بقلم: لي يارون
لم تفكر “إيما ميغن توكتالي” بمغادرة إسرائيل يوماً ما، ولكنها حزمت هي وزوجها آموتس في آب الماضي كل الأمتعة ووجدا شقة مؤقتة في تايلاند، وهاجرا مع ولديهما في رحلة باتجاه واحد. لا يعرفون أين سيعيشون بعد ذلك، وهل سيعودون ومتى. بدأت ميغن في جيل الأربعين، بعد سنوات من مواجهة الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد، تشعر أن عليها إيجاد مكان آخر لعائلتها، على الأقل لفترة معينة.
أما درور سدوت (29 سنة)، التي غادرت مع زوجتها في تشرين الثاني الماضي، فقد كانت الانتخابات الأخيرة والمظاهرات ضد الانقلاب هي نقطة الانكسار. “الجميع تظاهروا باسم الديمقراطية دون التحدث عن الاحتلال، وهي الأمور التي كانت في قلب اليسار وأصبحت مهملة، والحرب سرعت العملية”، قالت. ولم تعرف عن المستقبل. “لكن لا يمكن أن تكون وطنياً في هذه الأثناء”، قالت.
جونثان روغل (48 سنة)، وهو مهندس في شركة الهايتيك “الطب الحيوي”، الذي هاجر من واشنطن في نيسان الماضي، كانت المذبحة في 7 أكتوبر أقنعته بأن يستقر في إسرائيل. قال من بيته الجديد في تل أبيب: “أشعر بأنني متصل وآمن”. ولكنه اعترف بأنه منذ قدومه إلى البلاد وهو في قلق على مستقبل الديمقراطية ويشارك في المظاهرات ضد الحكومة وهو مع صفقة التبادل.
هذه القصص تجسد منحى يظهر أيضاً في معطيات المكتب المركزي للإحصاء وشركات متخصصة بموضوع الهجرة، وعشرات المقابلات التي أجرتها “هآرتس”. “منذ 7 أكتوبر، غادر عشرات آلاف اليهود في إسرائيل والشتات وطنهم بحثاً عن مكان أكثر أمناً، سواء أكان الدافع الخوف من الحرب وانهيار الديمقراطية ومعارضة الحكومة وغلاء المعيشة، أم الخوف من اللاسامية والتضامن مع إسرائيل. يبدو أن يهود القرن الحادي والعشرين يعودون للترحال.
ثلاثة أجيال على متن طائرة إلى الخارج
إيلان رفيفو (50 سنة) من “رمات هشارون”، ولد في مجال أعمال إعادة التوطين. الشركة التي يديرها الآن، “يونفيرس ترانزيت”، أسسها والده إسحق، وهو مهاجر من فرنسا في نهاية الثمانينيات؛ لتقديم خدمات النقل وإعادة توطين اليهود من فرنسا. في البداية، قال رفيفو، كان التوجه واحداً: إلى إسرائيل. ولكن في التسعينيات بدأ المشروع التجاري العائلي يوفر الخدمات أيضاً للإسرائيليين الذين قرروا المغادرة أثناء موجة الإرهاب في حينه، واستمرت إلى بداية سنوات الألفين والانتفاضة الثانية. بعد ذلك، بدأت الشركة تعرض خدمات للعثور على عقارات في الخارج والمساعدة في إيجاد مدارس واستصدار التأشيرات.
” الناس يغادرون دائماً. ولكن منذ خطوات الإصلاح القانونية، لاحظنا زيادة كبيرة”، قال رفيفو وأشار إلى أن هذا التوجه تعزز منذ 7 أكتوبر. “قبل بضعة أسابيع، نقلنا عائلة كبيرة من “كريات موتسكين” إلى إسبانيا، 20 شخصاً تقريباً، والدان كبار في السن وأولاد وأحفاد- ثلاثة أجيال. وقد شاركونا حزنهم وقالوا إنهم تعبوا من الحياة هنا، وتحدثوا عن الانقلاب النظامي والوضع الاقتصادي والخوف من أنه لم يعد هناك مكان للعلمانيين الليبراليين في البلاد، وأن الوضع سيسوء”.
