استعادة الأثر : غزّة وآخر أيّام ثورتها في يوميّات عارف العارف

ميزة يوميّات العارف، أنّ صاحبها كان صاحبًا للثورة ومؤيّدًا لها، في الوقت الّذي كان يشغل فيه منصب قائمقام في حكومة سلطات الانتداب البريطانيّ. ليكون أوّل من يعلم في خبايا وخفايا الأمور بحكم موقعه، وأوّل من يبلغ وينبّه

(هذه المادّة هي الأولى من سلسلة بعنوان: استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير. ننشرها تباعًا بشكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون، أو كتبت في غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين).

“بدأت أشعر في هذه الأيّام أن أفنّديّة غزّة قوم مزعجون للغاية. إنّهم يسعون للتقرّب منّي، لا حبًّا بسواد عيوني… وإنّما نكاية بخصومهم، وتأمينًا لمصالحهم الشخصيّة” يقول عارف العارف.

استوقفني، أنّ للمؤرّخ المقدسيّ عارف العارف أوراقًا غير منشورة، كتبها عن يوميّات شغله منصب قائمقام في مدينة غزّة أيّام الانتداب البريطانيّ عليها وعلى البلاد. فالأوراق بأهمّيّة من حيث تخبرنا عن أحوال غزّة الانتدابيّة والمدينة، قبل أن تغدو غزّة القطاع بعد عقد من زمن كتابة يوميّات العارف.

ومع أنّ عارف العارف، قد ألّف كتابًا نشره “تاريخ غزّة” أرّخ فيه لغزّة، وبدا متحمّسًا لها ولتاريخها، إلّا أنّ من يقرأ أوراق يوميّاته عن المدينة، ينتبه منذ الورقة الأولى إلى نفور صاحبها من غزّة وأحوالها في حينه. والسبب، في أنّ الرجل، والّذي كان يعمل موظّفًا في السلك الحكوميّ الإداريّ – الانتدابيّ، قد نُقِل في تمّوز/يوليو عام 1939 من ديار السبع إلى مدينة غزّة بغير إرادته. وربّما كانت رغبة الإنجليز، الّذين بحسب العارف لم يرق لهم علاقته بـ “عربان” بئر السبع كما يصفهم العارف نفسه، وكذلك علاقته الوثيقة بالحاجّ أمين الحسيني، وهو ما دفع السلطات البريطانيّة برأي العارف نقله إلى غزّة، ليحلّ محلّ سلفه عبد الرازق قليبو، الّذي نقله الإنجليز بدورهم من غزّة إلى مدينة الرملة.

ولم يكن نقل العارف القسريّ إلى غزّة السبب الوحيد لنفوره، وتذمّره الدائمين في يوميّاته منها، إنّما الفترة الّتي كانت تعصف بغزّة وقضائها مع نقل العارف إليها، بما تضمّنته وقتها من فساد وفوضى وفلتان في آخر أيّام الثورة الكبرى (1936-1939) على سلطات الانتداب، هي من جعلت صاحب اليوميّات يبدو متحاملًا على السلطات البريطانيّة وأفنديّة غزّة معًا.

تقع يوميّات عارف العارف غير المنشورة في 95 ورقة، امتدّت من تاريخ 22 تمّوز/يونيو 1939 إلى يوم 23 أيّار/مايو 1940. ما يعني أنّ بعض أوراق يوميّاته قد فقدت بالتأكيد، ولأنّها يوميّات وليست مذكّرات، فإنّ نقص وضياع بعضها لا يمنع قارئها من فهم أحوال مدينة غزّة في تلك المرحلة.

الفلتان في مواجهة العصيان

في الوقت الّذي كانت تدبّ فيه الفوضى والفساد في غزّة ودوائرها الإداريّة، ودبيب الفلتان يسير أعمى في أحيائها إثر الثورة الكبرى وإجهاضها، من نهب وسرقات، وتصفيات ونزاعات عائليّة، وجرائم قتل، وافتراءات وصلت إلى حدّ المساس بالأعراض، ولم يتردّد صاحب اليوميّات من الإشارة إليها بالاسم. وذلك في مشهد انسحب على بلدات مثل خان يونس والمجدل والفالوجة الّتي كان العارف يتابع شؤونها بحكم منصبه الإداريّ. وهي حالة، عمّت كلّ مدن وقرى فلسطين في حينه، وعلى مرأى من سلطات الانتداب البريطانيّ الّتي آثرت الفوضى على التمرّد عليها. لا بل، ومع كلّ ذلك، كانت سلطات الانتداب تشنّ حملة اعتقالات واسعة لكلّ من عرفت عنه بدعمه الثورة، أو اشتبه باتّصاله بها أو بالحسينيّين (مناصري الحاجّ أمين الحسيني) خصوصا أن أفنّدية وكبار عوائل مدينة غزّة قد انقسموا بين مؤيّدين للثورة والحسينيّين، وبين معارضين لهم وللثورة عمومًا، لينعكس ذلك اجتماعيًّا أكثر ممّا انعكس سياسيًّا، سلبًا على المدينة وأهلها، مولّدًا شروخًا أهليّة بسبب بعض كبار من بعض كبرى عوائلها. فقد عرفت غزّة بحسب العارف استقطابًا، ما بين وجوه عائلة الحسيني في المدينة وبين كبار عائلة الشوا الغزيّة وأفنديّتها المحسوبين على تيّار المعارضة فيها وقتها.

