المسار : لا يزال الدم أحمراً وكأنه يقطر من الجسد، بالرغم من أن الأجساد قد ووريت الثرى. رائحة الدم لا تزال حاضرة تغلق باب مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة.
الفراش المحترق والخيمة والقليل من الطعام الذي كانوا يريدون تحضيره لا يزال باقياً، بعد هذا الاستهداف المباشر لخيمة الصحافيين، غابت ستة أصوات للحقيقة في مدينة غزة، ولم تعد كاميرا “الجزيرة” في المدينة منصوبة ترسل رسائلها إلى العالم عند رأس الساعة من أمام أكبر مستشفى تعرض لانتهاكات إسرائيلية في قطاع غزة.
محمد الخالدي، وأنس الشريف، ومحمد قريقع، ومحمد نوفل، ومؤمن عليوة، وإبراهيم ظاهر، وجميع الراحلين.. كان لكل منهم دور مختلف في إيصال الرسالة الصحافية إلى العالم. بهؤلاء الستة يرتفع عدد الشهداء الصحافيين إلى 238 شهيداً صحافياً قتلوا خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
خلال تفقد الموقع من الصحفين لموقع الاستهداف، خرج من المستشفى أحمد الحرازين متكئاً على كتف صديقه، لا يستطيع أن ينظر إلى من يقف أمامه. ومع ذلك خرج لتفقد الخيمة حيث كان يعمل برفقة زملائه، فهو يعمل مسؤولاً عن الدعم اللوجستي، وفي لحظة الاستهداف كان يقف في الجهة المقابلة لخيمة فريق الجزيرة المستهدفة، حيث خرج لجلب بعض الأدوات ليعدوا طعام العشاء البسيط الذي يقتاتون عليه في ليلتهم لمواصلة العمل.
أحمد الحزارين: “خرجت لجلب الطحينة لنعد العشاء، ولم أبتعد عن الخيمة سوى عشرة أمتار، وحصل الاستهداف”
يقول الحرازين في تصريحات صحفيه : “خرجت لجلب الطحينة لنعد العشاء، ولم أبتعد عن الخيمة سوى عشرة أمتار، وقد حدث الاستهداف وأنا مقابل الخيمة، أصبت في ظهري ويدي ورجلي. ومع ذلك ركضت مسرعاً لأطمئن على زملائي، ولكن ما أن وصلت وجدتهم شهداء ويحترقون. من هول الصدمة سقطت على الأرض فاقداً للوعي، ولم أستفق إلا قبل قليل، وأشعر بأن عقلي قد توقف”.
ويضيف: “أجد صعوبة في الحديث، ولكن ما حدث هو استهداف مباشر لخيمتنا التي كان بها أنس الشريف ومؤمن عليوة وإبراهيم ظاهر، وكان محمد قريقع يقف أمام الخيمة يستعد لموعد رسالته الصحافية في النشرة المسائية، فهو كان قد بدأ دوامه عند الخامسة عصراً ليستغل أنس الشريف ذلك الوقت ويستريح من جهد العمل. وأنا أعتقد أنه تم استهداف الخيمة لأن أنس ومحمد قريقع كانا يعملان على فضح جرائم الاحتلال بقطاع غزة”.
وذكر أن محمد الخالدي كان يستريح في الخيمة الخاصة بنقابة الصحافيين في الجهة المقابلة لخيمة الجزيرة؛ وكان محمد الخالدي صحافياً نازحاً من شمالي قطاع غزة يعمل طوال يومه في الميدان، وفي المساء يستريح في خيمة الصحافيين بالقرب من مجمع الشفاء الطبي. كان يعاني ويلات النزوح والتجويع، ويخبر كل زملائه وأصدقائه أنه يبحث عن بيت ليعيش فيه فترة نزوحه برفقة عائلته، لكنه قبل أن تصل خطواته إلى بيت يستقر فيه، وصل إلى مستقره الأخير.
في تلك اللحظات..
أما محمد صبح (35 عاماً) الذي يعمل مراسلاً صحافياً، فقال: “ما حدث أمس (الأحد) هو استهداف مباشر لخيمة الصحافيين وتحديداً خيمة الجزيرة. كنت في تلك اللحظات أقف أنا ومحمد قريقع أمام الخيمة ونتحدث خلال انتظارنا لتقديم الرسالة المسائية الخاصة به في قناته والخاصة بي في قناتي، وتفاجأت بأني لا أشعر برجلي، ومن ثم سمعت صوت الانفجار وامتلأ المكان بمادة بيضاء”.
محمد صبح: حاولت السير، لم أتمكن وسقطت أرضاً. جاء الشباب يحملون شهيداً، سألتهم: من هذا؟ هل هو محمد قريقع؟ كان هو
وأضاف في تصريح صحفي : “حاولت السير، ولكن لم أتمكن وسقطت أرضاً. هذا كله حدث في الدقيقة الأولى. وأنا ملقى على الأرض، جاء الشباب يحملون شهيداً، سألتهم: من هذا؟ هل هو محمد قريقع؟ وبالفعل كان هو. جاءني مسعفون يحاولون إنقاذي، أخبرتهم بأني لست مصاباً من شدة هول اللحظة، فكانت النيران قد اشتعلت بزميلي الذي كان يحدثني عن آماله في الحياة”.
وأردف: “لاحقاً جاء المسعفون بأنس الشريف، وكان قد احترق. وبعد ذلك تبين أني مصاب إصابة بليغة في ساقي وفي ظهري، فقد استقرت شظية من الصاروخ في ظهري بين الفقرتين الرابعة والخامسة، وساقي إصابتها صعبة. وتم نقلي من الشفاء إلى مستشفى آخر لتلقي العلاج الذي أنا بحاجة إليه، ولا أعلم إلى أي درجة مستوى خطورة الشظية التي تستقر في ظهري”.
وأردف بأنه يعاني صدمة بعد أن فقد زملاءه، وتحديداً محمد قريقع الذي كان يحدثه عن آماله في تحسين حياة ابنته، وكان مستبشراً خيراً بدخول المساعدات الغذائية ويأمل أن يُسمح بدخول غاز الطهي إلى القطاع لتحسين حياة أسرته، وتحديداً ليفرح قلب ابنته.
وذكر صبح أن أنس الشريف كان دائماً يتوقع أن يتم اغتياله نتيجة التحريض الواسع عليه من قبل الاحتلال، ومع ذلك كان مصراً على مواصلة العمل الصحافي، وعلى تقديم محتوى يفضح جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة.
رسالة أنس الشريف
هذا الأمر دفعه لكتابة وصيته ونشرها على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، وقد ورد فيها:
“يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهد وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقة وحارات مخيم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة “المجدل”، لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ.
عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا، ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكناً، ولم يوقفوا المذبحة التي يتعرض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف. أوصيكم بفلسطين، درة تاج المسلمين، ونبض قلب كل حر في هذا العالم، أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العمر ليحلموا ويعيشوا في أمان وسلام”.
وذكر في وصيته أيضاً: “فقد سُحقت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزقت وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران. أوصيكم ألا تُسكتكم القيود، ولا تُقعدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمس الكرامة والحرية على بلادنا السليبة”.