
المسار : قطاع غزة – مشيرة توفيق: هذا التحقيق الاستقصائي، يتحدّث عن دور المؤسسات الصحية الأهلية في قطاع غزة في إيصال العلاج لكل محتاج، ويُحذّر من تورط بعضها في شُبهات فساد تُفضي لتسريب الأدوية التي تصلها للسوق السوداء، ويتساءل عن الدور الرقابي، ويدعو لإيجاد أصل قانوني لإدارة هذا الملف.
في مارس 2025، لم تكف النقود القليلة في جيب معين (38 عامًا)، ونازح قسرًا إلى مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة؛ لشراء الدواء، من صيدلية المستشفى الكويتي الميداني “شفاء فلسطين”، لطفله الذي استيقظ بآلامٍ حادة في ذراعه، وفيما كان الأب بحاجة لدفع كشفية الطبيب، ولإجراء التحاليل والأشعة اللازمة، كان عليه أيضًا أن يدفع للصيدلية لقاء الحصول على الدواء. وأمام ذلك غادر الاثنان بلا علاج بحثًا عن مكانٍ آخر قد يقدم الخدمة بلا مقابل.
عبير أيضًا (43 عامًا)، نازحة في مخيم النصيرات وسط القطاع، لم تتمكن هي الأخرى، في مايو من نفس العام، من الحصول على علاجها كاملاً من مستشفى العودة. كانت تشكو من آلامٍ في البطن، دفعت كشفيةً لقاء فحص الطبيب، ولمّا قرر لها تناول المضاد الحيوي، توجّهت للصيدلية في المكان، ومعها القليل من المال الذي لم يكف إلا لشراء شريطٍ واحد من أصل ثلاثة كانت تحتاجها بشدة بعد عمليةٍ جراحية خطيرة أجرتها من قبل لاستئصال جزء من الأمعاء، في المكان ذاته.
أما إيناس (33 عامًا)، وعادت مؤخرًا من النزوح جنوبًا إلى مدينة غزة، فوقفت حائرةً، في الشهر التالي، أمام صيدلية مستشفى أصدقاء المريض، كانت تريد أن تعرف ثمن الدواء اللازم لعلاج ابن أخيها الذي يعاني من التهابٍ في الحلق، قبل أن تغامر بدفع كشفية الطبيب، فهي في النهاية لا تملكُ هذا ولا ذاك، وأنقذها أنها رأت امرأةً حصلت على المضاد الحيوي وخافض الحرارة، فسألتها: “كم ثمنها؟”، فأجابت الأخيرة: “خمسة، خمسة، خمسة”، ولذلك عادت إلى البيت تفكر، من أين ستأتي بالمبلغ؟!.
معين، وعبير، وإيناس، ثلاثتهم لم يستطيعوا، أيضًا، شراء الأدوية التي يحتاجونها من الصيدليات الخاصة؛ لأنها “تباع هناك بأسعار باهظة، ولو كانت كتلك التي تباع في صيدليات بعض المؤسسات الأهلية”، وهم يعرفون أنه “يفترض بمرافق المؤسسات الصحية الأهلية التي ذهبوا إليها، ألا تسعى للربح”، ويعرفون أنها ترفعُ شعار “الخدمة الصحية حقٌ لكل محتاج”؛ لكنهم لم يصلوا بعد للجواب: لِمَ حُرموا من هذا الحق؟، خاصةً في ظل الظروف القاسية التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ أكتوبر 2023.
لماذا يدفع المرضى ثمنًا للأدوية في القطاع الأهلي الصحي؟
“نُقدّم الأدوية لقاء مقابل بسيط لا يتجاوز العشرة شواقل، لا وجه للمقارنة بين أسعارها في المستشفى وبين ما تباع به في الصيدليات الخاصة. ولو أن الهدف الاستثمار فهناك مجالات أخرى نستطيع تحقيق الأرباح منها، عندما بدأنا في رفح خلال الحرب كان كل شيء مجانيًا، وكانت الأدوية تصلنا من خلال المساعدات؛ ولكن الظروف قاسية، مؤخرًا اشترينا أدوية من السوق المحلي بأسعار خرافية، وما زلنا نعمل بنفس النهج، على أمل أن تغطيها المؤسسات المتبرعة مستقبلاً؛ لكن الجميع يرفض دفع هذه الفاتورة بهذه الأسعار الكبيرة”، على هذا النحو تحدث مدير المستشفى الكويتي الدكتور صهيب الهمص.
