في ١٤ آب / أغسطس ، انطلقت مظاهرة يهودية في تل أبيب بمناسبة ذكرى خراب الهيكل، وهتف فيها المتظاهرون بشعار “الحائط حائطنا” وكذلك بشعارات معادية للعرب، ولحاكم القدس البريطاني “كيث روش”، لأنه أزال ستارًا كان قد وضعه اليهود في يوم الغفران من العام الماضي، والموافق ل ٢٤ آب / أغسطس ١٩٢٨. حيث إن اليهود كانوا قد أنشأوا لجنة للدفاع عن حائط المبكى (هو حائط البراق)، في نفس ذلك العام، بهدف القيام بنشاطات تؤدي في النهاية إلى تغيير في الوضع الذي كان قائمًا منذ العصر العربي والعثماني، والقاضي بأن ليس لليهود أي حق بإقامة نشاطات دينية عند حائط البراق، رغم السماح لهم بزيارته أفرادًا وجماعات. وكانت السلطات البريطانية قد أصدرت الكتاب الأبيض الثاني في ١٩ تشرين ثانٍ / نوفمبر ١٩٢٨، أكدت فيه على الملكية الإسلامية لحائط البراق مع حقوق يهودية محددة للوصول إلى الحائط للصلاة. ولذلك قام المؤتمر الصهيوني الذي عقد في زيوريخ ما بين ٢٨ تموز / يوليو و ١١ آب / أغسطس ١٩٢٩، ببحث موضوع حائط المبكى، وساهم هذا في حصول اعتداءات متكررة على حائط البراق، بل ومنع سكان الحي المسلمين من المرور إلى منازلهم في طريق البراق.
في اليوم التالي لمظاهرة تل أبيب، جرت مظاهرة يهودية أخرى في القدس، لتنتهي عند حائط البراق برفع العلم الصهيوني، وإنشاد نشيد “هتكڤا”، وهتافات “الحائط حائطنا”. في اليوم التالي، أي ١٦ آب / أغسطس ١٩٢٩، والذي صادف يوم الجمعة، خرجت من المسجد الأقصى عقب الصلاة مظاهرة عربية كبيرة ردًّا على مظاهرة أمس الصهيونية، وتوجهت إلى حائط البراق، فقلبت منضدة الحاخام اليهودي، وأخرجت الاسترحامات اليهودية التي وضعها المصلون اليهود وأحرقتها.
في اليوم التالي، نشبت مشاجرة بين عربي ويهودي دخل إلى بستانه دون إذن، فتحولت هذه إلى مشاجرة عمومية جرح فيها ١١ يهوديًا و ١٥ عربيًا. كان هذا الشجار سببًا في شحن الأجواء المشحونة أصلًا بعد المظاهرات الثلاثة، أكثر فأكثر، حتى نشرت إشاعة في ٢٣ آب / أغسطس بأن اليهود قاموا بقتل عربيين في القدس، مما أدى إلى فورة دم وهيجان لدى العرب، واتسع الغضب إلى القرى المجاورة للقدس ثم أنحاء واسعة من فلسطين، وفي مقدمتها صفد والخليل ويافا وحيفا.
في الخليل، تحولت الاضطرابات إلى مذبحة يهودية راح ضحيتها ٦٠ يهوديًا وأكثر من خمسين جريحاً. في صفد جرح وقتل حوالي ٤٥ يهوديًا. في نابلس هجم العرب على مركز البوليس، الذي أطلق النار على الجمهور بعشوائية. وفي يافا جرت مظاهرات صاخبة أعقبها هجوم على مستعمرات صهيونية، وكان اليهود قد قتلوا أمام مسجد سكنة أبي كبير وستة من أفراد عائلته. وفي حيفا تمحورت الأحداث عند حي “هدار هكرمل”.
