قالت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فلسطين في بيان وصل لوطن نسخة عنه إن الحرب المدمرة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من شهر تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، تركت- إضافة للقتل والدمار- آثارا نفسية لا يمكن أن تمحى دون علاج أو متابعة، ضحاياها الأبرز هم الأطفال.
ووثقت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فلسطين، أطفالا من قطاع غزة أصبحوا يعانون من مشكلات نفسية جراء العدوان، منهم حالة الطفلة سوار (9 أعوام) التي كانت تعيش في كنف أسرتها المؤلفة من الوالدين وسوار (البكر) وشقيقها، في شقة سكنية بحي الزيتون بمدينة غزة.
وقد تعرض منزل أسرة سوار للقصف فاستشهد والدها وشقيقها الأصغر يوسف، وأصيبت هي ووالدتها بشظايا وحروق متوسطة، وقد بقيت ملقاة وحيدة على الأرض في ساحة المستشفى بين جثامين الشهداء لعدة ساعات تنزف وتتألم ولا تستطيع الكلام، ولا يوجد أحد معها من الأسرة أو الأقارب.
واتسمت شخصية سوار منذ الصغر بالمرح، حسب والدتها، إلى أن عايشت هول الحرب والموت والخوف والفقدان والألم مرة واحدة، بعد أن دُمر منزلها، وبقيت لعدة أيام في المستشفى لا تعرف شيئا عن أسرتها، لتصطدم بعد ذلك باستشهاد شقيقها يوسف ووالدها (وهي المدللة لديه) ثم عدم قدرة والدتها على العناية بها لأسباب تتعلق بحزنها على الأب والابن وحاجتها للعلاج جراء الإصابة.
وتقول الأم إن سوار تعاني من كوابيس وتبول لا إرادي، وتخاف من دخول الحمام أو النوم لوحدها، وأصبحت خجولة وانطوائية، ولا تثق بنفسها.
وتضيف الأم عن نفسها، أنها فقدت الإحساس بأي شيء وهي غير قادرة حتى على البكاء، الأمر الذي يتطلب مساعدة الأمهات والآباء أيضا على التفريغ النفسي ليتمكنوا من مساندة ودعم أبنائهم.
أما سوار، فتقول: “ما كنت أخاف من أي حاجة، بس لما صارت الحرب وقصفوا بيتنا واستشهد أبوي وأخوي يوسف صرت أخاف أدخل الحمام لحالي لأنهم قصفوا بيتنا وأنا كنت بالحمام لحالي، كنت أصيح ما حد يسمعني”.
وعن وجودها في ساحة المستشفى بين الأشلاء وجثامين الشهداء، قالت:” كنت بفكر حالي شهيدة، حسيت إني بتنفس صرت أنادي ما حد سمعني، موجوعة، نار في وجهي وإيدي وبطني”.
وتعاني سوار اليوم من تبول لا إرادي، وكوابيس ليلية، وخجل وانطواء على الذات، وقلق الانفصال، وأعراض سيكوسوماتية (آلام في المعدة)، وتشتت الانتباه والتركيز، وانفعالات شديدة.
أما الطفل شادي (14 عاما) فكان يعيش في كنف أسرته المكونة من خمسة أنفار: الأب والأم وشادي (الأصغر سنا) وشقيقه وشقيقته، في منزلهم بمخيم جباليا شمال غزة، والآن يقيم في مركز إيواء بمدينة غزة، برعاية عمه.
وتعرض الطفل شادي ووالده وشقيقه الأكبر للاعتقال من قوات الاحتلال أثناء نزوحهم في مستشفى الشفاء، وخلال اعتقالهم اعتدى عليهم جنود الاحتلال بالضرب وأجبروهم على خلع ملابسهم بالكامل، وأجبروا والدته وشقيقته على النزوح قسرا نحو الجنوب.
وقد أفرج جنود الاحتلال عن الطفل شادي بعد عدة ساعات، بينما أبقوا على والده وشقيقه رهن الاعتقال، وهو لا يعلم عن مصيرهما شيئا.
واتسمت شخصية شادي منذ الصغر بالمرح واللعب ومشاركة الأصدقاء، وفق ما أفاد به عمه، إلى أن جاءت الحرب وعايش الموت ونقل جثث الأصدقاء والجيران بعد أن دُمرت منازلهم.