ويرى الهمص أن “الدفع بأسعار رمزية لا يُعتبر بيعًا؛ لكنه يساعد في تحسين دخل مستشفاه الأهلي، ففاتورة التبرعات لا تتجاوز 60 بالمائة، كذلك يساعد على توفر العلاج لأطول وقت ممكن، ويمنع إساءة استخدامه، وأخذه بدون احتياج، ثم بيعه في الصيدليات الخاصة بمبالغ مرتفعة”.
وتابع القول: “أستطيع فتح صيدلية خارجية في المستشفى، وبيع الدواء مثل غيري، ولن يلومني أحد، نحن نستقبل يوميًا 5 آلاف مراجع للصيدلية؛ لكن الدواء لا يصرف إلا من خلال طبيب، ونحن نعمل بنظام لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم، ثم إن الباب مفتوح أمام المريض ليحصل على العلاج من مكان آخر إن لم يتوفر لدينا مجانًا”.
“كشفية الطبيب التي يدفعها المريض لا تكفي لكل شيء، نحنُ لسنا وزارة الصحة، وفاتورة المصاريف التشغيلية لدينا عبء ومرتفعة جدًا، لقد عرضنا على الممولين أن يُغطُّوها ولم يستعد أحد لذلك، اسألوا أنفسكم لماذا لا يتوفر الدواء اليوم في المستشفيات الميدانية التي يسمح الاحتلال لها بإدخال الأدوية للقطاع؟، بعض الأمور لا أستطيع الحديث فيها”، على حد تعبير الهمص.
كيف يدار صندوق المريض الفقير، ومن يعرف عنه؟
بعد البحث عن عمل الكويتي، عبر منصاته الرسمية على الإنترنت، لم نجد تقريرًا إداريًا أو ماليًا واحدًا منشورًا يوضح مجمل ما تحققه صيدلية المستشفى من أرباح، أو تعانيه من عجز، كما لم نجد أي معلومات منشورة للعامة عن إمكانية الاستفادة من خدمات “صندوق المريض الفقير” في المستشفى الذي يقدم نفسه عبر منصاته كمستشفى “خيري” ، بل ويذهب ما يقوله الهمص عن عمل الصندوق لأبعد من ذلك: “أتحدّى أن يُحرم أحد من العلاج لأنه لا يملك المال، لدينا صندوق المريض، ويستطيع من هو بحاجة ملحة للدواء المنقذ للحياة أن يحصل عليه بعد تقييم قسم الإدارة الطبية”، ما يعني برأي الكثيرين أن الأمر غير منشور، ومرتبط بتقييم أفراد، وبمدى حاجة المريض للعلاج، دون النظر لوضعه الاقتصادي.
وينسحب الحال ذاته على التقارير نفسها وصندوق المريض، في جمعية العودة الصحية والمجتمعية، إذ أجاب رأفت المجدلاوي المدير العام للجمعية، عن الأسئلة: “لماذا لا تنشرون تقاريركم عبر منصاتكم الرسمية؟، وهل هناك مرجع مكتوب، أو طريقة محددة لإدارة صندوق المريض لديكم؟” بالقول:” اتّخذت قرارًا قبل ثلاث سنوات بحذف جميع التقارير الإدارية والمالية للجمعية عن شبكة الإنترنت، وأتحفظ على نشر السبب، كذلك لدينا مئات الموظفين والموظفات التي يمكننا من خلالهم التأكد من حالة من يطلب مساعدة صندوق المريض، ويقرر في ذلك مدير المستشفى، أو المدير الإداري، أو مدير المركز الصحي”.
وتابع المجدلاوي: “في أصل الأمر نحن ضد توزيع الدواء وتقديم الخدمة الصحية بالمجان، ولا يجوز أن نعوّد الناس على البلاش؛ لكننا خلال هذه الحرب ألغينا هذه السياسية، وصرنا نتبع ثلاثة طرق لتقديم الأدوية في الجمعية، فمنها ما يصلنا كتبرع عيني، ومنها ما هو ضمن مشاريع، وكلاهما يصل بلا مقابل للمرضى، ومنها ما تشتريه العودة من السوق المحلي لتضمن وفرته، ثم تبيعه”.
ورأى أن فرض المقابل الرمزي على جميع الأدوية، كما يجري في الكويتي، قد يعني الوقوع في “منطقة شبهات فساد؛ فهناك من الجهات الممولة من يدفع التكلفة التشغيلية، وهناك من لا يدفعها”، متسائلاً: “إذا دفعها الممول بإمكان المريض أن يأخذ العلاج بلا مقابل، ولكن إذا لم يدفعها الممولون، من أين ستحصل عليها المؤسسة الأهلية، خاصةً في ظل غلاء كل شيء خلال الحرب؟!”.
