نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا لمدير مكتبها في لندن مارك لاندلر، بعنوان: “مع تزايد عدد القتلى في غزة، عزلة إسرائيل تتزايد”، أكد فيه أن الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع الفلسطيني، جلبت موجة من الإدانة للعملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة، وهي بمثابة اختبار للدعم الذي تقدمه أقوى حليف لها، الولايات المتحدة.
الكاتب الذي يغطي شؤون المملكة المتحدة، بالإضافة إلى السياسة الخارجية الأمريكية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وعمل صحافيا لأكثر من ثلاثة عقود، كما تعرّفه الصحيفة، بدأ مقاله بخلفية تاريخية أشار فيها إلى “تحذير ديفيد بن غوريون، أحد الآباء المؤسسين لإسرائيل، في عام 1955 من أن خطته للاستيلاء على قطاع غزة من مصر ستثير رد فعل عنيفا في الأمم المتحدة، حيث سخر من الأمم المتحدة، مرددا اختصارها العبري، “أوم شموم” (ومعناه الأمم المتحدة أرض قاحلة).
لقد أدى التعاظم الهائل في الضغوط العالمية إلى ترك الحكومة الإسرائيلية ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في عزلة شديدة. وإن لم تكن قد خضعت بعد، فيرجع ذلك إلى أنها لا تزال تحظى بدعم الولايات المتحدة
و”جاءت هذه العبارة لترمز إلى استعداد إسرائيل لتحدي المنظمات الدولية، عندما تعتقد أن مصالحها الأساسية معرضة للخطر”.
ولفت الكاتب إلى أنه “بعد مرور ما يقرب من 70 عاما، تواجه إسرائيل موجة أخرى من الإدانة في الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، ومن عشرات الدول بسبب عمليتها العسكرية في غزة، التي أسفرت عن مقتل ما يقدر بنحو 29 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال وخلفت دمارا شاملا في المنطقة”.
وأضاف: “لقد أدى التعاظم الهائل في الضغوط العالمية إلى ترك الحكومة الإسرائيلية ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في عزلة شديدة، وإن لم تكن قد خضعت بعد، فيرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى أنها لا تزال تحظى بدعم أقوى حليف لها، الولايات المتحدة”.
واستطرد: “لكن هذه المرة، تواجه إسرائيل قطيعة نادرة مع واشنطن. وتعمم إدارة بايدن مشروع قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يحذر الجيش الإسرائيلي من شن هجوم بري في رفح، بالقرب من مصر، حيث يقيم أكثر من مليون لاجئ فلسطيني، كما سيدعو إلى وقف مؤقت لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن”.
وأشار الكاتب إلى مارتن إنديك، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل؛ الذي قال: “إنها مشكلة كبيرة للحكومة الإسرائيلية لأنها كانت قادرة كما في السابق على الاختباء خلف حماية الولايات المتحدة. لكن بايدن يشير الآن إلى أن نتنياهو لم يعد قادرا على اعتبار هذه الحماية أمرا مفروغا منه”.
وأضاف إنديك: “هناك سياق أوسع من الإدانة من قبل الرأي العام الدولي، وهو أمر غير مسبوق من حيث الاتساع والعمق، الذي امتد إلى الولايات المتحدة. لقد أصبحت الدوائر الانتخابية التقدمية والشبابية والعرب الأمريكيون في الحزب الديمقراطي، غاضبة وتنتقد بايدن بشدة لدعمه لإسرائيل”.
ويلفت الكاتب إلى أنه حتى الآن، لم يسمح الرئيس بايدن للضغوط الدولية أو المحلية بالتأثير عليه. وفي يوم الثلاثاء، عادت الولايات المتحدة للقيام بدورها المألوف، حيث استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع صدور قرار، بمبادرة من الجزائر، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. وهذه هي المرة الثالثة خلال حرب غزة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض ضد قرار يضغط على إسرائيل.
وذكر الكاتب أنه منذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، أي قبل قيام دولة إسرائيل بثلاث سنوات، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من 40 مرة لحماية الدولة العبرية من مجلس الأمن. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث الأمريكيون مجرد صوت آخر، أصبحت القرارات ضد إسرائيل أمرا شائعا. وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، صوّتت الجمعية العامة بأغلبية 153 صوتا مقابل 10، مع امتناع 23 عضوا عن التصويت، على وقف فوري لإطلاق النار.
أي قطيعة مع الولايات المتحدة، أكبر مورد للأسلحة إلى إسرائيل، وحليفها السياسي القوي، والمدافع الدولي الرئيسي عنها، ستكون مسألة مختلفة تماما
وقال مايكل أورين، سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة، متحدثا عن الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وهيئات أخرى: “فيما يتعلق بالإسرائيليين، فإن هذه المنظمات تقف ضدنا. إن ما يفعلونه لا يؤثر علينا استراتيجيا أو تكتيكيا أو عملياتيا”.
لكن أورين أقرّ بأن أي قطيعة مع الولايات المتحدة، أكبر مورد للأسلحة إلى إسرائيل، وحليفها السياسي القوي، والمدافع الدولي الرئيسي عنها، ستكون “مسألة مختلفة تماما”.
ويقول الكاتب إنه بينما تتعرض إسرائيل لضغوط شديدة منذ الأيام الأولى لهجومها على غزة، فإن جوقة الأصوات من العواصم الأجنبية أصبحت مدوية في الأيام الأخيرة. وفي لندن، دعا حزب العمال المعارض، الثلاثاء، إلى وقف فوري لإطلاق النار، مغيّرا موقفه عن موقف حزب المحافظين الحاكم، تحت ضغط من أعضائه ومن أحزاب معارضة أخرى.