كانت أحداث صفد في ٢٩ آب / أغسطس ١٩٢٩، هي خاتمة الاضطرابات التي قتل فيها ١٣٣ يهوديًا وجرح ٣٣٩، منهم ١٩٨ إصابة بالغة. أما العرب فكان مجموع ضحاياهم ١١٦ شخصًا، وبلغ عدد الجرحى العرب ٢٣٢ جريحًا. تجدر الإشارة هنا، أن أكثرية الضحايا العرب كانت بأيدي القوات البريطانية التي اتخذت موقف المدافع عن الأحياء والمستعمرات اليهودية.
كانت انتفاضة البراق هي نقطة التحول في العلاقات العربية البريطانية، إذ إن مجمل الأحداث كانت موجهة ضد اليهود، وليس ضد الحكومة، إلا أن هذه ارتأت الوقوف في صف اليهود، إذ إنها أطلقت النار على المتظاهرين العرب في القدس، مما أدى بالمتظاهرين في المدن العربية التي لا يعيش فيها اليهود، مثل نابلس وعكا وغيرها، بتوجيه غضبهم ومعاداتهم إلى رموز السلطة، وعلى رأسها مراكز الشرطة البريطانية.
لجنة “شو” وتقرير “سمبسون” ١٩٣٠
حسم المندوب السامي في حينه “جون تشانسلور” موقفه لصالح اليهود، حيث أصدر بيانًا شديد اللهجة ضد العرب، واسماهم “بالأشرار سفاكي الدماء وعديمي الرأفة”، وأطلق على الاضطرابات “الأعمال الوحشية ضد أفراد الشعب اليهودي”. وأعلن المندوب السامي في بيانه عن وقف أي محادثات مع وزير المستعمرات بشأن إنشاء حكومة وطنية عربية، وبهذا تنصل من وعوده للجنة التنفيذية العربية. كذلك قامت بريطانيا باعتقال أكثر من ألف عربي، والحكم على ٨٠٠ منهم بأحكام مختلفة، وصدر الحكم على ٢٥ عربيًا بالإعدام، وتم تنفيذه في ثلاثة منهم وهم عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، يوم الثلاثاء ١٧ حزيران / يونيو ١٩٣٠ في سجن عكا.
في المقابل، قامت الحكومة البريطانية بتعيين لجنة تحقيق برئاسة القاضي المتقاعد السير “والتر شو”، وعضوية ثلاثة من نواب البرلمان البريطاني. وكان الهدف من اللجنة التحقيق في أسباب هبة البراق وأحداثها، واتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرار مثل هذه الحوادث. وتوصلت اللجنة في تقريرها إلى أن السبب الأساسي للاضطرابات هو “شعور العرب بالعداء والبغضاء لليهود، بسبب خيبة أمانيهم السياسية والوطنية وخوفهم على مستقبلهم السياسي”. وأصبح العرب “لا يرون في المهاجر اليهودي خطرًا على معيشتهم فقط، بل يرون فيه ذلك الذي سيسيطر على البلاد في المستقبل”.
وأوصت اللجنة بضرورة “إصدار بيان صريح عن السياسة التي تنوي فيها حكومة جلالته اتباعها في فلسطين، يشمل تفسيرًا واضحًا لمعنى صيانة حقوق الطوائف كما جاء في صكّ الانتداب”، ورأت اللجنة أن “صكّ الانتداب لا يخول الجمعية الصهيونية بالمشاركة بأية درجة كانت في حكومة فلسطين”، وطالبت اللجنة بإصدار “تصريح جلّي عن السياسة التي يجب اتباعها لتنظيم الهجرة اليهودية”. أما بشأن حائط البراق، فأوصت اللجنة بتعيين لجنة دولية من عصبة الأمم للفصل بين العرب واليهود في مطالبهم وحقوقهم فيه.
