انقلابان متوازيان: كيف وصلت العقلية الحربية الإسرائيلية إلى هذا المستوى الإجرامي؟

Loai Loai
8 Min Read

المسار : بعد قرابة السنتين للحرب على غزّة، فإنّ نهايتها ليست قريبة فحسب، وإنما تخطط إسرائيل لتوسيعها واحتلال قطاع غزة كله. و”الاحتلال طوال عشرات السنين هو أرضية خصبة لأيديولوجية يهودية عنصرية، تحولت إلى حاضنة للاستبداد”…

على مدار العقدين الماضيين، ومنذ تنفيذ خطة الانفصال عن غزّة التي بادر إليها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون، كان الخطاب الإسرائيلي يقول إنّ لا أحد يريد غزّة؛ لا إسرائيل ولا مصر، ولا حتى السلطة الفلسطينية في رام الله، لأنّ القطاع منطقة صغيرة المساحة، مكتظّة بالسكان، فقيرة وبلا موارد.

لكنّ الهجوم الذي شنّته حركة حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اعتُبر في نظر حكومة بنيامين نتنياهو “فرصة ذهبية” لإخراج أفكار أحزابها اليمينية المتطرّفة إلى حيّز التنفيذ.

حرب الإبادة التي تواصلها إسرائيل ضدّ قطاع غزّة لم تكن متوقّعة قبل 7 تشرين الأول؛ كانت التوقّعات تشير إلى “جولة قتالية أخرى”، لكن ليس إلى حرب إبادة تقتل فيها إسرائيل أكثر من 61 ألف فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين، لا سيّما الأطفال، وتُصيب أكثر من 150 ألفًا، وتهدم القطاع بالكامل وتدمّر بناه التحتية، إلى درجة تحوّله إلى مكان غير صالح للعيش، وتُطلق فيه الأوبئة، وتنشر الأمراض.

الآن، تريد إسرائيل غزّة، لكنّها تريدها خالية من سكّانها الـ2.2 مليون نسمة. لهذا، تخطّط لتطهير عرقي يُمحي كلّ أثر للفلسطينيين فيها؛ لا بشر ولا حجر. وترفض إسرائيل وقف الحرب، والرأي السائد فيها هو أنّ حكومة نتنياهو تخلّت عن أسراها الباقين في القطاع.

قال نتنياهو هذا الأسبوع إنّه لا يريد صفقة تبادل جزئية، بل شاملة تشمل جميع الأسرى، أحياءً وأمواتًا، ووفق الشروط الإسرائيلية. وهذه الشروط تتراوح بين القضاء على حماس، وإلقاء مقاتليها السلاح، ونفيهم إلى الخارج؛ وهي شروط تُعدّ تعجيزية، لن توافق عليها حماس.

لكن الحرب ليست ضدّ حماس فقط، بحسب تصريحات نتنياهو ووزرائه بشأن مخطّط “الهجرة الطوعية” لسكان غزّة، أي الترانسفير. هذا هو الهدف الحقيقي: ترانسفير شامل. لذا، صعّدت إسرائيل حربها بإيعاز لجيشها بوضع خطّة لاحتلال القطاع كلّه، بدءًا بمدينة غزّة، وتهجير سكّانها مجدّدًا إلى الجنوب.

بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، قدّم رئيس أركان الجيش، إيال زمير، خطتين لاحتلال مدينة غزّة، لكنّ الكابينيت رفضهما وطلب خطّة أكثر عدوانية.

أوضح زمير، حسب تسريبات، أنّ خلافه مع وزير الأمن يسرائيل كاتس يعود إلى معارضته هذه الخطة، لكنّ معارضته ليست أيديولوجية، بل تستند إلى تقديرات ميدانية تفيد بأنّ الجيش سيخسر عددًا كبيرًا من الجنود، وأنّ حماس ستنتقل إلى أسلوب حرب العصابات، مستفيدة من الإرهاق الذي يعانيه الجيش الإسرائيلي بعد حرب طويلة، ومن نقص الآليات اللازمة لهدم الأبراج السكنية في مدينة غزّة.

مع ذلك، أعلن زمير المصادقة على “الفكرة المركزية” لخطة احتلال المدينة، وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أنّ الجيش يستعد لإرسال نحو 100 ألف أمر استدعاء لجنود الاحتياط، إضافة إلى عشرات آلاف المجنّدين حاليًا.

انقلابان متوازيان

يعود سبب استمرار إسرائيل في ارتكاب الجرائم وتوسيع حربها، رغم تدهور صورتها الدولية، إلى الدعم الأميركي. ولكن كيف بلغت العقلية الحربية الإسرائيلية هذه الدرجة من الإجرام؟

يرى الحقوقي ميخائيل سفاراد، في كتابه “الاحتلال من الداخل” الصادر مؤخرا، أنّ “السيطرة الإسرائيلية المعادية للديمقراطية على ملايين الفلسطينيين طوال عشرات السنين هي أرضية خصبة لأيديولوجيا يهودية عنصرية تحوّلت إلى حاضنة للاستبداد”.

