صباح الـ 25 من أيلول/ سبتمبر 1996، هبّ الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وألوانه بعد أن كُشف عن نفق إسرائيلي تهويدي أسفل المسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس المحتلة، فشل الاحتلال قبل ذلك بافتتاحه مرتين عامي 1986 و1994؛ ويمتد على طول 450 مترًا أسفل “الأقصى” والعقارات الإسلامية المحيطة به.
و”هبة النفق”؛ هي انتفاضة شعبية فلسطينية أخرى في التاريخ الفلسطيني، انطلق الشعب فيها بعد المساس بالمسجد الأقصى ومحاولة تهويده.
وافتتحت سلطات الاحتلال، “النفق”، بعد حفريات طالت مبانٍ وآثار قديمة من العصرين الأيوبي والأموي، وقناة رومانية قديمة محفورة في الصخر، أسفل المدرسة التنكزية؛ (مكتبة المسجد الأقصى حاليًا)، وسوق القطانين والمدرسة المنجكية؛ والتي شُيدت في العهود الإسلامية.
نتنياهو مرة أخرى!..
جاءت “هبة النفق” في زمن حكومة بنيامين نتنياهو، وفي ظروف مشابهة تقريبًا لما يحدث اليوم من عدوان وإبادة جماعية في قطاع غزة والضفة الغربية وتهويد مستمر بالقدس والمسجد الأقصى.
حاولت حكومة نتنياهو، التي تنصلت من كل الاتفاقيات السياسية مع منظمة التحرير الفلسطينية؛ لا سيما اتفاقيات أوسلو، فرض أمر واقع ووقائع جديدة على الأرض تتعلق بـ “الحلول النهائية” ورفض الدولة الفلسطينية وتهويد القدس ومواصلة الاستيطان.
وللمقاربة، فقد تشابهت الظروف التي سبقت عملية “طوفان الأقصى”؛ انطلقت يوم 7 أكتوبر 2023 الماضي، فيما يتعلق بالاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، وانغلاق الأفق السياسي ورفض إقامة الدولة الفلسطينية حتى على حدود عام 1967.
بدأت التظاهرات والمواجهات مع وضد قوات الاحتلال، صبيحة الأربعاء 25 أيلول 1996، بعد دعوات شعبية ورسمية لنصرة القدس والأقصى والوقوف في وجه تهويدها، بعد إعلان حكومة نتنياهو آنذاك فتح باب النفق.
تسلسل وتطــورات الأحــداث..
دارت مواجهات عنيفة بعد ظهر الأربعاء 25 أيلول، بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال؛ رشق فيها الشبان قوات الاحتلال بالحجارة وعلى أثرها قام الاحتلال بإخلاء ساحات الأقصى وإغلاق جميع أبوابه ولاحقت قواته الفلسطينيين واعتقلت منهم 11 شاباً.
وتواصلت الاشتباكات في شارع الزهراء وأحرقت سيارة إسرائيلية في القدس أمام فندق الأمريكان كولوني واستخدمت قوات الاحتلال الرصاص المعدني المغلف بالمطاط ضد الشبان الفلسطينيين واعتقل 30 فلسطينياً.
وبعد سلسلة اجتماعات رسمية، أصدر الرئيس الراحل ياسر عرفات بياناً دعا فيه جماهير الشعب الفلسطيني لمقاومة ومواجهة الأعمال الإسرائيلية الرامية لتهويد المدينة المقدسة باعتبارها جريمة نكراء.
وانطلقت المسيرات في حي الواد وباب الساهرة وباب النفق الجديد وشوارع القدس: شارع صلاح الدين، السلطان سليمان، الزهراء، ونابلس وأحياء البلدة القديمة، كما عمت المسيرات والمواجهات مختلف محافظات الوطن.
تواصلت المواجهات وتطورت الأحداث يومي 26 و27 أيلول، وكانت هناك مجزرة أخرى بعد استشهاد 5 شبان وإصابة أكثر من 25 برصاص طائرة الكوبرا الإسرائيلية في رام الله يوم 25 أيلول، حيث ارتقى 3 شهداء وأصيب 150 شاباً فلسطينياً، برصاص واعتداءات قوات الاحتلال.
وفي قطاع غزة، ارتقى 32 شهيدًا وأصيب 535 مواطنًا فلسطينيًا؛ بينهم صحفي، بعد مسيرات عمّت وانطلقت في مختلف أنحاء القطاع، ووصل المتظاهرون لمسافة قريبة من المواقع العسكرية الإسرائيلية.
