بقلم: يولي نوفيك
السؤال الذي بدأ يلح علينا هو هل يمكن أن يكون هذا حقا؟ في الوقت الذي فيه عدد كبير في العالم يعرفون الإجابة، هنا ما زالوا يجدون صعوبة في الإجابة. ربما لانهم يدركون ان الحقيقة تهدد أسس ما اعتقدنا اننا عليه وما اردنا ان نكون عليه، وستلزمنا أيضا بالاعتراف بامور صعبة جدا بخصوص المستقبل. ولكن ثمن عدم الرؤية اعلى بكثير من ثمن الاعتراف بالحقيقة.
مفهوم الإبادة الجماعية يصف حدث يصعب استيعابه. بالنسبة للاسرائيليين أبناء جيلنا فان هذا كابوس بعيد، شيء ما من مكان آخر وزمن آخر، ظاهرة تحدث على كوكب آخر. كل من تربى في ظل المحرقة سال نفسه على الأقل مرة واحدة في حياته: كيف واصل أناس عاديون حياتهم وسمحوا لذلك بان يحدث؟ في تطور مخيف للتاريخ اليوم نحن، الناس الذين يعيشون هنا، أولئك الذين يجب عليهم الإجابة على هذا السؤال.
منذ سنتين تقريبا ونحن نسمع ممثلو الجمهور عندنا وقيادات كبيرة في الجيش يدعون الى التجويع والتصفية وتسوية وتدمير غزة والانتقام. لقد اعلنوا من البداية بان هذا ما ينوون فعله، وبعد ذلك ارسلوا وقادوا الجيش الإسرائيلي كي يفعل ذلك بالضبط. هذا في القانون هو تعريف الإبادة الجماعية: هجوم منسق ومتعمد ضد اشخاص ينتمون لمجموعة معينة، ليس بسبب طبيعتهم أو بسبب ما فعلوه كاشخاص، بل من خلال نية تدمير مجموعتهم. ولكن نحن لم ننجح في سماع ما قيل بصراحة. لقد روينا لانفسنا قصة تمكن النفس من تحمل الفظائع. من اجل ان لا يتعين علينا تحمل المسؤولية وابعاد التهمة والالم. لقد تحولنا لنصبح نفس الأشخاص العاديين الذين يواصلون حياتهم ويسمحون لـ “هذا” بأن يحدث.
أنا أحاول ان أتذكر متى كانت اللحظة الأولى التي شعرت فيها بأن هناك شيء ما في الواقع قد تغير، وأننا نعيش في عالم آخر. واعتقد ان هذا كان بعد شهرين على ما كنت اسميه “حرب”. ثلاثة عاملين في “بتسيلم” وأبناء عائلاتهم كانوا في حينه داخل قطاع غزة، وهم اشخاص يعملون في هذه المنظمة منذ سنوات، شركاء حقيقيين، يدافعون عن حقوق الانسان، من الدرجة الأولى، وهم تحدثوا عن أقارب لهم دفنوا تحت الأنقاض وعن عدم القدرة المطلقة للدفاع عن أولادهم وعن الخوف الذي يشل.
من هناك بدأت بالنسبة لهم سلسلة احداث ربما سيتم الحديث عنها في وقت ما وربما لا، لان هذه قصة عادية – مجرد قصة، ثلاثة اشخاص من بين الملايين المحظوظين الذين نجوا من الجحيم. ولكن هذا بالتحديد المحاولات غير المعقولة لإنقاذ الأبرياء من الموت مقابل فدية مالية عن كل رأس (كانت حياة الفلسطيني تساوي 20 ألف شيكل في تلك الأيام، وحياة الطفل اقل قليلا)، هي التي جعلتني ادرك ان القوانين قد تغيرت.
