
رام الله
نور الدين أعرج
تشكل الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة نموذجاً معاصراً لاستخدام الحصار الاقتصادي والحرمان من الموارد الأساسية كأداتين في النزاعات المعاصرة. وفي ظل الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023، تحولت آليات توزيع المساعدات الإنسانية من مجرد وسائل إغاثة إلى محاور أساسية تحدد أنماط البقاء اليومي لأكثر من مليوني فلسطيني محاصر. تكشف الممارسات الميدانية في توزيع المساعدات عن تعقيدات جيوسياسية واجتماعية تتجاوز الأبعاد الإنسانية المباشرة، حيث تستغل إسرائيل الحاجات الأساسية للسكان المدنيين من أجل اعتبارات الأمن والسيطرة.
لم يكن الطعام تاريخياً عنصراً محايداً في معادلات القوة، حيث أتقنت الإمبراطوريات الاستعمارية فن إعادة تشكيل الأنظمة الغذائية في البلدان التي احتلتها.
لكن ما يحدث في غزة اليوم يتجاوز حصار الطعام التقليدي في زمن الحرب، حيث يبدو المشهد أعمق وأكثر تعقيداً، تسيطر عليه منظومة متكاملة تستخدم الجوع كأداة سياسية لكسر إرادة شعب بأكمله، في خطوة أولى نحو تهجيره. من البذور التي تُمنع من الدخول، إلى قوارب الصيد التي تُستهدف في البحر، وصولاً إلى المخابز التي تتحول إلى أهداف عسكرية. كل عنصر في السلسلة الغذائية يصبح جبهة في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على القطاع المحاصر.
هذا التوظيف المنهجي للطعام سلاحاً ليس ابتكاراً حديثاً، بل امتداد لنمط استعماري راسخ عبر التاريخ. كما تشير الأبحاث المعاصرة في دراسات الاستعمار البيولوجي، فإن السيطرة على الموارد الحيوية، من الطعام والماء إلى البذور والتربة، شكلت محوراً أساسياً في آليات الهيمنة الاستعمارية على مدار العصور.
من حساب السعرات الحرارية في غزة إلى قصف المخابز
لم تكن المجاعة الحالية في غزة منفصلة عن سياق تاريخي طويل لاستخدام الجوع سلاحاً في القطاع المحاصر. منذ فرض الحصار على غزة في عام 2007، خضع 2.3 مليون فلسطيني لنظام صارم من السيطرة على الغذاء، يهدف، كما صرح مسؤولون إسرائيليون، إلى وضع الغزيين “على نظام غذائي” دون السماح لهم بالموت جوعاً. هذا التوازن الدقيق بين الحفاظ على الحياة ومنع الازدهار هو جوهر السياسة الاستعمارية الإسرائيلية.
على سبيل المثال، كشفت وثائق إسرائيلية مسرّبة، قبل اندلاع الحرب الحالية على غزة، عن حسابات دقيقة أجرتها المنظومة الإسرائيلية لتحديد عدد السعرات الحرارية التي يجب السماح لها بالدخول إلى القطاع وتتيح للفلسطينيين في غزة البقاء على قيد الحياة فقط، دون أن تتجاوز الحد الأدنى اللازم. هذه المعادلة الغذائية المدروسة تذكّرنا بحسابات مماثلة أجرتها السلطات الاستعمارية عبر التاريخ لتحديد الحد الأدنى من الطعام اللازم لإبقاء العمال قادرين على العمل. في مزارع السكر الكاريبية، كان أصحاب المزارع يحسبون بدقة كمية الطعام اللازمة لإبقاء “العمال الذين يعملون تحت نظام العبودية” على قيد الحياة من أجل أن يبقوا قادرين على العمل، لكن دون إنفاق كبير للطعام. اليوم، تُطبق المعادلة العنصرية نفسها، لكن بأدوات أكثر تطوراً وتبريرات “إنسانية”.
ما يحدث في غزة اليوم يتجاوز حصار الطعام التقليدي في زمن الحرب، حيث يبدو المشهد أعمق وأكثر تعقيداً، تسيطر عليه منظومة متكاملة تستخدم الجوع أداة سياسية لكسر إرادة شعب بأكمله، في خطوة أولى نحو تهجيره
هذا التصور يعطينا قدرة على فهم عدم اكتفاء جيش الاحتلال الإسرائيلي بمنع دخول الطعام إلى غزة، بل باستهدافه أيضًا بشكل منهجي البنية التحتية للإنتاج الغذائي. المزارع، مصانع الأغذية، المخابز، حتى أشجار الزيتون. إذا لم يهدف هذا التدمير فقط لمنع الإنتاج الحالي، بل لضمان عدم القدرة على التعافي مستقبلاً. كما في الحروب الاستعمارية التاريخية، يُعتبر تدمير قدرة الشعوب على إطعام نفسها استراتيجية “أكثر فعالية” من قتلها مباشرة. وبنفس هذا المنطق، يمكن تفسير لماذا تُستهدف المخابز والمزارع بنفس الدقة التي تُستهدف بها المواقع العسكرية في القطاع المحاصر.