بناء على توصية لجنة شو بشأن “تنظيم سياسة الأراضي بواسطة تقرير علمي يقوم بتحضيره خبراء حول إمكانية إدخال أساليب الزراعة الحديثة إلى فلسطين”، ألفت الحكومة البريطانية في لندن لجنة “جون هوب سمبسون”، الذي سافر إلى فلسطين وبقي فيها عدة أشهر، أصدر على إثرها تقريرًا حول مهمته في تشرين أول / أكتوبر ١٩٣٠، مؤكدًا على وجود أزمة زراعية في البلاد. وأفاد التقرير أن مساحة الأراضي الزراعية الصالحة في فلسطين تتجاوز الستة ملايين دونم ونصف فقط، وليس كما يزعم الصهاينة بوجود ١٦ مليون دونم، وأن هذه المساحة لا يمكن أن تكفي لكل العائلات العربية الريفية، حيث إن اليهود يسيطرون على ما نسبته أكثر من ١٤ بالمئة، أي حوالي مليون دونم. وأفاد التقرير أن ٢٩ بالمئة من العائلات العربية القروية أصبحت بدون أراضٍ تقوم بفلاحتها، ولا يستطيع هؤلاء أن يحصلوا على عمل في أراضٍ أخرى، لأن الأراضي العربية لا تكفي لإعالة أصحابها من جهة، وعدم قدرتهم على العمل في المزارع اليهودية؛ لأنها تقبل عمالاً من اليهود فقط.
وأشار “سمبسون” في تقريره بأن العرب صاروا يتدفقون على المدن، مما تسبب في تدني الأجور، وأصبحت البطالة العربية تشكل خطرًا على البلاد برمتها. كذلك فإن الأرض الحالية المتوفرة لا تكفي لإحضار مهاجرين جدد، إلا إذا انتهج العرب أساليب زراعية حديثة، وتم استصلاح أراضٍ جديدة تفي حاجة اليهود القادمين إلى فلسطين.
الكتاب الابيض الثالث عام ١٩٣٠
كان العرب خلال هذه الفترة يناشدون الحكومة البريطانية بتحقيق مطالب ثلاثة أساسية وهي: منع بيع الأراضي لليهود، وإيقاف الهجرة اليهودية لفلسطين، ومنح الدستور. من أجل هذا سافر وفد من الحركة القومية العربية إلى لندن، ولكن الحكومة البريطانية رفضت مطالب الوفد، وأعلنت في بيان لها بتاريخ ١٤ نيسان / أبريل ١٩٣٠، بأنها لا يمكن أن توافق على التغييرات الدستورية التي يطلبها الوفد، لأن ذلك لا ينطبق مع صكّ الانتداب. ومن ثم أعقبته ببيان آخر بعد أكثر من شهر من البيان السابق أي في ٢٠ أيار / مايو ١٩٣٠، أعلنت فيه عن التزامها بالعهود المنصوصة في صكّ الانتداب، وأنها ستنزل أشد العقاب بالذين يخلون بالنظام، وتعني بذلك العرب، ولكنها تعهدت في المقابل باتخاذ إجراءات سريعة من أجل حماية مصالح المزارعين حسب نتائج مهمة “سمبسون”، وأشارت إلى أن المخاوف من التأثير على الكيان العربي في فلسطين، ليس لها داعٍ.
وفي ٢٤ تشرين أول / أكتوبر ١٩٣٠، أصدرت الحكومة البريطانية ما يسمى بالكتاب الأبيض، والذي شرحت فيه مجمل موقفها؛ مما يحدث في فلسطين من نزاع بين العرب واليهود.
أكدت الحكومة البريطانية في كتابها هذا على أنها متمسكة تمامًا بما ورد في وعد بلفور وصكّ الانتداب والكتاب الأبيض الأول، مما يعني أنها ستستمر في إدارة شؤون فلسطين بتفويض من عصبة الأمم، وستضمن من خلال ذلك مصلحة “الشعب اليهودي، والشق الآخر للأهالي غير اليهود في فلسطين”، كما جاء في نص الوثيقة. كما أن الكتاب الأبيض الثالث تضمن في نصه فقرات كاملة من الكتاب الأبيض الأول عام ١٩٢٢، وخصوصًا ما يخص إقامة دولة اليهود، والإشارة إلى حقهم في ذلك، وعلى أنه صار “من الضروري ضمان إنشاء الوطن القومي لليهود، ضمانًا دوليًا والاعتراف رسميًا بأنه يستند إلى صلة تاريخية قديمة”. “ومن أجل تطبيق هذه السياسة، من الضروري تمكين الطائفة اليهودية في فلسطين من زيادة أعدادها بالهجرة”.
