مدينة “التناقضات العجيبة”.. بالفيديو والصور عندما ينتزع الغزيون الحياة من رحم الموت والدمار

غزة وهي التي لا تنام هذه المدينة العجيبة، العنيدة، المتعبة منذ 7 أشهر من الإبادة، تصحو غزة لتكفكف جرحها، وتتحامل على ضعفها، وتروّض همها، وتكحل دمعها النازف، بطريقتها الاستثنائية الفريدة فترفع أذانها الخاص وكأنه نشيدها الوطني اليومي “حي على الحياة.. حي على الثبات”، لتنتزع البقاء من رحم الموت والدمار وتحاول أن تخلق حياة يرنو إليها أهلها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

مشاهدٌ كثيرة انتشرت ولا تزال تبرز يوما بعد يوم من غزة، مفادها أن هذه المدينة تحب الحياة وتستحقها، ولا تكف عن المحاولة.. في هذا التقرير يرصد لكم  بعضا من هذه المشاهد، كالكافتيريا التي تتوسط المفترق الحيوي، وجلسة الانتعاش الأنيقة في الشارع، وماذا عن طلاء البيت المحروق، وإعادة بناء وترميم المنزل المهدوم، وعن زرعٍ ونبت وسوق تدب فيهم الحياة مجددا، وكأنها نفخة ميلاد الأمل الغزي العنيد.

حياةٌ من العدم”

“لا خيار آخر هنا سوى البقاء، يصنع الأهل الحياة من العدم، يصرّون على استعادة بعض النمط الذي غاب لسبعة أشهر، تتوسط هذه الكافتريا مفترق الصاروخ في نهاية شارع الجلاء من الجهة الشمالية”، بهذه الكلمات يبدأ الصحفي يوسف فارس من غزة حديثه عن إحدى الكافتيريات التي أنشأها شابٌ وسط أحد أشهر المفترقات وأكثرها حيوية شمال غرب المدينة.

وفي شيءٍ من التناقض المثير يصف “فارس” الحال في هذه الكافتيريا المتواضعة قائلا: “يعلو صوت أم كلثوم “كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله” بينما يرعد صوت انفجار قريب، يُقدَّم الماء بالمجان والقهوة بـ 3 شواكل، ويصر عليك صاحب المشروع المبتسم على أن تطيل الجلوس عنده: “بدها تمشي الحياة يخو.. إحنا بنحب الحياة”.

وعلى ناصية الطريق حيثُ تتجسد إرادة الحياة في جلسة بسيطة عند مفترق اللبابيدي بحي النصر في غزة، حيثُ “زاوية الانتعاش” لبيع العصير المثلج يضع فيها صاحبها أريكتينِ أنيقتينِ تحتهما بساطين بلون العُشب، فترى المكان بألوان مريحة بعيدة عن السواد والرماديات التي تمتلىء به الشوارع في هذه الإبادة، وكأن لسان الحال يقول “استرح وخذ نفسا، وإليك شرابا منعشا”.

 

يتفاعل الغزيون مع مثل هذه المشاهد، ويرون فيها أملا منبعثا من كومة رماد البؤس والحرب، فتقول المواطنة تسنيم دحلان في تعلقيها على مشهد “زاوية الانتعاش”: “إحنا بس نسلم من شبح الحرب وشلال الدماء، والله لنعيد الحياة روحها غصبا عن الكل، إرادة الحياة باقية فيكِ يا غزة”.

 

“طلاءٌ وبناء”

في مشهدٍ لنور الأمل وسط ظلام الألم، يطلي أحد المواطنين منزله من جديد وسط الدمار بعد أن حرق الاحتلال بناءه بالكامل في غزة، يطليه مبكرا وبلون مبهج رغم أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، فإنه صراع البقاء الغزي الذي يعلم العالم كيف تُنتزع الحياة انتزاعا.

وعلى الدرب ذاته، وبخطوة متقدمة، يُحضر أحد المواطنين في خانيونس جنوب قطاع غزة الأحجار والإسمنت ليعيد بناء وترميم منزله المدمر بفعل القصف الإسرائيلي، وبيديه الاثنتين يحيُي بيته وذكرياته فيه، وشعار حاله “لا بد للكسر أن ينجبر، ولا بد للبيت أن يزدهر”.

إزالة الركام”

وقبل أيام انتشرت صورا لمبادرة أهالي حي الشجاعية بمدينة غزة الذين دفعهم الشوق لعودة الأهالي النازحين في ظل الحديث عن قرب التوصل لاتفاق هدنة إلى تنظيف شوارع الحي استعدادا لاستقبالهم، ولاقت الفكرة رواجا واسعا وابتهاجا يعيد الأمل في نفوس الغزيين الذين يتوقون للعودة إلى ديارهم.

“هاي صورة مش عاديّة ومش مجرد مبادرة مجتمعية من أبناء حي، هاي لوحة كبيرة يمكن لو رسمها فنان بكل تفاصيلها تنحط بعد كم سنة جنب الموناليزا” بهذه الكلمات يعبر المواطن أحمد جودة عن بهجته بهذه المبادرة.

ويقول المواطن ماهر حلس: “صورة تبعث الأمل في النفوس، إزالة الركام من طرقاتنا، محاولة لإزالة الركام من أرواحنا، شكرا لكم”.

وفي رسالة شوق وحنين لأهل الحي، يحكي المواطن محمد الوادية، ابن حي الشجاعية، وممن شاركوا بحملة التنظيف “إن شاء الله إن كتب لنا عمر بنستقبل أخوتنا وأهلنا وعائلاتنا، لنا شوق لكم، ربنا يجمعنا فيكم على خير”.

 

“سوقٌ جديد ونبتٌ وزرع”

وهناك في أحد الأحياء التي أنهكها الاحتلال منذ بداية الحرب، ودمر سوقها الشعبي بالكامل، حيثُ حي الشيخ رضوان يستعيد ملامح سوق جديد، على مسافة قريبة من السوق القديم للحي، وتدب فيه من جديد ضجيج أصوات الباعة، وروح الحياة اليومية للأهالي.

“كالمعجزة، كالعنقاء هي غزة، لا تكف عن الوقوف بعد كل سقوط، فهذا سوق حيِّي بالشيخ رضوان يعود من جديد، بعد أن دمره الاحتلال كليا، فرسائلنا دائما أننا باقون هنا وسنعيد للحياة شيئا من طعمها الذي نتمنى..” هذه هي الأحرف التي أسعفت ابن حي الشيخ رضوان أسامة لبد، بالحديث عن مشهد افتتاح السوق مجددا.

وتُختصَر حكاية غزة العنيدة بمشهدٍ عابر ترويه الصحفية أمل حبيب من غزة، فتقول: “وتظل غـزة المجنونة، تحب الحياة وأكثر! تعثرت بهذه الشتلات الصغيرة، استفزتني بخضارها وسط هذا اللون الرمادي والركام، ماذا تفعلين هنا يا صغيرة؟ أجاب البائع ” شتلات بندورة وفلفل أخضر”.

وتختم “حبيب”: “هذه غـزة، مستعدة لكل شيء، للحياة بعد الموت، للغرس، للسُقيا، للنجاة، للحب.. سنزرع الأرض حَبّاً وحُبّاً، سنسقيها من دمائنا والدمع!