المسار : أثارت زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قبل أيام، إلى إيطاليا، حليفة بلاده الإستراتيجية وشريكتها الاقتصادية الأولى عالميًا، انزعاجًا في الأوساط الفرنسية، لا سيما اليمينية المتطرفة.
وخلال زيارته، التي تُعد الثانية له إلى إيطاليا منذ توليه الحكم نهاية 2019، عُقدت القمة الحكومية الخامسة رفيعة المستوى بين تبون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، بحضور أعضاء من حكومتي البلدين.
كما استُقبل الرئيس الجزائري من قبل نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، وزار أيضًا دولة الفاتيكان حيث التقى البابا ليو الرابع عشر.
وأسفرت الزيارة عن توقيع أكثر من 40 اتفاقية ومذكرة تعاون بين الجزائر وإيطاليا، 14 منها مؤسسية، والباقي بين شركات عمومية وخاصة في مختلف القطاعات.
شملت الاتفاقيات قطاعات الطاقة، والدفاع، والأمن، وصناعة التعدين، والسيارات، والإنتاج الصيدلاني، والتكنولوجيات، والرقمنة، والتعليم العالي، والزراعة، والصيد البحري، وتربية الأحياء المائية، والثقافة، وغيرها.
كما نُظم منتدى أعمال رفيع المستوى خلال الزيارة، حضره أكثر من 500 من رؤساء الشركات الحكومية والخاصة، وخبراء، ورجال أعمال من البلدين.
مليار يورو حجم المبادلات
تشير بيانات رسمية صادرة عن وكالة الترويج وتدويل الشركات الإيطالية بالخارج (التابعة لوزارة الخارجية)، إلى أن المبادلات التجارية مع الجزائر بلغت نحو 15 مليار يورو في عام 2024.
ومن هذا المجموع، صدّرت الجزائر ما يقارب 12 مليار يورو إلى إيطاليا، معظمها غاز طبيعي ونفط ومشتقات بترولية ومواد خام.
في المقابل، استوردت الجزائر من إيطاليا تجهيزات صناعية في قطاعات مختلفة، إلى جانب عتاد زراعي وأدوية، بقيمة تقارب 3 مليارات يورو.
وفي الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، بلغت المبادلات التجارية بين البلدين 4.49 مليارات يورو، بزيادة 6.7% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
تُعدّ إيطاليا الشريك الاقتصادي الأول للجزائر عالميًا، كما أنها الوجهة الأولى لصادراتها من الغاز والنفط. ومنذ 2022، أصبحت روما أكبر مستورد للغاز الجزائري في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تغطي أكثر من ثلث احتياجاتها السنوية.
كما عززت إيطاليا شراكتها مع الجزائر في قطاعات أخرى مثل السيارات، من خلال مصنع “فيات” بولاية وهران، ومشروع ضخم لمجموعة “BF” الإيطالية لإنتاج القمح والبقوليات في الصحراء الجزائرية.
وتدرس الحكومتان توسيع استثمارات مجموعة “BF” (بونيفيكي فيراريزي) لتشمل الحليب، واللحوم الحمراء، والأعلاف، في ولاية تيميمون جنوب غربي الجزائر.
يُقدّر الاستثمار الأولي للمشروع بـ420 مليون يورو، تموّل منه المجموعة الإيطالية 49%، بينما يتكفّل الصندوق الوطني للاستثمار (الصندوق السيادي الجزائري) بالنسبة المتبقية.
انزعاج فرنسي ملحوظ
أثار توقيع الاتفاقيات الجزائرية الإيطالية جدلًا في الإعلام الفرنسي، حيث اعتُبرت “نجاحًا دبلوماسيًا جزائريًا” مقابل “عجز فرنسي” في حماية مصالح فرنسا بالمغرب العربي.
قناة CNEWS اليمينية المتطرفة عرضت مشاهد من الزيارة، ظهر فيها تبون إلى جانب ميلوني وسط مراسم رسمية.