الحاجّ أمين الحسيني في الجليل عام 1947 (Getty)

كما أقالت سلطات الانتداب، رئيس بلديّة غزّة فهمي الحسيني من منصبه في أواخر عام 1938، ثمّ اعتقلته ونفته لاحقًا مطلع العام التالي إلى سورية. اعتقلت أيضًا، في التاسع من تمّوز/يوليو رئيس بلديّة خان يونس عبد الرحمن الفرا، وأودعته في سجن غزّة. وكذلك اعتقل يوسف نجم أفندي رئيس بلديّة مجدل عسقلان ومعه بعض من وجوه وتجّار بلدته بعد أيّام قليلة من اعتقال الفرا.

جاء اعتقال هؤلاء بحسب العارف، ضمن سلسلة جرد حساب طالت بعد إجهاض الثورة وكلّ من دعمها. إضافة إلى سياسة نقل عشرات الموظّفين والإداريّين العرب الّذي اشتبه بتعاطفهم مع الثورة منذ اندلاعها إلى مواقع إداريّة في مدن بعيدة عن مدن إقامتهم، ومن بينهم عارف العارف نفسه، عقابًا لهم. في مقابل تمكين سلطات الانتداب لمعارضي الثورة والحسينيّين في مدنهم وقراهم، ومكافئتهم بتعيينهم في مناصب ومواقع إداريّة.

آفة التحزّب العائليّ

إنّ ممارسة العقاب في مقابل المكافئة، المتولّدة عن سياسة الترهيب أو الترغيب الّتي اتّبعتها سلطات الانتداب في غزّة ومحيطها، وفلسطين عمومًا أواخر الثورة، قد تزامنت مع اندلاع الحرب العالميّة الثانية، الّتي كانت بريطانيا طرفًا فيها في صفّ الحلفاء، ممّا استدعى سلطات الانتداب إلى التعجيل في وأد كلّ مظاهر التمرّد في البلاد لصالح الإبقاء على مظاهر الفوضى والفلتان. ونبّه العارف، وبلا تحوّط، إلى ظاهرة ارتداد بعض الشخصيّات القياديّة الثوريّة وبأسمائهم في غزّة عن الثورة، ومحاباتهم سلطات الانتداب البريطانيّ، وذلك، إمّا لأنّ هزيمة الثورة باتت حقيقة ثابتة لديهم وقتها، أو لاعتبارات اجتماعيّة متّصلة بالتحزّب العائليّ الداخليّ في المدينة.

هذا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أيضًا، تضييق سلطات الانتداب الفرنسيّ الخناق على كثير من الفلسطينيّين بمن فيهم الغزيّون الّذي فرّوا من ملاحقات الإنجليز إلى سورية ولبنان أيّام الثورة الكبرى، وذلك مع اندلاع الحرب العالميّة الثانية، وتعاون الفرنسيّين مع الإنجليز في ملفّ الملاحقين الفلسطينيّين في سورية ولبنان، ممّا اضطرّ هؤلاء الأخيرين العودة أو إعادتهم قسرًا إلى البلاد، ورضوخهم لشروط ابتزاز سلطات الانتداب لهم، بعد أن ضاقت بهم السبل.

بالنسبة لصاحب اليوميّات، كان التحزّب العائليّ وصراع أفنديّاتها، هو السبب الأساس لهزيمة الثورة ونكبات البلاد في حينه. ويردّ العارف، جذور ذلك التحزّب العائليّ في غزّة أيّام الثورة إلى مرحلة أبكر تعود إلى أيّام العثمانيّين الأتراك، وتعاون بعض أفنديّة بعض العائلات الغزيّة مع السلطات العثمانيّة وتأليبها ضدّ خصومهم من أبناء جلدتهم من أفنديّة العائلات الأخرى، إلى حدّ أوصل فيه ذلك التعاون رقاب بعض الأفنديّة الغزيّين حبل مشنقة الأتراك في الحرب العالميّة الأولى.

ومع ذلك، ينبّه عارف العارف في ذلك التحزّب إلى أمرين: الأوّل، رفضه التعميم على عائلة بعينها، وتصنيفها بأكملها على أنها معارضة للثورة ومتعاونة مع سلطات الانتداب، لمجرّد تعاون بعض أفنديّتها مع سلطات الانتداب ومعارضة الثورة. فعائلة الشوا الغزيّة على سبيل المثال، الّتي وقف بعض أفنديّتها ضدّ الثورة والحسينيّين، وتعاونوا مع سلطات الانتداب، انحاز بعض أبنائها إلى الثورة، والتحق بعضهم بها يؤكّد العارف في يوميّاته مذكّرًا بأسمائهم. والثاني، تورّط بعض أفنديّة غزّة، سواء من عوائل عارضت الثورة مثل عائلتي الشوّا وأبو خضرا، أو أخرى كانت محسوبة على الثورة والحسينيّين، بتسريب أراض في قضاء غزّة للصهاينة بمن فيهم من عائلة الحسيني ذاتها في غزّة. ممّا يقول ذلك، إنّ التحزّب والاستقطاب بين مؤيّد للثورة أو معارض لها، لم يكن نابعًا بالضرورة من دوافع سياسيّة وطنيّة، بقدر ما كان مردّه الصراع العائليّ على الجاه والزعامة والنفوذ في مدينة غزّة، وغيرها من المدن الفلسطينيّة الأخرى.