هذه كانت المرة الأولى. ومنذ ذلك الحين هذا الشعور يصيبني مرة تلو الأخرى – ذكريات من عوالم أخرى، لم اكن موجود فيها ولكني سمعت عنها. قصص من أماكن محيت فيها الإنسانية، وفيها بقي اشخاص مهملين ومكشوفين. خطوط حمراء أخرى يمنع اجتيازها. المزيد من اللحظات التي تحول فيها غير المعقول الى واقع. كل شيء لم نعتقد انه سيحدث: قتل عشرات الالاف، تهجير الجموع بالاكراه، وبعد ذلك مرة تلو الأخرى مدن كاملة تحولت الى انقاض، مباني انهارت فوق رؤوس سكانها، تجويع، تحطيم الاحلام المستقبلية ومحو شبه مطلق للامل. والأطفال. كم من الأطفال.
الإبادة الجماعية لا يمكن ان تحدث بدون جمهور واسع يشارك فيها، يؤيدها أو يغض النظر عنها. هذا جزء من المأساة – تقريبا لا يوجد أي شعب نفذ إبادة جماعية لم يفهم في الوقت الحقيقي معنى افعاله. هذا دائما اعتبر قصة للدفاع عن النفس، عدم وجود خيار، قصة عن شيء جرته الضحايا لنفسها.
القصة السائدة في إسرائيل هي ان كل شيء بدأ في 7 أكتوبر، بذلك الهجوم الفظيع الذي بعده كل شيء يحدث في غزة هو كما يبدو ضروري ومبرر من اجل الدفاع عن إسرائيل. محظور، ولا يمكن، التقليل من هول هجوم حماس في غلاف غزة في ذلك اليوم. كان ذلك هجوم اجرامي استهدف في معظمه المدنيين وتضمن عدد لا يحصى من الجرائم الخطيرة التي لا يمكن أن يتحملها العقل. مجتمع كامل أصيب بصدمة حقيرة ومركزة، التي اثارت دفعة واحدة الشعور العميق بالتهديد الوجودي.
لكن رغم ان 7 أكتوبر كان قوة محركة كبيرة إلا أن الامر احتاج شروط سابقة أخرى من اجل السماح بحدوث الإبادة الجماعية؛ من اجل التحول الى مجتمع قادر على محو إنسانية البشر بصورة تمكن من فقدان القدرة على التعاطف – والقول لانفسنا بان كل طفل هو حماس، وان كل عائلة هي خلية إرهابية. من اجل التحول الى مجتمع يرتكب الإبادة الجماعية كان مطلوب عشرات السنين من العيش تحت نظام الابرتهايد والاحتلال، التي فيها وضعت وحُصنت الأسس النظامية والنفسية للتفوق والقمع والانفصال والخوف.
خلال سنوات نحن عشنا بصورة منفصلة – الإسرائيليون والفلسطينيون – لانهم علمونا الاعتقاد بان هذه هي الطريقة الوحيدة للعيش هنا. في العقود الأخيرة تشكلت هذه النقطة النهائية للفصل والابعاد على شاكلة الحصار الشامل لقطاع غزة. سكان غزة، الناس الذين يعيشون في غزة، تم اهمالهم في وعي الإسرائيليين. هم الناس الذين كان يمكن قصفهم مرة كل بضع سنوات بدون تمييز وقتلهم بالمئات والالاف بدون محاسبة. عرفنا ان ملايين الأشخاص في غزة يعيشون في ظل الحصار، وعرفنا عن حماس، وعرفنا من يمولها. حتى اننا رأينا صور من داخل الانفاق. بأثر رجعي عرفنا كل شيء. فقط شيء واحد لم ناخذه في الحسبان وهو ان ينجحوا في اختراق الجدار والوصول الينا.