ويقول العم إن شادي يستيقظ كل ليلة بشكل مفاجئ ومخيف ولا يستطيع العودة للنوم مرة أخرى، وأصبح عدوانيا وهجوميا وكئيبا أغلب الأحيان، وتركيزه ضعيف جدا ولا ينتبه لشيء، كما أصبح عنيدا وفوضويا وغير محبوب وعلاقته سلبية مع الجميع.
ويضيف: نحاول رفع معنوياته، نجلس معا حول النار، نأكل ونشرب الشاي.
وعن تجربة الاعتقال، قال الطفل شادي: “كانوا يضربون أبي وأخي ويشتمون أمي، ثم طلبوا مني البصق على وجه أبي وهو مقيد، وعندما رفضت ضربوني وربطوا يداي بحبل في دبابة لوقت طويل، وكنت أركض خلف الدبابة كلما تقدمت، والجنود يضحكون ويطلقون الرصاص بين قدماي”.
ويعاني شادي من كوابيس وسرعة الانفعال وإحباط وحزن واكتئاب وقلق وهواجس سلبية، وسلوك عدواني، وعناد، وتشتت الانتباه والتركيز.
أما الطفل خالد (7 سنوات) من حي الشجاعية في مدينة غزة، فكان يعيش في كنف أسرته المؤلفة من أربعة أفراد (الأب والأم وخالد وشقيقته)، أصيب في قدمه واستشهد صديقه محمد بشظايا صاروخ أطلقته طائرة حربية على بناية مجاورة لمنزل عائلته عندما كانا يلعبان قرب المنزل، وقد تعافى خالد من الإصابة، لكنه ما زال يعاني من تبعات فقدان صديقه.
وتقول والدته إن خالد يجلس وحيدا طوال الوقت ويرفض تناول الطعام، وقد انخفض وزنه بشكل واضح. وتضيف أنها تحاول تشجيعه على الحديث وتفريغ مشاعره واسترجاع ذكرياته الجميلة مع صديقه محمد، رغم الإنهاك والتعب الذي تشعر به بسبب النزوح وعدم توفر أبسط مقومات الحياة.
ويقول خالد: “كنت واقف مع محمد صاحبي عند باب دارنا، ضرب صاروخ في الدار اللي جنبنا فطرت وخبطت بالحيط وشفت محمد صاحبي مرمي بعيد والدم مغطي راسه، أمي كانت تصرخ وأبوي حملني للمستشفى، كانت كلها شهداء ودم على الحيطان والأرض. متت خوف”.
ويعاني خالد من قلة النوم، وفقدان الشهية، وانخفاض الوزن، وعزلة وانطواء، وبكاء صامت ومزاج مكتئب، وعدم المشاركة في اللعب أو أي نشاط مع أطفال آخرين، ومن أعراض سيكوسوماتية (آلام في المعدة، وحركات إيمائية لا شعورية في العين واحمرار الوجه).
وقال مشرف الصحة النفسية في وزارة التنمية الاجتماعية بقطاع غزة محمد حرارة، إن الاحتلال انتهك جميع حقوق الطفل خلال هذا العدوان المستمر، ومع ذلك لا يمكن قياس الآثار النفسية لهذا العدوان على شخصية الأطفال الفلسطينيين على المدى البعيد، لأن الاضطرابات النفسية قد تظهر بعد الحدث الصادم مباشرة أو خلال فترة زمنية متباينة، تتراوح بين أسابيع وسنوات بعد انتهاء الحدث، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، في حين يمكن فهم وتحليل الآثار النفسية والسلوكية قريبة المدى بهدف استشراف شخصية المستقبل.
وتابع: نرى اليوم آثارا صادمة وهائلة أصابت الكثير من أفراد المجتمع الفلسطيني، خاصة الأطفال، منها: اضطراب القلق، والتوتر، والعدوانية، والاضطرابات النفس- جسمية، وعدم القدرة على التركيز، والتجنب، والعديد من اضطرابات الخوف.
وأوضح أن “المقلق حقا هو أن عدم التدخل النفسي بشكل سريع وفعال قد يؤدي إلى ما يسمى الشخصية المضطربة، وقد بدأنا بالفعل نلاحظ مظاهر ومؤشرات العنف والدمار والفقدان والتجويع على استجابات الأطفال النفسية، مثل عدم التسامح مع الآخرين، والأنانية، واختزال الفكر في الحياة اليومية والحفاظ على البقاء، وتطرف المشاعر والأفكار، وعدم التأقلم الأسري والاجتماعي.