كيف تغلّبتم على أزمة السيولة خلال الحرب؟، عن هذا السؤال أيضًا أجاب المجدلاوي: “سنستمر في بيع الأدوية، والرسوم الرمزية التي نتحدث عنها وتدفع لزيارة الطبيب قبل الحصول على أي علاج، نعدها مبلغًا كافيا، فنحن نُحصّل شهريًا قرابة 450 ألف شيكل، وهذا يغطي حوالي 110 بالمائة من مصروف الرواتب لموظفينا”.
من جهته، المدير الإداري لمستشفى أصدقاء المريض، الدكتور سعيد صلاح، تحدّث عن التحوّل الحاصل في طريقة إدارة مستشفاه لعملية إيصال الدواء للمرضى، ما بين قبل الحرب، وأثناءها: “تحوّلنا من صيدلية خارجية تبيع الدواء لمكان يقدمه في مقابل رمزي، مراعاة للظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا خلال الحرب الجارية”.
وأوضح صلاح أن “المقابل الرمزي بحدود ثلاثة شواكل”، جزء من “سياسية تنموية تنتهجها المستشفى، وحرصًا على وصول العلاج لمن يستحق، ومنعًا لوصوله للسوق الخاص الذي يبيعها بعشرات الأضعاف”، لافتًا لأن بعض الأدوية تصل للمرضى بشكل مجاني تمامًا من خلال بعض المشاريع التي تنفذ لديهم.
وأسوةً بحال الكويتي والعودة، لفت صلاح لوجود “صندوق المريض، الذي يمكن للمرضى المعوزين الاستفادة منه”؛ لكنه لم يتحدث عن الكيفية التي تعلن بها المستشفى للجمهور عنه، أو عن لائحة مكتوبة تنظم عمله، مما يعني أن أحدًا لن يعرف به، تمامًا كما يجرى بحق التقارير المالية والإدارية التي يفترض بها أن تُكاشف الجمهور، على سبيل المثال لا الحصر، بمجمل المبالغ المالية التي تجنيها المستشفيات والمؤسسات الأهلية في مقابل الأدوية بتراكم “المبالغ الرمزية”.
كيف تورّطت بعض مؤسسات القطاع الأهلي في تسريب أدويته للقطاع الخاص؟
بحثًا وراء جدية المبررات التي قدمها مدراء ثلاثة من المستشفيات الأهلية بالقطاع، تنقلنا في منتصف شهر يونيو 2025، بين أربع صيدليات خاصة في المحافظة الوسطى، واخترنا السؤال عن المكملات الغذائية المخصصة للنساء الحوامل، باعتبارها من “أكثر السلع الطبية طلبًا خلال الحرب، في ظل أزمة نقص الغذاء، وأحد الأصناف التي يفترض بالمؤسسات الأهلية تقديمها بلا مقابل، وفق البرامج المدعومة من المؤسسات الدولية”، بحسب مصادر التقرير المذكورة.
أثناء البحث وجدنا بالفعل أن الصيدليات تعرض هذه المكملات للبيع، في مقابل 60 إلى 70 شيكلاً للعبوة الواحدة، التي طبع بوضوح عليها أنها تقدم بدعم من منظمة الصحة العالمية.
إلى جانب ذلك، التقينا بالصيدلانية ريما (اسم مستعار) التي رفضت الكشف عن اسمها، وأكدت أن “بعض أصناف الأدوية التي تقدم في بعض المؤسسات الصحية الأهلية، وعلى رأسها المكملات الغذائية، عرضت عليها في الفترة الأخيرة لتشتريها، بـالكراتين، وليس مجرد عبوات فردية”.
وعند سؤالها إذا ما كانت هذه الأدوية تصل من جهات معروفة؟، نفت ذلك بالقول: “في الحقيقة هذه الأدوية تصلنا من خلال أفراد، نعدهم واجهات غير معروفة لنا، يطلبون منا الدفع بالكاش، ونحن مضطرون لشرائها وبيعها، ولذلك لا نحول أرصدة لجهات واضحة، كأشخاص أو مؤسسات، وفي النهاية إذا لم نرض بهذا، سنتوقف عن العمل”.