تحدث رفيفو أيضاً عن ارتفاع عدد طلبات المساعدة في إعادة التوطين. “عائلات كثيرة شابة مع أولاد صغار وعدد كبير من سكان مركز البلاد، بعضهم أُخلي من الشمال”، قال. الشركة ساعدت مجموعة تتكون من 30 عائلة، 100 من الآباء والأولاد، في الانتقال إلى سالونيك. “معظم مقدمي الطلبات أشخاص ما زالوا يجلسون على الجدار، ويهتمون بالتكلفة ويصدرون جوازات سفر أجنبية ويفكرون بالمغادرة، لكنهم لم يقرروا بعد”.
الوضع الذي وصفه رفيفو ينعكس أيضاً في معطيات محدثة للمكتب المركزي للإحصاء، التي يتبين منها أن عشرات آلاف الإسرائيليين غادروا البلاد في السنوات الأخيرة. حسب المعطيات، فإن الـ 42185 إسرائيلياً الذين غادروا بين تشرين الأول 2023 وآذار 2024 لم يعودوا حتى تموز. هذه زيادة 12 في المئة مقارنة مع السنة الماضية. في تشرين الأول 2023، الشهر الذي حدثت فيه المذبحة، كان الارتفاع دراماتيكياً، 12300 شخص غادروا ولم يعودوا حتى الآن، ارتفاع 400 بالمئة مقارنة بتشرين الأول 2022.
موجة الهجرة التي بدأت صيف ما قبل الحرب، كرد على خطة الانقلاب النظامي…الـ 34500 إسرائيلي الذين غادروا بين تموز وتشرين الأول 2023 لم يعودوا حتى نهاية أيار، ضعف العدد مقارنة بنفس الفترة في السنة السابقة.
حسب أقوال المحامي ليعام شفارتس، رئيس قسم إعادة التوطين في دائرة أحكام العمل وإعادة التوطين في مكتب غولدبرف زلغمان وشركائه، فإن زيادة حدثت منذ بداية الحرب بنحو 40 في المئة على الطلبات المقدمة للمكتب للمساعدة في إصدار تأشيرات لإعادة التوطين في أمريكا، بالأساس من شركات تجارية. “هناك شركات سايبر و”هايتك”، التي تبدو اعتباراتها أمنية”، قال. “هي تدرك بأنه إذا اندلعت حرب في الشمال أيضاً، فعليها نقل أقسام كاملة. شركات أخرى ترد على الضغط المتزايد للعاملين الذين يريدون الانتقال. والنوع الثالث هم الذين لا يريدون العودة. واجهنا عشرات الطلبات من العاملين في مستويات مختلفة، الذين يبحثون عن طريقة للبقاء في الولايات المتحدة. مكتبنا عالج مئات طلبات إعادة التوطين من تشرين الأول، هذا هو الرقم الأعلى الذي أتذكره منذ سنوات”.
حسب أقوال آشر تورئيل، مدقق حسابات متخصص في ضرائب الهجرة، الكثير من الإسرائيليين طلبوا منذ تشرين الأول الاستشارة في موضوع تحويل الأموال، بما في ذلك أموال الاستثمار والتقاعد، إلى الخارج. “التغيير يتم الشعور به بشكل كبير جداً”، قال.
نوعام شني، الخبير في الجينات الوراثية، عمل في مجال التكنولوجيا الحيوية مدة ثلاثين سنة قبل مغادرته هو وزوجته أليس، التي كانت نائبة المدير العام للتسويق والمبيعات. جاء القرار أثناء إجازة في 2017. “على شاطئ في تايلاند أدركنا بأننا لا نريد العودة”، قال شني. “لم يكن الوضع سيئاً لنا في البلاد، ولكننا أردنا التغيير. بحثنا عن مكان قريب من العائلة ومن الأولاد والأحفاد، وجدنا قبرص”.
الآن الشركة التي أسسوها قبل سبع سنوات، تبيع العقارات في بابوس، وترافق عشرات الإسرائيليين في عملية إعادة التوطين في الجزيرة الصغيرة التي يعيش فيها نحو 10 آلاف إسرائيلي. “المسافة عن البلاد ساعة سفر. المكان هنا جذاب جداً للإسرائيليين”، قال شني. “نبني هنا أحياء جديدة، مدارس للأولاد الأجانب، والطلب أكثر من العرض”.