كذلك تضمن الكتاب الأبيض ما جاء في اقتراحات “سمبسون” المذكورة سابقًا في ضرورة تطوير أساليب الزراعة الفلسطينية من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، وتوفير أراضٍ إضافية لليهود القادمين. ولذلك يجب الانتظار لعدة سنوات حتى تضمن حكومة فلسطين ذلك، وخلال هذه الفترة يجب تقنين وتقليل أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين. ويعترف الكتاب الأبيض الثالث مجددًا بالوكالة الصهيونية على أنها تمثل اليهود، “وتقوم أو تدبّر الأعمال والمنافع العمومية، وترقي مرافق البلاد الطبيعية”، ولكن رغم ذلك فإن أعمال هذه الوكالة “ليس من الجائز أن تتعارض مع مصلحة الأهالي المطلقة، ولا تخولها للاشتراك في إدارة البلاد العمومية”.
أما بالنسبة للمشاكل “العملية التي تواجهها حكومة جلالته في فلسطين”، فقد حددها البيان بالأبواب التالية: الأمن العام ومن خلال هذا البند تم التطرق إلى حجم القوات التي ستقوم بريطانيا بالاحتفاظ بها في فلسطين، والتطورات الدستورية وفيها أشارت الحكومة البريطانية إلى رفضها لمطالبة الزعامة العربية بدستور شامل يضمن لها تسيير شؤون البلاد، بل أسهب البيان في وصف الرفض العربي لاقتراحات الحكومة بشأن إقامة مجلس تشريعي برئاسة المندوب السامي. أما الباب الثالث فهو التطور الاقتصادي الاجتماعي، وهنا تمّ الحديث عن مسألة الأراضي وتقسيمها على ضوء نتائج تحقيق “سمبسون”، والإصلاح الزراعي الذي أشار إليه التحقيق من أجل “تشجيع استقرار اليهود بكثرة في أراضي البلاد، دون إلحاق الضرر بسائر طوائف الأهالي الأخرى”. وقضية الهجرة اليهودية التي يجب “أن تستنبط الحكومة وسائل وافية لمراقبتها”، وكذلك تمت الإشارة إلى التأثير السلبي للهجرة على مسألة البطالة عند العرب، وذلك لأن “مشاكل تحسين الأراضي والهجرة والبطالة متصلة بعضها ببعض، وبأن مستقبل فلسطين يتوقف على إيجاد سياسة تأخذ بعين الاعتبار جميع هذه العوامل الثلاث”.
سرعان ما تراجعت الحكومة البريطانية عن الكتاب الأبيض، تحت تأثير ضغط الوكالة الصهيونية عليها، بادعاء أنه تراجع عن وعد بلفور، حيث أرسلت الحكومة رسالة إلى المنظمة الصهيونية في ١٣ شباط / فبراير ١٩٣١، تؤكد فيها تمسك بريطانيا بموقفها من الوطن القومي اليهودي، وأن موقفها التقليدي لم يتغير بشأن هذه المسألة. وكان لهذا بمثابة تغيير في سياسة حكومة فلسطين بحيث وصلت الهجرة اليهودية إلى ٤٠ ألفًا عام ١٩٣٤، و ٦٢ ألفًا عام ١٩٣٠.
أما العرب الذين شعروا بالارتياح لصدور الكتاب الأبيض الثالث، لأنه يضمن الحقوق المدنية والاقتصادية لهم، وبرغم أنه لم يغيّر شيئًا في موقف بريطانيا من الوضع برمته، فقد خاب فألهم سريعًا بعد رسالة الحكومة البريطانية للوكالة الصهيونية، ولذلك أطلقوا عليها اسم “الكتاب الأسود”.
