بقلم ”  أسامة خليفة” 57 عاماً على هزيمة 5 حزيران

57 عاماً مرت على هزيمة 5 حزيران 1967، وما زالت نتائجها الكارثية تفعل فعلها في الحالة العربية والحالة الفلسطينية على وجه الخصوص، هزيمة مرّة ومؤلمة كان لها نتائج مهمة عسكرية وسياسية واقتصادية، وعلى كل الصعد حتى النفسية والاجتماعية منها، وأحدثت اختلالاً في موازين القوى ومعادلات الصراع العربي الإسرائيلي، وشككت الهزيمة بكفاءة الجيوش العربية القتالية، وبالإنسان العربي المقاتل، في حين ارتفعت معنويات الجيش الإسرائيلي وسادت مقولة «الجيش الذي لا يقهر»، لم يستطع الانتصار العربي في حرب تشرين 1973، أن يزيل التداعيات السلبية الهائلة التي خلفتها الهزيمة، أو أن يزيل آثار العدوان عن دول عربية، ولاسيما دول الطوق التي خسرت في حرب حزيران جزءاً من أراضيها، مكّنت هذه المساحات الجغرافية الشاسعة إسرائيل من تحسين وضعها الاستراتيجي، حتى بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ومعاهدة وادي عربة مع الأردن.

 

نكسة حزيران 1967 هزيمة مازال العرب يدفعون ثمنها حتى اليوم، ومازال الفلسطينيون ضحيتها الأولى، فقد أوقعت الهزيمة كل فلسطين التاريخية تحت الاحتلال، وخلقت مشكلة لاجئين فلسطينيين جديدة، بتهجير أكثر من 300 ألف فلسطيني من الضفة وغزة، أضيفت إلى مشكلة اللاجئين السابقين الذين أجبروا على ترك منازلهم بعد أحداث النكبة عام 1948، هزيمة مكررة واحتلال مزيد من الأراضي، مهّدا لتمدد الاستيطان الإسرائيلي إلى الضفة وغزة، ومدينة القدس الشرقية، التي تعرضت منذ اللحظة الأولى لاحتلالها إلى الضم والتهويد، وتغيير ديمغرافيتها ومعالمها، ومحاولات السيطرة على الأماكن المقدسة.

 

استخدم الإعلام العربي مصطلح النكسة في الإشارة إلى هزيمة الخامس من حزيران ونتائجها، كما تؤخذ الظواهر الطبيعية العمياء من كوارث كالأعاصير والزلازل وما شابه ذلك، للتقليل من وقع الكارثة الكبرى التي حلت بالعرب، وهو مصطلح ينطوي على الكثير من منطق التبرير والتهرب من المسؤوليات والتبعات، فمن جهة لا يحدد الطرف الذي تسبب في المأساة، ومن جهة أخرى، من تحل به ذات الكوارث من جديد لا يعتبر مسؤولاً عن نكسته وعن وقوعها.

 

في أسباب حدوث النكبة عام 1948 حُمّلت المسؤولية للتجزئة العربية، والأنظمة المتواطئة، وجاءت الانقلابات العسكرية إثر النكبة وبسببها، لتوطد أركان أنظمة وعدت بالقضاء على التخلف والتجزئة، وجعلت من استعادة فلسطين قضية العرب الكبرى، ورمزاً للعروبة، والتي اهتزت صورتها في هزيمة حزيران، وتابعت العروبة تدهورها وصولاً إلى اتفاق كامب ديفيد، ثم الهرولة نحو التطبيع في المرحلة الراهنة، واختزل اتفاق أوسلو فلسطين التاريخية إلى معازل في الضفة، وسجن كبير في قطاع غزة المحاصر، والمدمر حالياً، وسط الصمت العربي المخزي.

 

لا يمكن إرجاع هزيمة حزيران والهزائم الأخرى، إلى مؤامرات خارجية فقط، بل إلى عجز عربي لا يقتصر على الأنظمة الرسمية بل يمتد إلى الشعوب والمجتمعات المتخلفة التقليدية، وهو ما جعل مفكرين عرب يهتمون بدراسات النقد الذاتي ويركزون على الجوانب السياسية والاجتماعية والحضارية وتحليل الواقع الحي للمجتمع العربي وتحليل الشخصية القومية العربية، وكل ما يتعلق بالسمات الأساسية لبناء المجتمع العربي، دراسات عديدة جاءت رداً على النزعة التي تحاول إرجاع الهزيمة العربية إلى عوامل خارجية بعيداً عن الأوضاع العربية الداخلية المتخلفة، والتي أسهمت مباشرة في وقوع الهزيمة. وقد يكون من أبرز التفسيرات التي حاول «صادق جلال العظم» في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» أن يصوغها لتحديد عوامل الهزيمة العربية عام 1967، إرجاعه الهزيمة إلى النوعية الخاصة للشخصية القومية العربية. ويرى «العظم» أن الشخصية العربية تميل إلى إزاحة المسؤولية عن النفس وإسقاطها على الغير، يصرح بها المنطق التبريري العربي.