ثمة بؤرة جذب أخرى في بابوس، وهي إمكانية الحصول على مواطنة دائمة حتى لمن هو ليس مواطناً أوروبياً، عن طريق شراء عقار بمبلغ 300 ألف يورو. “إسرائيليون يريدون مكاناً ليهربوا إليه”، قال شني. “اليوم يهتمون بشكل أقل بالاستثمار وأكثر بخطة احتياطية تعد مسبقاً في حالة أصبح وضع البلاد أكثر خطراً”.
في مجموعة “نساء إسرائيليات”، التي تديرها اليس في بابوس، كان فيها 20 عضوة قبل أربع سنوات، وبلغ الآن 200. “معظم من يأتي منذ الحرب عائلات مع أولاد وشيوخ، يحركهم الخوف الوجودي والخوف من المستقبل ومن الأخطار في البلاد ومن اليأس”.
ارتفاع عدد طالبي الهجرة
هناك من يختارون المجيء إلى إسرائيل في هذه الفترة. يصعب معرفة عدد المهاجرين عقب 7 أكتوبر، لأن عملية الهجرة تستغرق بضعة أشهر. ولكن عدد ملفات طلبات الهجرة إلى البلاد، التي تم فتحها بمساعدة الوكالة اليهودية ومنظمة “روح لروح” التي تساعد على الهجرة في أمريكا الشمالية، يتبين منها اهتمام متزايد بالهجرة إلى البلاد. في الـ 15 سنة الأخيرة، بلغ عدد اليهود من أمريكا وكندا الذين فتحوا ملفات للهجرة، 4300 في السنة؛ منذ 7 تشرين الأول وحتى حزيران الماضي تقول منظمة “روح لروح”، إنه تم فتح 10500 ملف تقريباً، ضعفين ونصف الضعف. الأمر يتعلق بعملية تحتاج إلى طلبات كثيرة، فمن غير المعقول أن أشخاصاً يبدأون بها إذا لم تكن لديهم نية جدية للهجرة إلى البلاد.
نماذج الطلبات التي قدمت لمنظمة “روح لروح” تدل على الأسباب التي تجعل مقدمي الطلبات يبدأون بالعملية الآن بالذات. “الهجمات الأخيرة ضد إسرائيل وارتفاع اللاسامية في أمريكا عززت قرار أن نكون مع شعبنا”، كتب أحد هؤلاء. وكتب آخر بأنه دائماً طمح للهجرة إلى البلاد، وأنه ” كل شيء تغير في 7 أكتوبر، وأصبح التوق هدفاً. قال لي قلبي بأن عليّ أن أكون مع أبناء شعبي”. شخص آخر كتب: “عقب الأحداث المأساوية في عيد العرش الأخير، أشعر بأن عليّ العودة إلى جذوري”.
“وكتب أشخاص كثر بأنهم يشعرون أن أمريكا لم تعد آمنة، ولا يرون فيها مستقبلاً لهم أو أنهم يشعرون بعدم الاستقرار. ولكن المبرر السائد هو التضامن مع إسرائيل”، قال زئيف غيرشنسكي، وهو نائب المدير العام لمنظمة “روح لروح”. بعضهم شباب يريدون التجند بدلاً من التعلم”. من تحليل البيانات، يبدو أن الحديث يدور عن أمريكيين كانت دائماً لهم صلة قوية بإسرائيل، التي تعززت مع الحرب وخلقت الرغبة في دعم الدولة من الداخل”.
حسب أقوال البروفيسور إسحق ساسون، الخبير في الهجرة في قسم علم الاجتماع والإنسان في جامعة تل أبيب، ربما يتضاعف عدد المغادرين مرتين أو ثلاث مرات في السنوات القريبة القادمة، بالأساس في أوساط الشباب. “هذا ما يحدث في الدول التي مرت بعملية قمع سياسية. هنغاريا التي يشبه عدد سكانها عدد السكان في إسرائيل فقدت 400 – 800 ألف من مواطنيها في العقد الماضي”، قال ساسون. “في إسرائيل مئات الآلاف الذين يؤثرون على الاقتصاد والأكاديميا بشكل كبير، وإذا غادر كثيرون منهم فسيكون الضرر غير قابل للإصلاح”.
