انتهاكات الاحتلالاقتصاد

تبعات قانونية للمصارف التي تفتح لها حسابات؟…”الاقتصاد في خدمة الإبادة”: “مؤسسة غزة الإنسانية” مثالا

المسار …

الحصار الإنساني الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، والذي تفاقم منذ مطلع شهر آذار/ مارس الماضي، يترافق مع تحرك إسرائيلي أمريكي لمنع الأمم المتحدة من أداء دورها في توزيع المساعدات الشحيحة التي تصل على القطاع، من خلال إنشاء آلية بديلة عبر شركة عرفت باسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، ما أثار الكثير من الجدل المستمر.

ويترافق ذلك مع شروط إسرائيلية تضعها على طاولة مفاوضات وقف إطلاق النار، وتهدف من خلالها على التحكم بآلية توزيع المساعدات إلى القطاع الذي يعاني حرب إبادة جماعية مستمرة منذ أكثر من 21 شهرا.

وجاء التحقيق الذي أجرته صحيفة “فايننشال تايمز”، ليكشف عن أبعاد أخرى لعمل هذه الشركة ترتبط بمشاريع تهجير سكان قطاع غزة، وبما يعرف بمشروع ترامب في القطاع (ريفييرا ترامب).

وكشفت الصحيفة البريطانية، الأحد، عن أن شركة أمريكية تدعى “مجموعة بوسطن للاستشارات”، وقّعت عقدا بملايين الدولارات لتطوير مشروع “مؤسسة غزة الإنسانية”، كما عملت على رسم خطة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة تحت مسمى “إعادة توطين”، وساعدت شركة الأمن الأمريكية التي يتولى متعاقدوها المسلحون إدارة مواقع المؤسسة في غزة.

وأفادت صحيفة “فايننشال تايمز” أن “بوسطن للاستشارات” BGG أنشأت نماذج لتقدير تكلفة “نقل” أجزاء كبيرة من السكان الفلسطينيين إلى خارج الأراضي التي تحتلها إسرائيل.

وأثارت هذه المعلومات ضجة واسعة في المحافل الدولية والأممية، وفي أوساط الجمعيات الإنسانية غير الحكومية التي اتخذت موقفا حازما من “مؤسسة غزة الإنسانية” وطالبت بإعادة آلية توزيع المساعدات إلى الأمم المتحدة ووكالاتها.

وكان آخر المواقف تعليق منظمة “أنقذوا الأطفال” الدولية شراكتها طويلة الأمد مع مجموعة “بوسطن للاستشارات”.

ولم يقف الأمر عند حدود الأمم المتحدة والجمعيات غير الحكومية، بل أطلق مسؤولون في حكومات غربية تحذيرات من خطورة آلية التوزيع التي تعتمدها “مؤسسة غزة الإنسانية”، من بينهم وزير الخارجية البريطاني دافيد لامي الذي قال أمام مجلس العموم البريطاني منتقدا الآلية الجديدة لتوزيع المساعدات واصفًا إياها بأنها “لا تؤدي وظيفتها كما ينبغي”.

وفي كلمة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف الأسبوع الماضي، عرضت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، تقريرها المعنون “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية”، وقالت إن ما تسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” ليست سوى “مصيدة موت” مصممة لقتل أو إجبار سكان يتضورون جوعا على الفرار.

وأثارت الانتقادات الموجهة لـ”مؤسسة غزة الإنسانية” قلق المؤسسات المالية إزاء التعامل معها، وهو ما كشفته وكالة رويترز التي نقلت عن مصادر مطلعة أن بنك “يو بي إس” UBS رفض طلب “مؤسسة غزة الإنسانية” لفتح حساب بنكي في سويسرا. كما امتنع بنك “غولدمان ساك” عن إنشاء حساب لصالح المؤسسة بعد محادثات أولية.

وقالت رويترز إن المؤسسة قد سعَت لفتح حساب فرعها المقترح في جنيف لتيسير التبرعات القادمة من خارج الولايات المتحدة، لكنها تراجعت عن فكرة التوسع في سويسرا في أيار/ مايو الماضي، ونقلت عن مصدر أن إحدى العقبات أثناء المفاوضات كانت افتقار الشفافية حول مصادر تمويل المؤسسة.