 

اعتمد «العظم» في دراسة خصائص الشخصية الاجتماعية على دراسة «حامد عمار» عن «الشخصية الفهلوية» فأحسن حين ربطها بالهزيمة. وبالسلوك العربي قبيل المعركة، وأثناءها، وبعدها، مثيراً بذلك سؤالاً هاماً: كيف تتصرف الشخصية الفهلوية حين تجد نفسها في مأزق حرج؟

 

هذه الشخصية إن وجدت نفسها في مأزق سينفضح حتماً عجزها وتقصيرها، فتحاول إزاحة المسؤولية عن نفسها وإسقاطها على قوى خارجية يمكن عن طريقها تبرير النتائج السلبية التي جاءت على يدها، لا يلوم الطالب الفهلوي العربي نفسه عندما يرسب في الامتحان، بل يلوم الحظ، والأستاذ، والأسئلة الصعبة، كذلك تلوم الأمة العدو، والاستعمار، والغدر، والحظ، وكل ما يخطر لها على بال، فتهّون بذلك على نفسها، وتحفظ ماء الوجه وتصون المظاهر، وتراعي المشاعر، وتهتم بالمجاملات، وجبر الخواطر، عوضاً عن تسمية الأمور بأسمائها وتحديد المسؤوليات، فنقول للفاشل لقد أخفقت، وللعاجز لقد عجزت.

 

كيف تصرف العسكريون العرب خلال الحرب؟. الظروف الحرجة تحتاج إلى تصرف سريع للتقليل من الأضرار، وإخبار الجهات المختصة فوراً لتتصرف بدورها، وبدلاً من ذلك يتم إخفاء العيوب والفشل والنقائص تغطيةً على العجز والحماقة والخيبة. لا تستطيع «الشخصية الفهلوية»، أن تبوح بالنقص لأنها تتمسك بقيم الحياء والخوف من الفضيحة أكثر مما تتمسك بالواقعية والموضوعية، وبضرورة الاعتراف الصريح بالنقص لمعالجته والتغلب عليه. ويستشهد «العظم» بفقرة من مقال كتبه «محمد حسنين هيكل» في الأهرام، عن «بعض شوائب السلوك» التي بدت من المسؤولين العسكريين العرب، شائبة التأخر في إبلاغ الحقيقة إذا كانت سيئة إلى المستويات الأعلى. إن هذه الشائبة في السلوك أعطت العدو عشر دقائق كانت هي ما يحتاجه، لكي يحقق المفاجأة لإحدى عشرة قاعدة جوية ركز عليها ضربته الأولى، وعدم سرعة الإبلاغ أضاعت دقائق غالية لا تقدر.

 

ومن سلبيات الاتباع والتقليد التي انعكست على مجرى الحرب، عجز الضباط ـــــ الذين كانوا يشرفون على مجرى العمليات الحربية بصورة مباشرة في سيناء ـــــ عن تقبل مسؤولية اتخاذ القرارات السريعة والفورية وفقاً لتطور المعركة من ساعة إلى ساعة، ودون الرجوع إلى القيادات العليا باستمرار لتلقي الأوامر بالتفصيل في كل صغيرة وكبيرة، في الواقع كانت المبادهة في اتخاذ القرارات الحاسمة وفقاً لما تفرضه أوضاع الميدان المباشرة المتقلبة والتكيف معها شبه مفقودة…. لم يتمكن العسكريون العرب الخروج من قوالبهم الاستراتيجية المسبقة عن طريق الابتكار والمبادهة، عقلية «ماكو أوامر»، وذهنية «ما فيش تعليمات»، لا يتعدى كونه وصفاً للواقع المؤلم الذي لم يتغير منذ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، بالرغم من كل الأسلحة التي استوردناها، والخضات السياسية التي مررنا بها، والأنظمة الثورية التي شهدناها، عندما وقعت الواقعة تبين أن العقلية الأولى هي المسيطرة على ردود فعل المقاتل العربي، بدليل ما ذكره «حسنين هيكل» عن السلوك الذي أبدته بطاريات الدفاع عن المطارات في الجمهورية العربية المتحدة، التي لم تفتح نيرانها المضادة لطائرات العدو، والقنابل تتساقط فوقها لأنها تنتظر الأوامر والتعليمات.