ونوّه الكاتب إلى أنه حتى الأمير ويليام، وريث العرش البريطاني البالغ من العمر 41 عاما، دعا إلى “إنهاء القتال في أقرب وقت ممكن”، وهو تدخل جيوسياسي نادر من قبل أحد أفراد العائلة المالكة الذين عادة ما يتجنبون مثل هذه القضايا. وقال ويليام في بيان يوم الثلاثاء: “لقد قُتل عدد كبير جدا”.
ولعل العرض الأكثر إثارة للانتباه لعزلة إسرائيل، وفق الكاتب، هو ما حدث في محكمة العدل الدولية، حيث يصطف ممثلو 52 دولة هذا الأسبوع لتقديم مرافعاتهم في قضية تنظر في شرعية “احتلال إسرائيل واستيطانها وضمها” للأراضي الفلسطينية. بما في ذلك الضفة الغربية والقدس الشرقية، وكان معظمهم ينتقدون إسرائيل بشدة.
وشبّهت جنوب أفريقيا معاملة إسرائيل للفلسطينيين بـ”شكل متطرف من الفصل العنصري”. وقد أشهرت حكومة جنوب أفريقيا قضية منفصلة في المحكمة، تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
وذكر الكاتب أنه في يوم الأربعاء الماضي، هبّت الولايات المتحدة مرة أخرى للدفاع عن إسرائيل، وناشدت المحكمة عدم إصدار حكم يلزم إسرائيل بالانسحاب غير المشروط من هذه الأراضي. وقال محامي وزارة الخارجية الأمريكية، ريتشارد فيسيك؛ إن هذا من شأنه أن يجعل التوصل إلى تسوية سلمية بين إسرائيل والفلسطينيين أكثر صعوبة؛ لأنه لن يأخذ أمن إسرائيل بعين الاعتبار.
لكن صوت أمريكا كان صوتا وحيدا، ولم تقدم سوى بريطانيا حجة مماثلة، كما يلفت الكاتب.
وقال فيليب ساندز، محامي حقوق الإنسان الذي تحدث نيابة عن الفلسطينيين: “الحقيقة هي العكس تماما”. وفي إشارة إلى أن المحكمة أكدت بالفعل حق الفلسطينيين في تقرير المصير، قال: “إن وظيفة هذه المحكمة.. وظيفة هؤلاء القضاة، ووظيفتكم هي تبيان القانون: توضيح الحقوق والالتزامات القانونية التي تسمح بحل عادل في المستقبل.”
ورغم أن حكم محكمة العدل الدولية سيكون استشاريا فقط، وقد رفضت تل أبيب حضور هذه الإجراءات. لكن تحدي إسرائيل للهيئات الدولية لا يعني أنها تتجاهلها تماما.
ولفت الكاتب إلى أن الحكومة الإسرائيلية رفضت في البداية ادعاءات جنوب أفريقيا بالإبادة الجماعية، ووصفتها بأنها “حقيرة ومزرية”. وكانت هناك تقارير تفيد بأن نتنياهو أراد إرسال آلان ديرشوفيتز، المحامي الذي دافع عن دونالد ترامب، والممول ومرتكب الجرائم الجنسية جيفري إبستين، لعرض قضية إسرائيل، وهو الاختيار الذي قال البعض؛ إنه كان سيحوّل جلسة الاستماع إلى جلسة سيرك.
دانييل ليفي: إسرائيل تدرك أنه يتعين إبقاء المعارضة العالمية على مستوى الخطابة. ولا يمكن السماح لها بالدخول إلى عالم التكاليف والعواقب
وفي النهاية، أرسلت إسرائيل فريقا قانونيا رفيع المستوى، بقيادة المحامي الأسترالي الإسرائيلي، تال بيكر، الذي قال إن جنوب أفريقيا قدمت “وصفا مخالفا للواقع” حول الصراع.
وأشار الكاتب إلى أنه في حكم مؤقت صدر في أوائل شباط/ فبراير، أمرت المحكمة إسرائيل بمنع ومعاقبة التصريحات العامة التي تشكل تحريضا على الإبادة الجماعية، وضمان دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكنها لم تستجب لطلب رئيسي من جنوب أفريقيا، وهو أن تعلق إسرائيل حملتها العسكرية.
وأكد أنه حتى مع الأمم المتحدة نفسها، فإن الدافع الإسرائيلي لقول “أوم شموم” لا يذهب أبعد من ذلك. وكثيرا ما تقوم إسرائيل بمناورات لنسف أو تخفيف قرارات مجلس الأمن؛ لأنها تدرك أنها يمكن أن تفتح الباب أمام العقوبات.
وذكر الكاتب أنه في كانون الأول/ ديسمبر 2016، ضغط المسؤولون الإسرائيليون على ترامب، الذي انتخب للتوّ رئيسا، للضغط على الرئيس الأسبق باراك أوباما لاستخدام حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن يدين إسرائيل بسبب المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية (امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت، وتم تمرير القرار).
وأشار إلى دانييل ليفي، مفاوض السلام الإسرائيلي السابق، الذي يدير الآن مشروع الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وهي مجموعة بحثية مقرها في لندن ونيويورك؛ الذي قال: “إنهم يدركون أنه يتعين عليك إبقاء المعارضة العالمية على مستوى الخطابة. لا يمكنك السماح لها بالدخول إلى عالم التكاليف والعواقب”.