إرث الانتداب في فلسطين
في التاريخ الفلسطيني، تتكشف استمرارية الأنماط الاستعمارية تجاه الغذاء بوضوح. منذ الانتداب البريطاني وحتى الاحتلال الإسرائيلي، شهدت فلسطين تحولات جذرية في نظامها الزراعي والغذائي، كل منها يخدم مشروعاً استعمارياً مختلفاً لكن بصورة متكاملة. إذ لم يكتف الانتداب البريطاني بوضع حجر الأساس للقوانين التي أعادت تعريف ملكية الأرض، بل أسس لشبكة معقدة من التشريعات التي حوّلت الزراعة الفلسطينية التقليدية إلى نظام خاضع للسيطرة الإدارية المركزية. كما تشير الدراسات، فإن “قانون أمراض الحيوان”، الذي يعطي السلطة الاستعمارية الحق بالتحكم بمرور السلع والحيوانات، هو إرث مباشر من تشريعات الانتداب البريطاني، دُمج في القانون الإسرائيلي عام 1962، ويعكس استمرارية واضحة للمسارات القانونية الاستعمارية”. هذه القوانين لم تكن مجرد نصوص إدارية، بل أدوات لإعادة تشكيل العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم. فرض نظام التراخيص والتصاريح، تقييد حركة الحيوانات والمنتجات الزراعية، تحديد أنواع المحاصيل المسموحة زراعتها، كلها ممارسات هدفت لتفكيك الاقتصاد الزراعي الفلسطيني التقليدي وجعله تابعاً للسلطة الاستعمارية.
ولم تقتصر السيطرة الإسرائيلية على النظام الغذائي الفلسطيني على منع تدفق الغذاء في أوقات الحرب، بل شملت هيمنة شاملة على كل مراحل الإنتاج والتوزيع. من البذور التي يُسمح للمزارعين الفلسطينيين باستخدامها، إلى طرق الري المتاحة، مروراً بعمليات النقل والتسويق، وصولاً إلى المائدة الفلسطينية، كل شيء كان خاضعاً للسيطرة الإسرائيلية. بحسب ما تشير إليه الإدارة المدنية، فإن عملها يرتبط بفرض قيود صارمة على دخول المنتجات الفلسطينية إلى الأسواق، بذريعة “حماية الصحة العامة ومنع انتشار الأمراض”. لكن هذا التبرير، كما توضح دراسات عديدة، “متجذر في تاريخ طويل من التوظيف الاستعماري للحجج الطبية والعلمية لإقصاء الآخر وإخضاعه”. الفلسطيني وحيواناته ونباتاته يُنظر إليها كمصادر تلوث محتملة، مما يبرر فرض قيود صارمة على حركتها وتداولها.
خلق هذا النظام من السيطرة حالة من التبعية الغذائية المطلقة على الفلسطينيين، فبينما تُقيّد قدرتهم على الإنتاج والتسويق، يُجبرون على الاعتماد على السلع الإسرائيلية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. الخضروات والفواكه واللحوم والألبان، كلها تدخل الأسواق الفلسطينية عبر الحواجز الإسرائيلية وتحت سيطرة الاحتلال. وهكذا، تصبح كل وجبة طعام فلسطينية تذكيراً يومياً بواقع الاحتلال وتبعاته. هذا النمط من السيطرة الغذائية لا ينفصل عن التجارب الاستعمارية في القارة الأفريقية، حيث حُوّلت الأنظمة الزراعية التقليدية المتنوعة والمتوازنة إلى مزارع أحادية المحصول تنتج القطن والكاكاو والبن للتصدير.
المجاعة… دروس من التاريخ العالمي
ما نشهده اليوم في قطاع غزة من استخدام التجويع سلاح حرب له سوابق تاريخية مأساوية تكشف عن نمط راسخ في الممارسات الاستعمارية. مجاعة البطاطس في آيرلندا (1845-1852) تُعتبر نموذجاً صارخاً لكيفية استخدام الغذاء أداة إبادة جماعية. فبينما كانت المحاصيل الأيرلندية الأخرى تُصدّر إلى إنكلترا لتحقيق الأرباح، كان مليون أيرلندي يموتون جوعاً، ومليون آخرون يُجبرون على الهجرة. الحكومة البريطانية لم تكن مجرد متفرج سلبي على هذه المأساة، بل لعبت دوراً فعّالاً في تعميقها من خلال سياساتها الاقتصادية والإدارية. قوانين الحبوب البريطانية منعت استيراد الغذاء الرخيص، بينما استمر تصدير الغذاء من أيرلندا. كما فُرضت شروط مهينة على المساعدات الغذائية، بما في ذلك إجبار الأيرلنديين على العمل في مشاريع لا جدوى منها مقابل حصص طعام ضئيلة.