اللجنة التنفيذية العربية تعلن عن إضراب ومظاهرة في القدس ١٩٣٣
استمرت بريطانيا والحركة الصهيونية بتنفيذ مآربهما في إقامة دولة اليهود في فلسطين، ففي بداية الثلاثينات ازدادت أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين بصورة غير مسبوقة، إذ كان عددهم سنويًا حوالي ٩٥٠٠ عام ١٩٣٢، ولكن هذا العدد قفز إلى ٣٣ ألفًا بعد صعود الحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا. من الناحية الأخرى ابتدأت السلطات البريطانية في إجلاء الفلاحين العرب من الأراضي التي اشترتها الحركة الصهيونية من الإقطاعيين العرب من خارج فلسطين، كإجلاء فلاحي عرب الحوارث من مساحة ٤١ ألف دونم من مرج ابن عامر، بحيث تم تشريد ١٥٠٠ مزارع عن أراضيهم بالقوة، بعد سقوط بعض القتلى من الفلاحين. وإجلاء عرب الزبيدات من الحارثية القريبة من حيفا، وغيرها من الحوادث التي أدت إلى تحويل آلاف الفلاحين إلى عاطلين عن العمل.
كان المندوب السامي في تلك السنوات هو السير “آرثر واكهوب” وكان هذا متحمسًا بشكل كبير إلى تهويد الأراضي، ولذلك فقد تم في عهده أيضًا، انتقال امتياز تجفيف أراضي الحولة البالغة مساحتها حوالي ٥٠ ألف دونم من أيدي العرب، الذين حصلوا على هذا الامتياز في العهد العثماني، إلى أيدي اليهود. وتم في عهده أيضًا، بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، انتقال أراضي وادي الحوارث المقدرة بأربعين ألف دونم من أيدي أصحابها العرب غير الفلسطينيين إلى الوكالة الصهيونية وطرد الفلاحين منها.
أما في المدن، فقد ازدادت البطالة بسبب نزع الأراضي من الفلاحين العرب وسيطرة اليهود على القطاع الصناعي، مما أدى إلى تنظيم العديد من الإضرابات العمالية، والتي شارك فيها الآلاف من العمال العرب، وقد بلغ عدد هذه الإضرابات حوالي ثلاثين إضرابًا بين الأعوام ١٩٣١ و ١٩٣٣.
ولما رأت اللجنة التنفيذية العربية بأن الحكومة البريطانية مستمرة في تجاهل مطالب الجماهير العربية، قامت بعقد اجتماع لها في فندق الأوقاف في القدس وذلك في الثامن من تشرين أول/ أكتوبر عام ١٩٣٣، وترأس الاجتماع رئيس بلدية القدس السيد موسى كاظم باشا الحسيني، ونتج عن الاجتماع بيانا إلى الأمة العربية دعت فيه اللجنة التنفيذية إلى إضراب عام وشامل “برًا وبحرًا” في يوم الجمعة الموافق للثالث عشر من تشرين أول/ أكتوبر، وتنظيم “مظاهرة كبرى في القدس يقودها رئيس وجميع أعضاء اللجنة التنفيذية العربية مبتدئين في الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم من باب القطانين إلى كنيسة القيامة … حتى باب العامود”.
كان على أعضاء اللجنة التنفيذية العربية وغيرهم من زعماء البلاد، أن يقودوا المظاهرة دون طلب إذن من السلطة البريطانية، فيما يعد تحديًا للقانون. على إثر ذلك إذاعة السلطات بيانًا رسميًا تعلن فيه حظر أي تظاهر، وإلا كانت العواقب شديدة، مما كان حافزًا إلى إصرار المنظمين على تنفيذ القرار بالتظاهر والإضراب.
انتفاضة ١٩٣٣
كان الإضراب المقرر في ١٣ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٣٣ شاملًا في كل المدن المركزية في فلسطين، أما مظاهرة القدس الكبرى، فقد خرجت في موعدها المحدد، من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة، وشارك فيها أكثر من ثلاثين ألفًا، منهم ما يقارب ال ٥٠٠ من النساء. ولما وصلت المظاهرة إلى باب الجديد قامت الشرطة البريطانية بإنذار المتظاهرين من الاستمرار إلى باب العامود، ولما رأت هذه أن المتظاهرين لم يأبهوا لتوجيهاتها، قامت بالاعتداء بالعصي والهراوي على المشاركين في المظاهرة، مما أوقع عددًا من الإصابات بينهم. لكن هذا الاعتداء لم يمنع المظاهرة من التنظيم مرة أخرى والاستمرار نحو باب العامود، رغم أنف الشرطة، التي قامت مجددًا بالاعتداء على المتظاهرين بشدة أكثر من المرة الأولى بهدف تفريقهم بالقوة، ولكنها لم تستطع أن تفعل، حيث إن المظاهرة تفرقت بعد نهايتها حسب ما خططت له اللجنة التنفيذية.