الصيدلي المسئول حسن (اسم مستعار) الذي رفض الكشف عن اسمه، استبعد بدوره أن تصل الأدوية إلى القطاع الخاص عن طريق أفراد، وتحدّث عن عدة طرق تصل بها “أدوية القطاع الأهلي، إلى الخاص، بكميات رهيبة، وبأثمان باهظة”.
“أول طريقة: سرقة المخازن والسطو على شاحنات المساعدات، ومن يسرق يعرف أن الصيدليات الخاصة هي المنفس الوحيد لبيعها، ونحن نضطر لشرائها؛ لتوفيرها في نهاية المطاف للمواطن، وكي نستمر”، يتحدث الصيدلي.
أما “ثاني طريقة فتسريب الأدوية من خلال القائمين على بعض المؤسسات العاملة في القطاع الصحي، لجهات معينة، في مقابل الحصول على سيولة نقدية، وأستطيع أن أؤكد هذا الطرح لأن الكميات التي تعرض علينا منها كبيرة، وواضح أنها وصلت كتبرعات عينية”.
“وثالث طريقة: التنسيق مع الاحتلال لإدخال أدوية من غير التبرعات باسم مؤسسة أهلية ما أو مستشفى ميداني، بحيث تحصل الأخيرة على نسبة معينة من مجموع ما دخل، إضافة إلى عمولة، وتبيع الشركة التي نسقت الباقي لنا في السوق الخاص، أو تدخل إلى مخازنها، وتباع في مناقصات من جديد للقطاع الأهلي، وغيره”.
ويؤكد ما تحدّث عنه الصيدلي ما كشفه رأفت المجدلاوي المدير العام لجمعية العودة عن تجربة فصله 40 موظفًا وموظفة عن العمل: “قانون الصحة العامة رقم 4 يمنع المؤسسة الأهلية من بيع الدواء للمستفيد الخارجي، ويحصل على الدواء منها من تردد على العيادات الطبية فيها فقط، لكن لأن العلاج لم يكن متوفرًا في الصيدليات الخاصة خلال الحرب، سمحنا استثناءً بشراء الدواء مباشرة من الصيدلية، كجزء من خطة الطوارئ، ولذلك فإن الأدوية التي وصلت من العودة للسوق السوداء ليست بالآلاف ولا بعشرات الآلاف ولكن بمئات الآلاف، ولذلك فصلنا كل من تورط في هذا الملف”.
وتابع القول: “عدد كبير من المؤسسات صاحبة التاريخ الطويل تورّطت خلال الحرب في قضايا الفساد، وبعض الأشخاص ممن لديهم قوة ونفوذ نسّقوا مع الاحتلال لإدخال الأدوية باسم مؤسسات أهلية محلية، ثم أعطوا المؤسسات جزءًا من الدواء، وجزء آخر أخذه صانع القرار في المؤسسة، وثالث بيع للسوق المحلي بعشرات الأضعاف، حتّى أن صيدليات وشركات أدوية عرضت عليّ رشاوى بأكثر من مائة ألف دولار شهريًا مقابل السماح باستيراد الأدوية باسم المؤسسة، ولكن لدينا قرار بالرفض”.
“في العودة نقدم الدواء الذي نشتريه من القطاع الخاص شريطة أن يكون سعر البيع أقل من السعر السائد في السوق، وبنسبة 10% من قيمته كبدل للمصاريف التشغيلية، هذا في وقت كانت فيه أرباح القطاع الخاص تتراوح ما بين (40 إلى 60%) قبل الحرب، ووصلت لـ (200 إلى 300%) خلالها، مع ذلك وزارة الصحة بغزة تبذل جهودًا كبيرة، لكن الواقع صعب جدًا”، يتحدث المجدلاوي.
ما الذي ينتظره القطاع الأهلي الصحي، وما المُنتظر منه؟
وردا على ما سبق، شدد أمجد الشوا مدير شبكة المنظمات الأهلية في القطاع على أن “المؤسسات الأهلية كانت أول من استجاب لكارثة الحرب، وأسند الجهاز الصحي الرسمي، ولذلك دعمها من الحكومة الفلسطينية والقطاع الخاص أولوية مهمة جدًا، وجزء من المسئولية الاجتماعية”.
وقال الشوا: “حسابات المواطن تختلف عن حسابات المؤسسة، وفي بعض الأحيان تكون التكاليف نتيجة أعباء نواجهها، أغلب المؤسسات تقدم خدمات مجانية، كما يحدث في النقاط الطبية، أما في المراكز الطبية والعيادات والمستشفيات، فبعض الخدمات مجانية وبعضها مدفوع، وعندما راجعت الجهات القائمة، وجدت ردودًا معقولة، من بينها: تقليل تسرب الأدوية للسوق السوداء، وغلاء أسعار شرائها من السوق المحلي”.