إضافة إلى ازدياد عدد المغادرين، يتوقع ساسون انخفاضاً كبيراً في عدد السكان الذين سيعودون. “حسب جميع الأبحاث، الشخص مستعد لدفع ثمن الهجرة إذا فاقت الفائدة ثمن البقاء في الدولة. الثمن في إسرائيل باهظ، وسيزداد كلما استمرت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. عندما تدفع الحكومة بالناس إلى الخارج فسيغادرون في نهاية المطاف. لا يجب أن يغادر مليون إسرائيلي دفعة واحدة، حتى عدد أقل من ذلك بكثير سيولد ضرراً كبيراً”، قال.
في المقال الذي نشره معهد بحوث الأمن القومي في تل أبيب، كتب ساسون والبروفيسور اليكس فاينراب من مركز تاوب، بأن “إسرائيل تقف أمام انعطافة ديمغرافية”. وقد وصفا منحى المغادرة كظاهرة مقلقة، بسبب “وجود أساس للافتراض القائل إن من يغادرون هم رأس مال بشري نوعي، ومغادرتهم تعرض استمرار النمو الاقتصادي في إسرائيل للخطر”.
بالنسبة لمغين توكتالي، فإن الحياة في إسرائيل أصبحت قاسية جداً. “في السنوات الأخيرة، تعرضنا إلى ضربات كثيرة، بدءاً بكورونا ومروراً بالنضال من أجل الديمقراطية، وانتهاء بـ 7 أكتوبر الذي فقدنا فيه الكثير من الأصدقاء في حفلة نوفا”، قالت. “أغادر، على الأقل الآن، ليس لأن بيبي في الحكم، بل لأنني أشعر أنه لا مكان لي في مجتمع تآكلت فيه قيمة الحياة، ويرى فيه أشخاصاً مثلي عائقاً أمام جهود الحرب بالنسبة للنظام. أعوّد نفسي على وضع الترحال وليس على وضع الجذر الراسخ. ربما الوطن في الداخل وليس في الخارج”.
خلافاً لها، يشعر روغل بأنه كيهودي لا وطن آخر له. “بعد الكارثة قلنا: لن يتكرر هذا. ولكني أشعر بأنه يتغير”، قال. “أشعر بأن الدولة اليهودية الوحيدة في العالم هي المكان الوحيد الذي سأشعر فيه بالأمن، حتى مع وجود الصواريخ والحرب”.
سدوت وشريكتها الزوجية تعيشان الآن في حي نويكلن في برلين، إلى جانب جيران آخرين هربوا من الشرق الأوسط، من لبنانيين، وأتراك، وسوريين، وفلسطينيين. يتظاهرون معاً من أجل وقف إطلاق النار. الاثنتان لا تخططان للعودة في القريب. ولكن سدوت التي كانت في السابق المتحدثة باسم “بتسيلم” والمتحدثة باسم عضو الكنيست أيمن عودة، لا تزين الهجرة. “يجب تعلم اللغة مثلما كما الصف الأول، وإيجاد شقة وعمل، ثمة اشتياق وقلق على الأصدقاء والعائلة”، قالت. “لكن المهم لنا في هذه الأثناء هو إمكانية التنفس. أشعر أنني أكثر أمناً هنا”.
“تشعر بحرية حين تكون في محيط موقفك فيه هو الشرعي، وأن تكون في مظاهرات ضد الحرب مع آلاف الأشخاص. في البلاد، كنت أشاهد الأفلام الفظيعة القادمة من غزة، وفي الخارج في كل مكان كان هناك “معاً سننتصر”، حيث من الواضح أنك لست في هذا “معاً” وأنه لا أحد سينتصر. هذا يعني أنك تعيش واقعاً موازياً، وهذا يمثل انكساراً للقلب”.