 

لم يعتمد الهجوم الإسرائيلي وخطته العسكرية فقط على مجرد شائبة سلوك بسيطة، بل وضعها على أساس فهم دقيق للخصال التي يتصف بها النمط التقليدي للحياة العربية، وتقدير مضبوط لطبيعة أنماط السلوك وردود الفعل التي يكتسبها الفرد في مثل هذا المجتمع الاتباعي، ولنوعية الأوليات التي انغرست في نفسيته بالنسبة لقيم الحياء، وإخفاء العيوب والتستر على الحقيقة إذا كانت سيئة. وخطورة ذلك كله، أن صفات البطء، ونزعة التقليد، والتقيد بالقوالب الجاهزة، والالتصاق بها، والابتعاد عن الابتكار السريع والمبادهة المباشرة في اتخاذ القرارات، قد تركت آثاراً سلبية خطيرة جداً على تنظيماتنا العسكرية، وعلى مفهومنا لطبيعة الحرب الحديثة، وكانت مسؤولة إلى حد كبير عن الهزيمة السريعة التي حلت بنا.

 

كيف تصرف العرب قبل الحرب؟. بالمغالاة في تأكيد الذات، والميل لإظهار القدرة الفائقة في التحكم بالأمور، ووفق سمات «الشخصية الفهلوية»، بالاستهتار بقوة العدو وإمكاناته، والاستخفاف به، وتأكيد النفس، عن طريق الادعاءات الرنانة، والتقيد بالمظاهر الخارجية، والشكليات التي جعلتنا ننظر إلى مظهر امتلاك طائرات «الميج»، وكأنه امتلاك عدد من الخرزات الزرقاء التي سوف تحمينا من الشر المحدق بنا.

 

الاستهتار بالعدو وقوته، والثقة الجوفاء، تشبه ما كتبه «هيكل» في اليوم الثاني من حرب حزيران، إذ قال: إن إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة من الداخل ومن الخارج.

 

كيف تصرف العرب بعد الهزيمة؟. لقد أزحنا مسؤولية الهزيمة عن أنفسنا، وحاولنا التملص من مسؤولية الهزيمة التي لحقت بنا وإسقاطها على أمور خارجية لا دخل لنا فيها، ما يسمح لنا بتسويغ ما وقعنا فيه من مواقف محرجة وتقصير في واجباتنا، تجاه القضية العربية الأولى وتجاه تحديات الحضارة الحديثة، إننا نحاول أن نراعي المشاعر ونهتم باللياقة والمعنويات والمجاملات والخواطر. ويتعجب «العظم» من تفسير الهزيمة عبر تحميل الاستعمار مسؤوليتها، ثم سحب ذلك على الآلهة والغيبيات، إذ ذكر صلاح الدين المنجد في كتابه «أعمدة النكبة»: لقد تخلى العرب عن إيمانهم بالله فتخلى الله عنهم.

 

وكأن العلاقة بالله عز وجل علاقة مصالح متبادلة ومنافع مشتركة. واستشهد «العظم» بتصريح مفتي الأردن لصحيفة الدستور في 23 أكتوبر 1967 الذي قال فيه: ليس في اليهود من القوة ولا من البأس ما يستطيعون أن يفعلوا، ولكن الله أراد أن يسلط علينا هذه الفئة نتيجة بعدنا عن ديننا. ويضيف العظم: لقد بلغ الأمر حده لدرجة الترحم على الدولة العثمانية وخلافتها. وبعد أن فضحت حرب حزيران التقصير العربي المريع في مواجهة المسؤوليات التي تتضمنها حالة اعتبار أنفسنا في حرب مستمرة مع إسرائيل تقتضي اليقظة والاحتراس والاستعداد للمفاجآت، حاولنا تورية التقصير والتملص من المسؤولية بقولنا: لقد اعتدت اسرائيل علينا وكأننا كنا دوماً ننتظر منها حسن الجوار وطيب المعاملة، إضافة إلى ذلك أن مبادرة الهجوم الجوي المركز والمفاجئ الذي دمر سلاح الطيران المصري وحسم المعركة لا يمكن اعتباره غدراً إلا إذا قسنا الصراع مع العدو بمعايير فروسية العصور الوسطى، والتذرع بالغدر والمفاجأة لا تصح، وقد أعلن القادة العرب أن جهودهم موجهة نحو معركة التحرير.

 

إننا بحاجة إلى مراجعة النفس ونقدها وتغيير التفكير والأنماط الاتباعية المتوارثة، ووضع على المحك كل شيء مهترئ بالنسبة للحضارة الحديثة والمعاصرة، وتحويل الهزيمة من محنة إلى تجربة ومن كارثة إلى درس حضاري، وتقبل مسؤولية الهزيمة ووضعها على الذات وعدم لوم أحد إلا ذاتها وواقعها وتنظيمها وحقيقتها القائمة وخصوصاً عند قياسها بواقع العدو وحقيقته، وإن أراد العرب تجاوز الهزيمة، عليهم إحداث تغيير ثوري في المؤسسات السياسية والاجتماعية وبناء الشخصية العربية الإيجابية.

 

المرجع: «النقد الذاتي بعد الهزيمة» لمؤلفه: د. صادق جلال العظم.