“نحن في شبكة المنظمات الأهلية بما فيها القطاع الصحي نتفهم ملاحظات الناس، ونحاول أن نستمع لإجابات عن أسئلتهم من مؤسساتنا التي تحاول أن تستمر في تقديم الخدمة، لكن أريد أن يعرف الجميع أن بعض المؤسسات تعاني من مديونيتها لشركات الأدوية، وتأخر وصول الحوالات المالية، وأزمات أخرى كثيرة”، حسب تعبيره”.
وأكد الشوا أن القطاع الأهلي الصحي يبذل جهودًا في التواصل مع الجهات الممولة “لأن التمويل قليل في المستشفيات”، مع ذلك “يواجه إشكاليات كبيرة في الحصول على التمويل، فبعض الممولين قطعوا تمويلهم، والبعض الآخر يقول: ليس هناك ما تشتريه في القطاع كي أموّل عملك؟، والبعض يفرض شروطًا صعبة، والبعض يرسل أدوية الطوارئ فقط ويغض الطرف عن أدوية الأمراض المزمنة، وغيرها الكثير”.
ويشار الى أن الشوا تجنب الحديث بشكل مباشر حول تهريب الأدوية من بعض مؤسسات القطاع الأهلي الى السوق السوداء.
أين الدور الرقابي من أجل حماية المواطن؟
في السياق ذاته أجاب الدكتور زكري أبو قمر القائم بأعمال مدير عام الصيدلة بوزارة الصحة الفلسطينية بغزة على السؤال عن دور الوزارة في الرقابة على ما يجري على الأرض في ملف تنسيقات الأدوية، وكيف تصل تلك التي تقدم للمؤسسات كتبرعات للسوق السوداء؟: “لا أستطيع أن أنفي أن هناك من يسيء استخدام الأدوية وإدارتها، هذه أمور تتم بعيدًا عنا، لا علم لنا بها، ولم نتلق شكاوى رسمية بهذا الخصوص، مع ذلك نحن جاهزون للتعامل مع أي شكوى رسمية وبابنا مفتوح للجميع”.
وقال: “لعدة أسباب في مقدمتها عدم تواجد الوزارة على المعابر، وحالة الاستنزاف الشديد، وصعوبة حركة الطواقم، يقتصرُ دورُنا في الوقت الحالي على تنظيم صرف الأدوية والمستهلكات الطبية لمستشفيات وزارة الصحة والمراكز التابعة لها، أما دورنا في إدارة ومراقبة المنظومة الدوائية في القطاع الخاص والأهلي، فمُعَطّل”.
وأشار أبو قمر لأن “الاحتلال الإسرائيلي لم يسمح بأي تنسيقات تجارية منذ بداية الحرب، وما يسمح به فقط تنسيقات المؤسسات، ولذلك يتحمل المواطن عدة أعباء، من بينها: نقص الأدوية والمستهلكات الموجودة، وارتفاع أسعارها، وضعف الجانب الرقابي على ما يصله”.
وأوضح أنه في الوضع الطبيعي “عندما تدخل تبرعات للمؤسسات الأهلية فيجب التقدم بطلب رسمي للوزارة لأخذ موافقة، مرفق معها كشف لكافة الأصناف، لتخضع للفحص، وتوزع على المواطنين ضمن النظام المعمول به، لكن في ظل ما فرضته الحرب لم يعد من الممكن تفعيل عمل دائرة التبرعات المختصة بالأمر من خلال ما يسمى بالدليل الإجرائي للتعامل مع التبرعات”.
وعن “الرسوم الرمزية” التي تفرضُها بعض المؤسسات في مقابل تقديم الأدوية للمواطن أضاف: “وفق النظام المتفق عليه، نعم يمكن تقديمها في مقابل رسوم إدارية، لكن هل يلتزمون بهذه الرسوم فقط؟، لا أعرف، هذا يحتاج إلى رقابة”.
لماذا نلجأ للقواعد العامة لإدارة المال العام؟
من جانبه أشار أستاذ القانون بجامعة الأزهر بغزة الدكتور سامي غنيم لحالة من القصور القانوني الذي يعتري عملية إدارة ووصول المساعدات العينية من الأدوية والمستلزمات الطبية، وكذلك المساعدات غير العينية التي تُموّل شراء الأدوية، للمستفيدين من المؤسسات الأهلية الصحية، وغيرها.