وأضاف حرارة: “لا يوجد حاليا للأسف أي خدمات للحماية والدعم النفسي للأطفال في غزة، ولذلك يجب البدء فورا بتعزيز نظام حماية وطنية قادر على تطبيق تدابير الحماية الوقائية، على المستويين الرسمي وغير الرسمي، مثل تقديم الإسعافات النفسية الأولية في أماكن النزوح والتشرد، وتمكين القوى العاملة في مجال الصحة النفسية والرعاية الاجتماعية، من خلال أنظمة مهنية في إدارة الحالة وطرق العلاج الملائمة للطفل”.
بدوره، قال رئيس قسم علم النفس الإكلنيكي في جامعة الإسراء الدكتور أنور البنا إن آلة القتل الإسرائيلية تركت عند الأطفال سلسلة من الأعراض النفسية المرتبطة بالخوف من القصف، كالاكتئاب والقلق والاضطرابات السلوكية، والتوترات التي تشكل أساسا للعنف، إذ إن مواجهة الأطفال لأهوال الحرب القاسية، تجعلهم يستخدمون آليات دفاعية مختلفة للتعامل مع هذه الشدائد، وعلى سبيل المثال آلية دفاع الكبت، وهو فعل تجاهل الحقائق المؤلمة، التي تسمح لهؤلاء الأطفال بإدارة حياتهم اليومية واللعب وسط كل هذا الدمار والفوضى.
وأضاف البنا أن آلية دفاع النكوص تعيد توجيه المشاعر الغامرة، التي ظهرت عند المراهقين بشكل لافت على شكل غضب وعنف، وهم يقدمون لأنفسهم تفسيرات منطقية لسلوكيات غير عقلانية في سياق هذه الحرب.
وقال: “علينا إدراك أن الصدمات النفسية التي يتعرض لها الأطفال في غزة اليوم لن تؤثر عليهم بشكل مباشر فحسب، بل ستؤثر أيضا على السلامة النفسية وتكوين الشخصية في المستقبل، نتيجة غياب كافة خدمات الدعم والحماية لهم، وبالتالي فقدان الثقة، وهي جانب أساسي من التفاعل المجتمعي الذي يتآكل بسبب التعرض لفترات طويلة من العنف والدمار والفقدان والحرمان من الاحتياجات الأساسية كافة، كالماء والطعام والمأوى، وهذا ما يولد استجابات خوف متزايدة وانتشار شعور عدم الأمان عند أفراد المجتمع، خاصة الأطفال”.
من ناحيته، قال مدير مركز الصدمات النفسية في مدينة غزة يحيى عوض، إن غياب التعليم ونمط الحياة اليومي وسط هذه الحرب المدمرة أصبح كارثة حقيقية تهدد استقرار الصحة النفسية العامة للأطفال.
وأضاف أن مظاهر عدم الثبات الانفعالي، والتوتر، والغضب، والعنف، تستدعي فورا إعداد برامج التعليم العلاجي من خلال الألعاب والتمارين الجماعية والمشاركات وغيرها، ما يساهم في بلورة تفكير مميز يتمتع بالمرونة النفسية لكسر دائرة العدوان المميتة والتعامل مع اضطرابات ما بعد الصدمة ومشاعر الفقدان المفاجئة والعنيفة، لتعزيز الصحة والسلامة النفسية للأطفال.
وأشارت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال إلى عدد من الخطوات التي من شأنها معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة لدى الأطفال في قطاع غزة، مثل تصميم برامج تعليمية تستهدف تعزيز المرونة النفسية لهم وتمكينهم من التعامل مع الصدمات، والتدخل المبكر من خلال إنشاء برامج لتقديم الإسعافات النفسية الأولية للأطفال المتضررين، وتنظيم دورات تدريبية للمعلمين والعاملين الاجتماعيين لتعليمهم كيفية التعامل مع الأطفال الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة.
كذلك، توفير الدعم للأسر من خلال عقد جلسات تثقيفية للآباء والأمهات لمساعدتهم في فهم احتياجات وتحديات أطفالهم وكيفية دعمهم، وإقامة مراكز تقديم الرعاية النفسية الأولية بالقرب من المناطق المتضررة لتوفير الدعم اللازم للأطفال وأسرهم، وتعزيز الوعي المجتمعي من خلال توزيع مواد توعوية حول الصحة النفسية للطفل وكيفية التعامل معها بشكل فعال.