جمع الخراطيش وإعادة الطرابيش

من أهمّ ما أشار إليه عارف العارف في يوميّاته الغزيّة، عن مظاهر إجهاض سلطات الانتداب البريطانيّ للثورة وملاحقة داعميها في أواخر عام 1939، هو جمع السلاح من أيدي الغزيّين وفلّاحي قرى قضاء المدينة وعرائض ولائهم للعرش البريطانيّ، فيقول العارف: “والجيش مسيطر في أكثر أنحاء البلاد، فها هو يجمع من كلّ قرية ما يستطيع جمعه من بنادق ومسدّسات، وها هي الحكومة تجمع من الشعب عن طريق أذلّائها ورجالها مضابط التأييد والإخلاص للعرش والتاج البريطانيّ طبعًا”.

لم تكن إشارة العارف إلى سياسة بريطانيا بجمع سلاح الفلسطينيّين في غزّة وقضائها، لتعنينا فقط في سياق إجهاض الثورة والقضاء على آخر مظاهرها. بقدر ما أن جمع السلاح بعد الثورة وهزيمتها، كان سياسة استعماريّة مهّدت لتمكين الصهاينة ونكبة الشعب الفلسطينيّ يوم لم يجد أبناؤه بندقيّة ولا حتّى طلقة رصاص للدفاع عن أنفسهم عام 1948.

كانت حرب الحلفاء ضدّ الألمان تستعرّ منذ أواخر عام 1940 كما تفيدنا يوميّات العارف، فيما غزّة المدينة بدأت مظاهر نقص المؤن والغذاء إلى حدّ الجوع بدت واضحة في وجوه أهلها، خصوصًا أزمة انقطاع الحليب عن أطفال المدينة كما يقول صاحب اليوميّات في الوقت الّذي كان يقيم فيه بعض أفنديّة غزّة ولائم الخراف المحشيّة وأرطال السمك المشويّ على شرف الكولونيلات الإنجليز في بيارات المدينة تارة، وعلى شاطئ بحرها تارة أخرى. تراجعت القوى الحزبيّة والوطنيّة في غزّة، ويعدّدها العارف بنظره ومنها، المجلسيّون المخلصون للحاجّ أمين الحسيني، ويمثّلهم في غزّة موسى الصورانيّ، والمعارضون المنتمون للنشاشيبي ويمثّلهم في المدينة الحاجّ عادل الشوا، وحزب الإصلاح المؤيّد للدكتور حسن الخالدي، ويمثّله في غزّة فهمي الحسيني، وأخيرًا حزب البلديّة المحايد بقيادة رشدي الشوّا.

قوّضت سلطات الانتداب أحزاب وقوى غزّة وقتها، باستثناء حزب المعارضين المؤيّد للنشاشيبي الّذي مكّنته حكومة الانتداب من غزّة في البلديّة والدوائر الحكوميّة فيها. وقد استعاد بعض وجوه حزب المعارضة من الأفنديّة اعتمار الطربوش على رؤوسهم بعد أن استبدلته الثورة بالحطّة والعقال العربيّين، نكاية بها. كان الطربوش بحسب قول العارف بمثابة أداة استفتاء سياسيّ لدى الغزيّين، بين من بقي وجدانه مع الثورة رغم هزيمتها، وبين من يذكر بموقفه المعارض لها عبر اعتماره الطربوش. ولم ير العارف في غزّة وقتها، غير ستّة طرابيش فقط، فوق رؤوس أصحابها من المتطربشين ضدّ الثورة بتعبير العارف، فيما وجدان المدينة كلّها، بقي على عهد ثورته المهزومة.

والسلام

ميزة يوميّات العارف، أنّ صاحبها كان صاحبًا للثورة ومؤيّدًا لها، في الوقت الّذي كان يشغل فيه منصب قائمقام في حكومة سلطات الانتداب البريطانيّ. ليكون أوّل من يعلم خبايا وخفايا الأمور بحكم موقعه، وأوّل من يبلغ وينبّه إلى حيث يجب الإبلاغ والتنبيه بحكم موقفه. ولم يقسُ العارف على غزّة، إنّما على أفنديّتها ظلّ يقسو، من منطلق “بلادنا بلادنا ثمّ بلادنا، احفظوها لنا عربيّة والسلام” يختم العارف بقوله الّذي يصحّ لكلّ زمان فلسطينيّ.