وتخلّلت المواجهات اشتباكات مسلحة بين أجهزة الأمن الفلسطينية وقوات الاحتلال في بعض المناطق، كان أعنفها حصار أكثر من 40 جنديا إسرائيليا داخل مقام يوسف شرقي مدينة نابلس، وتحرير المقام من سيطرة الاحتلال ورفع الأذان مجددا داخله بعد عشرات السنين من سيطرة الاحتلال عليه.
63 شهيدًا و1600 مصاب..
على الرغم من الطابع السلمي الذي خيم على التظاهرات الفلسطينية احتجاجاً على فتح النفق، إلا أن قوات الاحتلال واجهت هذه التظاهرات بإطلاق الرصاص المطاطي والرصاص الحي بكثافة، كما استخدمت الطائرات المروحية والدبابات، وأشركت المستوطنين في إطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين.
وقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين الذين ارتقوا في هذه الهبة 63 شهيداً (منهم 30 بقطاع غزة)؛ بينهم 6 أطفال، و1,600 جريح، في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
فشل حكومة نتنياهو..
أفشلت “هبة النفق” عملية فتح النفق التي بدأت يوم 15 أيلول 1996؛ والتي اكتسبت أهمية كبيرة، حيث جاءت ضمن مخططات حكومة الليكود المتطرفة في برنامجها الانتخابي في ذات العام. وجاءت المحاولة الثالثة لفتح النفق، عشية الاحتفال بـ “عيد الغفران” اليهودي.
يُشار إلى أن عملية محاولة فتح النفق يوم 25 أيلول 1996، قد سبقتها محاولتان؛ الأولى عام 1986 عند باب الغوانمة، والثانية عام 1994، عند المدرسة العمرية وهو نفس المدخل الحالي.
النفق..
باشرت قوات الاحتلال الحفريات في النفق الغربي عام 1970 وتوقفت عام 1974 ثم استؤنفت عام 1975. وبدأ حفر النفق بأمر من مؤسسة دينية تابعة لـ “وزارة الأديان” الإسرائيلية، ومن ثم تسلم الحفر مجموعة من علماء الآثار بسبب الاعتراض الدولي على أن يكون الحفر بغرض ديني.
وفي عام 1987 أعلن الاحتلال عن اكتشاف قناة مياه سبق أن اكتشفها الجنرال الألماني كونراد تشيك بطول ثمانين مترا، كما حاول الاحتلال استكمال الحفريات إلى ملتقى باب الغوانمة وتوصيل النفق بقناة المياه، وذلك عام 1988، فتصدى المقدسيون له.
يمر النفق الغربي أسفل عدد من المدارس الإسلامية الأثرية الواقعة في الرواق الغربي للمسجد الأقصى، كالمدرسة التنكزية والمدرسة الأشرفية والمدرسة البلدية والمدرسة الجوهرية والمدرسة المنجكية.
كما يمر أسفل باب السلسلة وباب السكينة، وأسفل باب المطهرة ورباط الكرد، وأسفل سبيل قايتباي الذي يقع إلى الشرق من الرواق الغربي.
أضرار سببتها حفريات النفق..
وأدى حفر النفق إلى ثقب عدد من آبار المياه أسفل الرواق الغربي للمسجد الأقصى، كبئر المدرسة التنكزية الذي ثقب بالكامل وأفرغ من مياهه، وكذلك بئر المدرسة العثمانية الذي صب بالخرسانة، إضافة إلى بئر سبيل قايتباي، وبئر رباط الكرد والمدرسة المنجكية، حسب ما كشف مدير مركز المخطوطات رضوان عمرو للجزيرة نت.
كما أحدث بناء النفق تصدعات كبيرة في أبنية الرواق الغربي، حيث تفسخت جدران المدارس بعضها عن بعض، كما انهار درج دائرة الأوقاف الإسلامية، بالإضافة إلى انهيار في منطقة سبيل قايتباي، كما تخلخلت أساسات 16 معلما إسلاميا.
28 عامًا مرّت على “هبة النفق”؛ والتي ثار فيها الشعب الفلسطيني بسبب المساس بالمسجد الأقصى، وما زالت المقدسات والأقصى تحت وطأة الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، لا سيما الاقتحامات ومحاولة التهويد وتقسيم المسجد.