وعلّق الصحافي الفرنسي لويس دي راجونيل بأن الأمر “مهين للغاية أن تكون فرنسيًا”، معتبرًا أن ميلوني بعثت برسالة واضحة بأنها لا تكترث لموقف باريس.
واعتبر أن ميلوني “تتصرف بدافع التفويض الشعبي”، وأنها تدافع عن مصالح بلادها العليا، في وقت تنشغل فيه فرنسا بـ”التعصب الأخلاقي”، في إشارة إلى موقف ماكرون الداعم للمغرب في قضية الصحراء.
ماكرون تحت النقد
بيرنار كوهين حداد، رئيس مركز التفكير “مارسيل إيتيان”، عبّر عن صدمته من مستوى الشراكة بين الجزائر وإيطاليا، محمّلًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مسؤولية ذلك بسبب موقفه من إقليم الصحراء.
وقال إن “ما حدث بعد زيارة تبون هو صفعة على وجه الدبلوماسية الفرنسية”، محذرًا من أن تتحول إيطاليا إلى بوابة الجزائر نحو الاتحاد الأوروبي بفضل “ذكائها الدبلوماسي”.
وأشار إلى أن خسائر فرنسا في الجزائر لم تكن ضرورية، بل ناتجة عن “حسابات سياسية خاطئة”.
وجاءت زيارة تبون بعد إعلان المفوضية الأوروبية اللجوء إلى التحكيم بخصوص اتفاق الشراكة مع الجزائر، وهي خطوة قيل إن فرنسا كانت وراءها.
لكن توقيع اتفاقيات إستراتيجية بين الجزائر وإيطاليا فُسّر في فرنسا على أنه ضربة لمحاولة باريس جر الاتحاد الأوروبي إلى موقف موحّد ضد الجزائر.
علاقات جزائرية فرنسية متأزمة
منذ تولي تبون الرئاسة عام 2019، تراجع الوجود الاقتصادي الفرنسي تدريجيًا في الجزائر، مع خروج شركات مثل “راتيبي باريس” و”سيغز”، فضلًا عن تقليص الجزائر وارداتها من القمح الفرنسي والأبقار ومنتجات الألبان.
وتفاقمت الأزمة الدبلوماسية بين البلدين بعد دعم ماكرون لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، واعتقال الكاتب بوعلام صنصال الحامل للجنسية الفرنسية، وإدانته بالسجن خمس سنوات.
وسحبت الجزائر سفيرها من باريس في 2024، وخفّضت تمثيلها إلى قائم بالأعمال، وردت فرنسا بالمثل.
فشل في العزل الأوروبي
جمال قسوم، محلل سياسي مقيم بفرنسا، قال إن الانزعاج الفرنسي يعكس “نزعة استعمارية متبقية”، مضيفًا أن فرنسا كانت تراهن على عزل الجزائر دبلوماسيًا عبر الاتحاد الأوروبي، لكن زيارة تبون لروما قوّضت هذا المسعى.
وشدد على أن باريس لا تملك نفوذًا حقيقيًا على الجزائر سياسيًا أو اقتصاديًا.
رهان على الواقعية لا المجاملات
مجيد توهامي، ناشط في الجالية الجزائرية بفرنسا ورئيس شركة خاصة، قال إن العلاقة مع إيطاليا تقوم على “الواقعية والمصالح”، مقابل “تردد فرنسي وانغلاق إستراتيجي”.
وأشار إلى أن الغاز الجزائري تحوّل إلى أداة سيادية، تعزز بها الجزائر مكانتها الدولية، مضيفًا أن سوناطراك لم تعد مجرد مورد لإيطاليا بل شريك إستراتيجي لشركة “إيني” الإيطالية.
واعتبر توهامي أن الانزعاج الفرنسي ناتج عن “فراغ إستراتيجي”، وليس عن تحركات الجزائر أو إيطاليا.
وختم بالقول إن “الجزائر اليوم تدير سياستها وفق أولوياتها السيادية، لا أولويات الآخرين”.
(الأناضول)