بعد المظاهرة، اجتمعت اللجنة التنفيذية مرة أخرى، وأعلنت عن ضرورة الاستمرار بالنضال لمكافحة استمرار الهجرة اليهودية التي تتم بمساعدة ودعم بريطانيا، وعلى هذا الأساس تمت الدعوة هذه المرة إلى مظاهرة كبرى في يافا، وإضراب عام في كل أنحاء فلسطين، على أن يستمر التظاهر حتى تستجيب السلطات للمطالب الوطنية، وتعين موعد الإضراب في السابع والعشرين من شهر تشرين أول / أكتوبر ١٩٣٣، أي بعد أسبوعين من مظاهرة القدس.
كان الإضراب في اليوم الموعود شاملًا في كل المدن الفلسطينية، أما مظاهرة يافا، فقد انطلقت بعد صلاة الجمعة من الجامع الكبير في موكبين كبيرين نحو ساحة البوابة، مرورًا بطريق العجمي. خلال سير المظاهرة هاجم عشرون فارسًا من الشرطة البريطانية المتظاهرين الذي يعدون بالآلاف، وأعملوا فيهم الضرب بالهراوات، مما أدّى إلى هيجان الجماهير ومحاولتها الدفاع عن نفسها. ولما لم تستطع الشرطة السيطرة على الجماهير الغفيرة، صارت تطلق عليهم نيرانها الحية مما أدى إلى سقوط ١٢ شهيدًا وجرح أكثر من ٧٨ شخصًا، واعتقال العشرات من المواطنين.
بعد هدوء الأحوال وتفرق المظاهرة، قامت السلطة بإعلان حظر التجول في يافا من الساعة السادسة مساءً حتى الخامسة صباحًا من كل ليلة، حتى إشعار آخر.
بعد انتشار خبر ما حدث في يافا، انطلقت مظاهرة حاشدة في مدينة نابلس، استمرت لساعات الليل المتأخرة. في اليوم التالي انتقلت الحوادث إلى حيفا وطولكرم والقدس وغزة وغيرها من المدن الفلسطينية، واستمر الإضراب العام لمدة أسبوع كامل، بينما قامت السلطات البريطانية بقمع المظاهرات بقوة، واعترفت على لسان المندوب السامي بأن المظاهرات كانت ذات طابع معادٍ لبريطانيا وحكومتها، بينما لم يتم الاعتداء على اليهود بالمرّة.
قام المندوب السامي “سير آرثر واكهوب” بتعيين لجنة تحقيق في الاتهامات التي وجهها العرب نحو الشرطة البريطانية التي قمعت المظاهرات بالقوة. وأفادت نتائجها أن الشرطة البريطانية قتلت ٢٦ مواطنًا عربيًا، وأصابت ١٨٧ مواطنًا، بينما قتل شرطي واحد، وجرح أكثر من خمسين. يجدر الذكر هنا أن العرب كانوا قد قاطعوا اللجنة لعدم حصول أي فائدة منها، وحملّوا الحكومة المسؤولية الكاملة عن الاضطرابات وما نتج عنها.
انتفاضة عام ١٩٣٣، لم يسبق لها مثيل في فلسطين من حيث قوتها واستمرارها لمدة أسبوع كامل، وتوجيه أسهمها بالكامل إلى الحكومة البريطانية وتحميلها المسؤولية الأولى والأخيرة عن الهجرة اليهودية، ودعم الحركة الصهيونية في مشروعها المبيت للسيطرة على الأرض الفلسطينية نحو تحقيق مشروعها في إقامة الدولة اليهودية