لكن تأييد جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي لجرائم الحرب نجم عن أن “المحكمة العليا لم تتعامل أبدا مع الفلسطينيين على أنهم مجموعة واحدة، وإنما كأفراد فقط، ولذلك ليس لهم تاريخ وإنما سيرة ذاتية فقط. والإعلام الإسرائيلي أكثر بخلا تجاه الفلسطينيين، وبحسبه لا يوجد للفلسطينيين تاريخ ولا سيرة ذاتية. وهم ليسوا جماعة واحدة، وليس لديهم قصتهم الشخصية. ووجودهم مؤقت وعابر”.

وأضاف سفاراد أن “الإسرائيليين لا يعرفون ما يحدث في الأراضي المحتلة. ومعظمهم ينقسمون بين أولئك الذين لا يريدون أن يعرفوا وأولئك الذين لا يهتمون بما يحدث. والأقلية المعنية بأن تسمع، تتكاسل في التوجه إلى مصادر لا تفرض رقابة على نفسها، وتكتفي بما تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية التقليدية”.

ومنذ بداية الحرب على غزة حرضت المؤسسة السياسية والإعلامية في إسرائيل على طرد جماعي للفلسطينيين واستهداف المدنيين والإبادة الجماعية. “ورغم أن تصريحات كهذه تعالت في إسرائيل في الماضي، إلا أنها لم تكن أبدا طبيعية، لكنها أصبحت تصريحات شرعية ويومية بعد 7 أكتوبر. ونفذ وزراء وأعضاء كنيست وصحافيون وفنانون ومؤثرون في الإنترنت، نزع إنسانية مطلق عن ملايين الغزيين ودعوا، بدون أي تردد، إلى ’محو’ و’قتل’ و’إبادة’ و’إلقاء قنبلة ذرية’ وتنفيذ ’نكبة ثانية’. واكتفى المشفقون بالدعوة إلى ’الطرد’”.

ووفقا لسفاراد، فإنه قبل الحرب على غزة نفذت حكومة نتنياهو “الانقلاب القضائي”، أي خطة إضعاف جهاز القضاء الإسرائيلي، وكان القضية الأبرز في إسرائيل، إلا أن حكومة نتنياهو نفذت انقلابا ثانيا، وهو “تغيير جذري للبنية النظامية ومنظومة الصلاحيات الإدارية في الضفة الغربية، الذي يعني ضما قانونيا كاملا”.

وأضاف أن “كلا الانقلابين حدثا في موازاة بعضهما. وهدف كلاهما إلى إجراء تغيير شامل لنظام الحكم الإسرائيلي. وجميع الإسرائيليين علموا بالانقلاب الأول، والاحتجاجات ضده أخفت الانقلاب الثاني بشكل كبير”.

إلا أن “تفاصيل الانقلاب الثاني تم الإعلان عنه صراحة في الاتفاقية الائتلافية” لدى تشكيل حكومة نتنياهو الحالية. “وهو الابن المدلل لمندوبي المستوطنين ومؤيديهم في الحكومة، وبغياب نضال عنيد ضده من جانب المحتجين ضد الانقلاب القضائي، يتم تنفيذ الانقلاب الثاني بسرعة هائلة”.

كلا الانقلابين خرجا إلى حيز التنفيذ، في بداية العام 2010، عندما منحت صحيفة “معاريف” والصحافي بن كسبيت منبرا لحركات يمينية وفي مقدمتها حركة “إم تيرتسو”، وفقا لسفاراد. ونشرت الصحيفة تقريرا لأحد مؤسسي “إم تيرتسو”، رونين شوفال، حول تقرير اللجنة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وترأسها القاضي الجنوب أفريقي، ريتشارد غولدستون، من أجل التحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في العدوان على غزة، في نهاية العام 2008 وبداية 2009. واتهمت اللجنة فصائل فلسطينية أيضا بارتكاب جرائم حرب.

ووجدت “إم تيرتسو” أن جزءا كبيرا من تقرير لجنة غولدستون استند إلى تقارير أصدرتها منظمات حقوق إنسان إسرائيلية. “وكانت هذه الفرصة التي انتظرها ناشطو إم تيرتسو. وتقرير كسبيت شكّل طلقة البداية في حملة تحريض ذات مؤشرات لمعاداة السامية ضد المنظمات الحقوقية الإسرائيلية، ووصفوا رؤساءها بأنهم عملاء للعدو ومتعاونين مع الإرهاب وخائنين”.

وأخرجت حكومة نتنياهو في حينه السياسة التي وضعتها “إم تيرتسو” وحركات يمينية أخرى، ودُعي مندوبو هذه الحركات إلى إلقاء محاضرات وإلى مؤتمرات إعلامية بادرت إليها الحكومة، ودفعت أحزاب الائتلاف قوانين أعدتها الحركات اليمينية.

وأشار سفاراد إلى أنه “بالرغم من هذه الحركات تنقسم إلى عدة أنواع، إلا أن التيار المركزي والأقوى بينها هو ذلك الذي اهتمامه الوحيد تقريبا هو خنق أصوات معارضي سياسة الحكومة في مجال الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وقسم من رجال الحكم الذين صعدوا إلى هذه العربة كانوا من بين أعضاء هذه الحركات، وهم سياسيون يحملون أفكارا معادية للديمقراطية ويدفعون أيديولوجية التفوق اليهودي بين البحر والنهر”.

كتب بلال ضاهر

المصدر … عرب٤٨

Loading

Share This Article