكن تحقيق ذلك.

منذ سنوات طويلة وأنا أحذر من عدم الدخول في إعادة تفاوض مع الإسرائيليين- أياً كانت حكومتهم- على الملف الاقتصادي وترتيب العلاقات معهم من جديد، أي فتح ملف باريس الاقتصادي، وتحديدا بمعزل عن تقدم مهم وجدي ومفتوح على أفق لعملية السلام. قلت إنه وفي حال قمنا بذلك فنحن نخطئ مرتين كما السابق، أولا: بجعل الاقتصاد رهينة للسياسة الأمنية، وبذلك لن نتحرر من سقف اوسلو ولا من سقف اتفاقية باريس، وثانيا: في حال فتحت الاتفاق من جديد في ظل أن إسرائيل ليس جمعية خيرية، حيث كانت ستوافق على ذلك لكنها كانت ستطلب شيئا بالمقابل، مثل أن تطلب توسعا في نشاطنا ضد المقاومين، أو زيادة التنسيق الأمني، أو التنازل عن القدس، أو انجاز تبادل أراضي، حتما ستطرح عليك قضايا الحل النهائي، وتعطيك مقابل ذلك مقايضة اقتصادية، ولم يكن أحد مستعد لذلك.

يفترض أن نبحث عن الندية في العلاقات الاقتصادية، أما ما يجري فهو التبعية، نحن نريد الندية، ومتى تكون ندا حتى لو كنت فقيرا، عندما تمتلك سيادتك، ويمكننا لحظتها أن نفرض شروط العلاقة مع الاحتلال عندما نأخذ دولتنا بكل ما تشمل من حدود وأراضي.. الخ، اليوم تأخذ إسرائيل العمال دون حتى موافقتنا، وبالتالي يجب أن يكون هناك تسوية في الملف السياسي والأمني بطريقة عادلة وشاملة، ومن ثم ندخل في علاقات في الجانب الاقتصادي، ووقتها ستأتي «تحصيل حاصل» أي نتيجة معادلة التسوية السياسية والأمنية.

كيف تقرأ سلوك الحكومة في رفض أموال المقاصة، حيث وصفت رفضها بإنه مشروع؟

■ نعم، رفض استلام أموال المقاصة مشروع، لكن ما هو غير مشروع أن الحكومة لم تفكر ببدائل قبل أن يرفضوها، أنا مع الموقف السياسي الذي تم التعبير عنه بأنه لن نستلم المقاصة إذا كانت منقوصة، إنه موقف يستند إلى شعور الحكومة بأنه قد يضر في ربط غزة مع الضفة والقدس في مشروع واحد، وهذا يدفع ويعزز الانفصال، وكأن السلطة تخلت عن غزة، ولذلك أنا كنت أقول لا يجب أن نتسلم الأموال منقوصة، وأن مخصصات الآسرى والشهداء يجب أن تستمر في الدفع، مشروع لنا أن نرفض المقاصة، لكن ليس من المشروع أن نترك الحال مكشوفا دون بدائل، لقد خضنا مع إسرائيل تجربة سابقة وتحديدا مع مخصصات الأسرى والشهداء، لكننا بعد 6 شهور تم التسوية واستلام أموال المقاصة، ولا يتوفر لدي معلومات حول أي اتفاق غير مرئي وغير مكتوب بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول الأموال التي يتم خصمها، يعني هل تحول الأموال بين الحين والآخر مرة أخرى ضمن سياسة ما يسمى بـ»الباب الدوار» فنحن نعلم أنها توضع في صندوق، أما ماذا سيحل بها، لا أعرف، وفي حينه تم تصوير ذلك على أنه انجاز كبير، وقيل في حينه أن ضريبة المحروقات ستُحصل من الفلسطينيين مباشرة، وهو ما لم يحصل، وإسرائيل لن تتنازل عن هذه الأوراق.

هنا أقول أنه كان من المفروض من ذلك الوقت أن تدرك الحكومة أنه يجب العمل على توفير البدائل، كي تستطيع أن تصمد شهرين مثلا، كان يجب الاجتهاد على الصعيد العربي بشكل مكثف، والغربي لإعطاء مساعدات، وهذه المساعدات توفر منها، لتستطيع أن تطلق صندوق ادخار للطوارئ، وأيضا ترشيد النفقات، وانجاز اصلاحات مالية، ومنع التهرب الضريبي، وايجاد بدائل وضمانات، مثل صندوق ما يسمى «تعويض الفلسطينيين عن المقاصة» الذي طرح أوروبيا، حيث قدم الأوروبيون حلا تمثل في أنهم على استعداد لعمل صندوق لتعويض الفلسطينيين على ما يتم خصمه، بشرط أن تحوله إسرائيل لاحقا لهم، من المفروض أن تكون الحكومة قد تابعت هذا الملف، وجعلته رقم واحد( في أولوياتها) فإذا كنت غير قادر على منع اسرائيل من توظيف الاقتصاد والمقاصة كورقة ضغط وابتزاز سياسي، عليك ان توفر لنا البديل، لأن خياراتنا السياسية قد تتعارض مع إسرائيل في أية وقت، لكن هذا لم يحصل، فنحن نسترخي، عندما تكون هناك حالة انفراج ولو كانت وهمية ، وتصبح خياراتنا الاقتصادية ووسائل ادارتنا للاقتصاد كأننا في ظرف طبيعي، وهذا أمر غير ممكن في ظل وجود صراع محتدم، فنحن في خضم صراع فكري وديني وأيديولوجي وسياسي. وإسرائيل ليست جمعية خيرية، لذلك أعتقد أن المشروع هو الموقف، وغير المشروع هو عدم الجدية في توفير بدائل تمهيدا ودعما لهذا الموقف.