لكن رويترز أشارت إلى انه على الرغم من هذه المساعي في سويسرا، فإن المؤسسة تأسست رسمياً في عام 2025 في ولاية ديلاوير الأميركية، وتمتلك حساباً لدى بنك “جيه بي مورغان” .JPMorgan

وفضلا عن الاتهامات الموجهة للمؤسسة بالمساهمة في قتل الغزيين، والتورط في مشاريع لتهجيرهم، وتسييس الملف الإنساني، فإن موضوع سرقة المساعدات الذي تحدثت عنه تقارير داخلية سابقة للأمم المتحدة كُشف عنها، شكل أيضا أحد مظاهر الإشكالية التي تطرحها، لا سيما مع أدلة عن تورط مجموعات مدعومة من الاحتلال (ميليشيا ياسر أبو شباب) في عمليات السرقة.

مسؤول سابق في “الأونروا: “مؤسسة غزة” شريك في حرب الإبادة

ويرى مدير الاتصالات السابق في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” كريس غونيس، في حديث مع “القدس العربي”، أن الغطاء كشف عن أن “مؤسسة غزة الإنسانية” “بانت على حقيقتها”، فهي “فخٌ مميت يرتكب إبادة جماعية، حيث يقوم جيشٌ جَوّعَ سكانًا حتى الموت الآن بذبح الناس كالبهائم بينما يأتون لجمع الطعام من حظائر زراعية”.

ويدعو كريس غونيس “لمنع حدوث مجاعة جماعية، من خلال “المبادرة على الفور لإعادة عملية إيصال المساعدات في غزة إلى الأمم المتحدة، على أن تتولى “الأونروا” الدور القيادي باعتبارها العمود الفقري لهذه العملية”.

ويؤكد: “وحدها “الأونروا” قادرة على أداء هذا الدور، بفضل آلاف الموظفين لديها، وشبكة المرافق المخصصة لتوزيع الغذاء، وتقديم الرعاية الصحية الأولية، ومساعدة الناس في الحصول على مياه نظيفة. لقد كانت الأونروا تقوم بهذا الدور منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، بما في ذلك خلال هذه المرحلة الأخيرة من الإبادة الجماعية.”

وبخصوص التقارير عن سرقة المساعدات، يقول غونيس إنه “من الواضح للجميع أن إسرائيل كانت تدعم الجماعة المتطرفة “أبو شَباب” وتساندها في سرقة المساعدات”.

“شريك في الإبادة”

ويقول إن هناك تواطؤا واضحا بين ما يسميها قوات الإبادة الإسرائيلية (Israel Genocide Force-IGG) و”أبو شَباب”. كل هذا يتم تحت غطاء “مؤسسة غزة الإنسانية”، “التي تُعد شريكة أيضًا في الاحتلال الإبادي الإسرائيلي”.

وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة، وأمينها العام أنطونيو غوتيريش، حذروا مرارا من خطورة آلية المساعدات المدعومة أمريكيا وإسرائيليا، إلا أنها لم تقم بعمل كاف برأي غونيس.

ويقول المسؤول السابق في “الأونروا” : “لقد أدلى الأمين العام للأمم المتحدة بتصريحات شكلية بشأن الدور الأساسي الذي تؤديه “الأونروا”، ولكن عندما يتعلق الأمر بالفعل، يبدو الأمر في كثير من الأحيان وكأن “الأونروا” تُداس تحت العجلات. فعلى سبيل المثال، عندما كانت إسرائيل تطرد “الأونروا” من مقرها الضخم في القدس الشرقية المحتلة، كان ينبغي أن يكون هناك جهد موحد لنقل جميع وكالات الأمم المتحدة إلى تلك المباني، وتحويل مقر “الأونروا” في القدس إلى مركز طوارئ إنساني لغزة. كان هذا الإجراء بديهياً، لكن الأمم المتحدة رضخت للضغوط الإسرائيلية والأمريكية. وهذا مجرد مثال من بين أمثلة كثيرة، كانت فيها قلة القيادة والدعم للأونروا سبباً في أضرار جسيمة للوكالة”.