7 أكتوبر لم يكن فقط فشل للجيش، الذي لم ينجح في حماية المواطنين الإسرائيليين. 7 أكتوبر كان قبل أي شيء آخر فشل اجتماعي وفكري لكل من فضل الاعتقاد بانه يمكن الإبقاء على العنف والقمع في احد جانبي الجدار ومواصلة العيش بهدوء نسبي في الجانب الآخر. هذا التمزق حدث عندما حكمت إسرائيل الحكومة اليمينية الأكثر تطرفا في تاريخها، وكان شعبها يعتبر تدمير غزة تحقيقا لرؤية قديمة. هكذا في تشرين الأول 2023 تبددت كل احلامنا.
من اجل الوقوف امام الإبادة الجماعية، والنضال ضدها، يجب علينا فهمها. التقرير الذي قمنا بنشره في “بتسيلم” عن الإبادة الجماعية خاصتنا يوجد فيه قسمان. الأول يصف كيف يتم تنفيذ الإبادة الجماعية باندماج أساليب القتل الجماعي، تدمير ظروف الحياة، التفكك الاجتماعي والتجويع، التي يتم تاجيجها بالتحريض الهستيري على الإبادة الجماعية في الرأي العام في إسرائيل. الثاني يتناول كيفية تطور الظروف التي مكنت النظام في إسرائيل من ان يصبح نظام إبادة جماعية.
هذا التحليل قام به فلسطينيون وإسرائيليون يهود معا. وهو اقتضى منا رؤية الواقع بشكل مشترك. وفي هذا الواقع المشترك يوجد تاريخ، توجد صدمة قومية لليهود، ويوجد أيضا 7 أكتوبر. كل هذه الحقائق لا تقف في تناقض مع حقائق أخرى يصعب استيعابها، لكن لا يوجد خيار. حقيقة ان الفلسطينيين كمجموعة كانوا دائما اتباع دونيين للنظام الإسرائيلي. بعضهم اعتبروا مواطنين وحصلوا على درجة اعلى بقليل من الحقوق مقارنة مع الآخرين، وبعضهم حصلوا على حقوق اقل، وبعضهم بقوا مهملين تماما ويواجهون العنف غير المتوقف. محظور علينا مواصلة النظر الى الواقع من خلال الرواية الكاذبة التي اوصلتنا الى هنا، رواية الفصل، الحرب الخالدة، وان الشعب سيسكن وحيدا.
الإبادة الجماعية بكونها اعتداء على الإنسانية نفسها، تلزمنا بالنظر الى الواقع من نقطة رؤية إنسانية، والنضال معا على معنى ماذا يعني ان تكون انسان. والاعتراف بان هذه هي قصتنا، قصة أصحاب هذا المكان. قصة طويلة، متعرجة ومعقدة، مؤلمة ودموية، التي وصلت الآن الى الذروة، الى هاوية لا يمكننا تخيل الوصول اليها، ومن غير الواضح متى سنصل الى القعر.
نحن أيضا، رجال ونساء “بتسيلم”، نشطاء حقوق الانسان الذين يعيشون ويتعلمون وينشرون عن العنف منذ سنوات الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، لم نصدق انه ستكون لحظة سننشغل فيها بجريمة الإبادة الجماعية. خلال اشهر من التحقيق العميق الذي في اطاره قلبنا في كل الأمور، شهدنا على جسدنا الطريقة التي فيها يرفض العقل الحقائق، مثل السم الذي يرغب الجسم في لفظه من داخله. ولكن الان نحن نعرف ان هذا السم اصبح موجود هنا، وهو حقيقي ويغرق الناس الذين يعيشون هنا، إسرائيليين وفلسطينيين، في خوف وضياع غير معقولين.
نظام الحكم في إسرائيل ينفذ إبادة جماعية. وفي اللحظة التي يتسرب فيها هذا الاعتراف نحن اصبحنا نعرف ما هي المرحلة القادمة، حيث انه طوال حياتنا فكرنا بهذا الامر، في كل مرة سالنا فيها انفسنا: “ماذا كنت سافعل، هناك، في الكوكب الاخر”. هذا السؤال له جواب واحد صحيح فقط وهو: كنت سافعل كل ما في استطاعتي لوقف الإبادة الجماعية.