من المواد الخام التي تمر عبر رقابة إسرائيلية، إلى السلع التي تُفرز وتفتش على الحواجز، باتت كل وجبة طعام على المائدة الفلسطينية تذكيراً يوميًا بواقع الاحتلال.
في الهند، تكررت المأساة على نطاق أوسع وبوتيرة أكثر انتظاماً. خلال فترة الحكم البريطاني، شهدت الهند أكثر من عشرين مجاعة كبرى راح ضحيتها عشرات الملايين من الهنود. أسوأ هذه المجاعات كانت مجاعة البنغال عام 1943، التي قتلت حوالي ثلاثة ملايين شخص، بينما كانت بريطانيا تصدّر الحبوب من الهند لدعم مجهودها الحربي في الحرب العالمية الثانية. ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، رفض طلبات الإغاثة الغذائية للهند، قائلاً بسخرية إن المجاعة “خطأ الهنود أنفسهم لأنهم يتكاثرون كالأرانب”، في تصريح عنصري كان يكشف الأيديولوجية الاستعمارية التي تنظر للشعوب المُستعمَرة كأعداد زائدة عن الحاجة، يمكن التضحية بها لخدمة المصالح الإمبراطورية.
من هنا، لم يكن الطعام تاريخياً عنصراً محايداً في معادلات القوة، حيث أتقنت الإمبراطوريات الاستعمارية، وعلى رأسها البريطانية، فن إعادة تشكيل الأنظمة الغذائية في البلدان التي احتلتها، محوّلة الزراعة من نشاط يهدف لإطعام السكان المحليين إلى آلة لخدمة الاقتصاد الإمبراطوري. على سبيل المثال، تكشف دراسة مايك ديفيس في كتابه “محرقة أواخر العصر الفيكتوري” كيف أن المجاعات الكبرى في الهند والصين وأفريقيا خلال القرن التاسع عشر لم تكن كوارث طبيعية، بل نتاج سياسات اقتصادية استعمارية محددة. فبينما كانت الحبوب تُصدّر من الهند إلى بريطانيا لتحقيق الأرباح، كان الملايين من الهنود يموتون جوعاً في الريف المجاور لمخازن الحبوب المكتظة، في مشهد مأساوي يكشف الطبيعة الحقيقية للاستعمار، أي تلك التي تقر بأن الاستعمار لم يعمل فقط على استغلال الموارد، بل على إعادة تنظيم كاملة لحياة السكان والشعوب المستعمَرين.
في محاولة لوصف هذا التاريخ الدموي للمجاعة، يتتبع الأنثروبولوجي سيدني مينتز كيف تحوّل السكر من منتج ترفيهي نادر إلى عنصر أساسي في النظام الغذائي الأوروبي، مؤسساً لما يُسمى بـ”اقتصاد المزارع”. هذا التحوّل لم يكن مجرد تطور في الذوق الأوروبي، بل ثورة اقتصادية واجتماعية حقيقية قامت على استعباد ملايين الأفارقة الذين جُلبوا بالقوة إلى مزارع أميركا اللاتينية والكاريبي لإنتاج هذه “الحلاوة البيضاء”، إذ إن مزارع السكر في البرازيل والكاريبي لم تكن مجرد وحدات إنتاجية، بل مختبرات لتطوير أنظمة القمع والاستغلال. ولم يُجلب الأفارقة فقط لقوة عملهم، بل لمعرفتهم الزراعية التقليدية التي استُغلت لتطوير تقنيات زراعة قصب السكر في البيئات الاستوائية. وهكذا، تحوّل فنجان الشاي المُحلّى على المائدة الإنكليزية إلى رمز لشبكة معقدة من العلاقات الاستعمارية التي ربطت بين القارات الثلاث أوروبا، أفريقيا، والأميركتين.
شكلت السيطرة على الموارد الحيوية، من الطعام والماء إلى البذور والتربة، محوراً أساسياً في آليات الهيمنة الاستعمارية على مدار العصور.
ألفريد كروسبي، في نظريته المبتكرة حول “الإمبريالية البيئية”، يوضح كيف أن الغزو الأوروبي لم يقتصر على احتلال الأراضي والسيطرة على الحدود السياسية، بل شمل غزواً بيولوجياً شاملاً. البذور الأوروبية، الحيوانات الأليفة، حتى الأعشاب الضارة، كلها أصبحت جزءاً من مشروع استعماري أوسع يهدف لإعادة تشكيل البيئات الطبيعية والثقافية في القارات الجديدة. الماشية الأوروبية التي جُلبت إلى الأميركتين لم تغيّر فقط المشهد الزراعي، بل دمّرت النظم الإيكولوجية المحلية وأنظمة الإنتاج التقليدية للسكان الأصليين. القمح الأوروبي زُرع مكان الذرة الأصلية، والخنازير الأوروبية تكاثرت على حساب الحيوانات المحلية. هذا التدخل البيولوجي العميق خلق أنظمة غذائية جديدة تماماً، لكنها لم تكن محايدة، بل خدمت مصالح المستعمرين وعمّقت التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.
المصدر: العربي الجديد