تورط المال

ويثير غونيس نقطة أخرى، تتعلق بتصريحات لرئيس “مؤسسة غزة الإنسانية” القس الإنجيلي جوني مور أدلى بها الأسبوع الماضي إلى محطة “سي بي إس”.

فمور قال إنه “لا يمكنه التحقق من أن كل كيس دقيق لا ينتهي به المطاف بطريقة ما في مكان غير مقصود”.

ويقول غونيس إن مور، “أقر بأن المؤسسة لا يمكنها ضمان عدم تحويل مساعداتها من قبل “حماس”، و”هذا التصريح يؤكد العديد من الصور المنتشرة على الإنترنت التي تُظهر سرقة مساعدات غذائية من المؤسسة وإعادة توجيهها من قبل مسلحين”.

ويرى أن تصريح مور “يثير القلق من أن المؤسسة والمؤسسات المالية التي تتعاون معها قد تكون في حالة انتهاك لتشريعات مكافحة الإرهاب الأمريكية، المصممة لمنع وصول المساعدات الأمريكية إلى جماعات محظورة.”

كما يتطرق إلى ما ذكرته رويترز عن فتح “مؤسسة غزة الإنسانية” حسابا لدى بنك “جيه بي مورغان”، وهو أيضا “يثير تساؤلات حول مدى التزام البنك بإجراءات العناية الواجبة، وما إذا كان قد انتهك تشريعات مكافحة الإرهاب الأمريكية.”

ووجهت  أسئلة إلى وزارة الخارجية الأمريكية وبنك “جيه بي مورغان” حول هذه المسالة، لكنها لم تتلق ردا حتى وقت نشر هذا التقرير.

نتنياهو و”شركة بوسطن”

وسألنا الاقتصادي والمحامي الأمريكي جايمس إس. هنري عن قانونية عمليات التمويل التي يمكن أن تتورط بها بعض المصارف الامريكية والعالمية، وكذلك عن قانونية وأخلاقية تورط “مجموعة بوسطن للاستشارات” في أنشطة ترتبط بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”.

اقتصادي ومحام أمريكي: مشاركة “بوسطن الاستشارية” مريبة.. ونتنياهو عمل سابقا في المجموعة

ويقول جايمس هنري ، وقد سبق أن شغل منصب كبير الاقتصاديين في “شركة ماكينزي للاستشارات” في نيويورك، وهي شركة مناسفة لـ”شركة بوسطن”، إن “صناعة الاستشارات تخدم في الغالب عملاء خاصين، وشركات كبيرة إلى حد كبير. عادة لا تأخذ مثل هذه المشاريع الخاصة. لكن بنيامين نتنياهو قديم في “مجموعة بوسطن للاستشارات”. كان يعمل هناك على ما أعتقد، يمكنك تأكيد ذلك. لكنه قضى وقتًا طويلًا في الولايات المتحدة، وأعتقد أنه كان شريكًا في مجموعة بوسطن للاستشارات”.

وبالفعل فإن موقع الحكومة الإسرائيلية الإلكتروني يورد في سيرة نتنياهو أنه عمل بين عامَي 1976 و1982، “في القطاع الخاص، واستهل ذلك مع شركة “مجموعة بوسطن الاستشارية” (Boston Consulting Group).

ويقول هنري إنه كلما كُشفت معلومات عن هذا المشروع يصبح أمر مشاركة “شركة بوسطن للاستشارات” أمرا مثيرا للتساؤل من زاوية أخلاقية، فـ”المشروع بدا كأنه مصمم للفشل. كان يدفع الأمم المتحدة للخروج التي كانت منظمة إغاثة فعالة في غزة، تحت ذريعة أن “حماس” كانت تحصل على التمويل أو تستولي على الغذاء وتبيعه”.

وينتقد هنري الادعاءات بأن المشروع مصمم لمنع “حماس” من الحصول على المساعدات، مذكرا بما قال إنه قضية السماح بوصول أموال إلى الحركة في السابق بموافقة من نتنياهو ومعرفة “منظمة تمويل الإرهاب” التابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد”، وهي القضية التي أثارت ضجة كبير ة في إسرائيل في وجه نتنياهو بعد السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023..