وقال غنيم: “التبرعات التي تصل القطاع الصحي، خاصة الأدوية، والأموال التي تشترى بها الأدوية، رافد مهم في بلادنا؛ لكنني لم أجد في القوانين المعنية أي نص أو لائحة قانونية تحكم هذا الأمر، ونحن عندما نتحدث عن الأدوية، فمن الواجب إفراد باب خاص بذلك في قانون الصيدلة، ومع ذلك في مثل هذه الحالات نلجأ للقواعد العامة لإدارة المال العام: النزاهة، والشفافية، والمساءلة”.
ورأى غنيم أنه “يمكن إيجاد أصل قانوني للأمر عن طريق إقرار مجلس إدارة المؤسسة الأهلية لطريقة إدارة هذا المال العام، شريطة ألا يتعارض ذلك مع الأصل الذي قامت عليه المؤسسة، كجهة غير ربحية، فحتى لو اشترت الدواء من أموالها لا يجوز أن تحقق فائض لرأس المال هذا”.
وأكد غنيم أن “مثل هذه القرارات التي تتعلق بإدارة المال العام، وحتى كيفية إدارته، يجب أن تكون مُسببة ومنشورةً في وقتها، عبر المنصات الرسمية للمؤسسات عملاً بمبدأ النزاهة والشفافية، وهذا فيما يُسمى بـالتقارير الإدارية والمالية ذات الأثر البالغ في تعزيز ثقة الجمهور بالمؤسسة”.
وحذر من أن يكون التكتيم على كيفية إدارة هذه المؤسسات بما فيه إدارتها لملف الأدوية والمساعدات التي تقدم للمستفيدين “تربة خصبة للفساد”، وقال: “في فترة الحرب الإسرائيلية، وفي كل الأزمات التي مرت بنا في القطاع، لمسنا أهمية القطاع الأهلي، وأهمية ما يقدم له من الممولين والمانحين، فكل حبة دواء تساوي حياة، ولذلك من المهم تفعيل مبدأ المحاسبة على ممارسات الفساد، وضبط العلاقة بين المؤسسات الصحية وموردي الأدوية”.
وعن صندوق المريض، فشدد غنيم على قيمته وأهميته من أجل أن يحظى الجميع بحقهم في الصحة والعلاج، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي أفرزتها الحرب، لكنه قال: “إذا كانت إدارة صندوق المريض من صلاحية أفراد، وليست صلاحية نظام، وبلا لوائح مكتوبة وواضحة، فهذا يُعطي فرصة للمحاباة والمحسوبية”.
وفي ورقة حقائق نشرها مركز الميزان لحقوق الإنسان في 15 ديسمبر 2024، بعنوان “المرضى المزمنون يواجهون خطر الموت” جاء أن: “الكثير من المشكلات الكمية والنوعية تشوب عملية إدخال الأدوية إلى القطاع، ولذلك فهي تحتاج لآليات تنسيق ونقل واستقبال وتوزيع ومراجعة ورقابة”.
يذكر أنه وفق بيان نشره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن “أربعة قطاعات رئيسية تتولى الإشراف على تقديم الخدمات الصحية في فلسطين: القطاع الصحي الحكومي، ووكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص، ولعبت هذه القطاعات دورا تكاملياً لتحسين الخدمات الصحية والوضع الصحي في فلسطين خلال العقد الماضي”.
مسألة حق وحياة وكرامة!
إن هذه القضية تتجاوز سعر الدواء، إنها مسألة حق وحياة وكرامة، وتنذر بما هو أخطر على مجتمع مُحاصر، ومستهدف، ويُحارب كل لحظة. إن التبريرات التي تقدمها الجهات ذات العلاقة لا تعفيها من مسئولية اتخاذ تدابير أكثر صرامة، تراعي مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة، من أجل حماية كل حبة دواء تصل القطاع، في ظل حاجة ماسة لمجتمع محاصر منذ أعوام طويلة.
إن حرب الإبادة الإسرائيلية باستهدافها الممنهج للقطاع الصحي في هذه البقعة الصغيرة، ومن قبلها الانقسام السياسي الفلسطيني الذي انعكس بظلاله على عمل وزارة الصحة، كجهة مختصة يُفترض بها الرقابة على القطاع الأهلي الصحي، خلقا ظروفا خصبة لانتشار الفساد، ويصبح المواطن ضحية.
وطن للأنباء 2025