ويقول “ما أقصده في هذه الخلفية، هو أن كمية كبيرة من التمويل الذي تدفق إلى “حماس” كانت معروفة للحكومتين الأميركية وللإسرائيلية، وسمحوا لها بالذهاب”.

ويضيف “وأي شخص ألقى نظرة على هذا الوضع، مثل “جيه بي مورغان” أو “مجموعة بوسطن للاستشارات”، كان ليجد المعلومات وهي متاحة. كان بإمكانهم أن يعرفوا أن هذا مريب”، و”هذا يثير لدي احتمالاً واضحاً بأنهم يتحملون مسؤولية قانونية عن المساهمة في تحقيق هذه النتيجة”.

حكومة غزة

وفي مقابل الموقف الأمريكي – الإسرائيلي المتذرع بمنع حركة “حماس” من الاستيلاء على المساعدات، وثقت جهات عديدة عمليات سرقة المساعدات في غزة من قبل عصابات بعضها مرتبط بالاحتلال.

رئيس المكتب الإعلامي الحكومي: تُستخدم أداة ضغط أمني وسياسي

ويقول د. إسماعيل الثوابتة، مدير عام “المكتب الإعلامي الحكومي” في غزة لـ”القدس العربي”، إن الجهات الرسمية في القطاع وثقت “عددًا من الحالات التي تتعلق بسرقة المساعدات الإنسانية، ويجري التعامل معها وفق الأطر القانونية”.

ويؤكد في إجابة على أسئلتنا أنه “لدينا أدلة حول تورط عناصر مشبوهة وعصابات إجرامية يرعاها الاحتلال وقد اعترف أنه يقدم لهذه العصابات الحماية والدعم اللوجستي في إطار هندسة التجويع، وأغلب جرائم سرقة المساعدات تتم في مناطق التوزيع العشوائي فيما يُعرف بالمناطق “العازلة”.

ويضيف “الحكومة، من خلال الجهات الأمنية والرقابية، تعمل على ملاحقة هذه الأطراف ومحاسبتها، وقد تم إحباط عشرات محاولات لتهريب المساعدات وبيعها في السوق السوداء. الجهود مستمرة لضمان ضبط هذه المسألة ووقف أي عبث أو استغلال لمعاناة المواطنين”.

وبخصوص “مؤسسة غزة الإنسانية”، يقول الثوابتة إن “الآليات التي تعتمدها ما تُسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” خطيرة وغير إنسانية، وتفتقر إلى أي معايير للشفافية أو الرقابة. فهي تعمل خارج المنظومة الأممية والإنسانية والإغاثية، وتنفذ أجندات أمنية واستخباراتية مشبوهة”.

فـ”هذه المؤسسة غير الإنسانية تكرّس حالة من الفوضى في ملف الإغاثة، وتُسهم في خلق بيئة مناسبة للابتزاز والتمييز والنهب وتُشجّع الفوضى، فضلاً عن استخدامها المساعدات كأداة ضغط سياسي وأمني. الأخطر من ذلك أنها تُعيد تعريف العمل الإنساني بما يتماشى مع سياسات الاحتلال الإجرامية، وتُسهم في تقويض الدور الأممي الإغاثي المستقل”.

ويطالب الثوابتة “بإخراج ملف المساعدات من دائرة العبث السياسي والأمني، ووقف تدخل الاحتلال والجهات المشبوهة في تفاصيله”.

ويقول : “يجب أن تكون المساعدات خاضعة بشكل كامل لمراقبة وتوزيع المؤسسات الأممية المعتمدة دولياً، وعلى رأسها وكالة “الأونروا”، لضمان وصولها العادل والآمن للمواطنين. كما نرفض أي محاولات لإنشاء قنوات بديلة مشبوهة أو توزيع المساعدات عبر “مناطق عازلة” خارجة عن القانون. ونؤكد أن الحل الوحيد هو العودة إلى آليات أممية شفافة وإنسانية تضمن الكرامة والعدالة في تقديم الإغاثة”.