أطلقت المغنية النمساوية إيزابيل فري (Isabel Frey)، وهي أيضاً باحثة موسيقية وناشطة سياسية، ألبوماً غنائياً جديداً باللغة اليديشية، تلك اللغة التي لطالما عبّرت عن معاناة يهود أوروبا الشرقية، وعن نضال الاشتراكيين اليهود الذين قاوموا الفاشية والنازية. واليوم، ورغم أن اليديشية أصبحت حكراً في الغالب على الطوائف اليهودية الحريدية الأرثوذكسية، يعيد فنانون مثل إيزابيل فري توظيفها أداةً ثقافية مقاومة تعبّر عن التضامن مع قضايا عادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
جاء الألبوم الجديد تحت عنوان “أغان من أجل فلسطين: أغانٍ يديشية جديدة عن الحزن والغضب والحب” (New Yiddish Songs of Grief, Fury, and Love)، ويضم 17 أغنية تستلهم تجارب تاريخية وتوظف اللغة واللحن اليهودي التقليديين للتعبير عن موقف واضح ومباشر من حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ووصفت أغاني الإصدار ممارسات الاحتلال بأنها حرب إبادة جماعية وتجويع ممنهج، وهو توصيف يتعمد التصادم مع الرواية الرسمية الإسرائيلية، ويضع المغنين في موقع الاحتجاج الأخلاقي والسياسي الصريح.
صدر الألبوم عن مجموعة فنية يهودية تحمل اسم “أغان من أجل فلسطين”، تضم فنانين من خلفيات دينية وسياسية متنوعة، اجتمعوا على استخدام اليديشية في وجه آلة القتل العسكرية الإسرائيلية، وفي التعبير عن تشابه المعاناة بين الفلسطينيين اليوم وما تعرض له اليهود في أوروبا من اضطهاد ومجازر، خصوصاً خلال الهولوكوست. من بين أبرز المشاركين في المشروع، إلى جانب فري، كل من جوي دوبكين (42 عاماً)، المنتج الفني وعازف الغيتار والشاعر المعروف في الأوساط الفنية اليديشية، وجوش فاليتزكي، أحد أبرز ملحني الأغنية اليديشية في العصر الحديث. ساهم في العمل الفنانون نعوم ليرمان، ومايا براون، ودانيال خان، وليندا غريتز، إستر غوستمان وآخرون، يشكلون معاً ما يشبه الجوقة اليسارية اليهودية المعارضة للصهيونية.
يتسم الألبوم بتركيزه على تقاطعات الذاكرة اليهودية مع الحاضر الفلسطيني، فتُستخدم اليديشية ليس لتكريس انفصال اليهودي عن محيطه، بل لتذكير العالم بأن الألم والمعاناة لا يمكن تبريرهما حين تُمارسان ضد الآخر. في أغنية “الجدران الساقطة”، يستدعي دوبكين معاناة اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، ليقارن بينها وبين ما يحدث اليوم في غزة. يغني بصوت دافئ مشوب بالغضب: “هذا الجرح يجب عدم تحويله إلى سلاح”. تعتمد الأغنية على مزيج هارمونيك ثري، فيقود الغيتار الهيكل اللحني بينما يضفي الماندولين لمسة معدنية مشرقة، ويعمق التشيلو الإحساس بالحزن.
أما أغنية “نشيد الشتات”، فتمثل إعادة كتابة لنشيد “هاتيكفا” الإسرائيلي، لكن بكلمات تنقض القومية والعسكرة. بصوت ثلاثي جمع فري وإشتر راتشكو وبنجي فوكس، تُقدم الأغنية تصوراً إنسانياً بديلاً للوطن، لا يتأسس على الحدود والسيادة، بل على العدل والسلام. وزعت الأغنية بلحن تأملي وبوتيرة أبطأ من الأصل، ما منحها طابعاً أقرب إلى الترتيل الجماعي.
في الأغنية التي حملت عنوان “لا”، تؤكد المجموعة أن الثأر لا يُنتج عدالة، وأن دماء الآخرين لن تمنح الخلاص. تقول الكلمات: “لن يحيي موتهم الموتى، لن يكون جوعهم خبزنا”. أدّت الأغنية إستر غوستمان، وجاءت بنبرة تشبه إلقاء بيان سياسي صارم، على خلفية من التشيلو البطيء.
من جانب آخر، جاءت أغنية “الدم المقدس” لتقتبس من أدعية يديشية تقليدية ارتبطت بالمذابح ضد اليهود. بصوت نعوم ليرمان، ومن دون أي مرافقة موسيقية، يتحول الدعاء إلى موقف أخلاقي: “سأغفر ذنوباً أخرى، لكن لن أغفر خطيئة سفك الدماء…”. يُراد من هذا الابتهال أن يُفهم في سياقه الحديث: لا تكرار للمجازر، أياً كان ضحاياها أو مرتكبوها.
أغنية “قطعة من قلبي” تروي حكاية صديق الطفولة الذي تحول إلى صهيوني يدافع عن الجرائم، وتقول كلماتها: “نحن نقف عند مفترق الطرق بين الإنسانية والهاوية”. جاءت الأغنية بلحن حزين، يقوده البيانو ويكمله الكلارينيت بصوت خافت، بينما يؤدي جوش واليتزكي الغناء بنبرة أقرب إلى الحكي. أما أغنية “جيل فقد الخوف”، فتعيد إحياء روح المقاومة في غيتو وارسو وتربطها بغزة اليوم، مؤكدة وحدة المصير الإنساني في مواجهة القمع. غنتها ليندا غريتز بنبرة سردية تصاعدت تدريجياً، فيما ظل البيانو يحافظ على بساطة الهارموني والتوزيع.
في أغنية “علينا أن نوقف الإبادة الجماعية”، تُستلهم الكلمات من بيان أصدرته المجموعة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتؤكد النكبة المستمرة وضرورة دعم الشعب الفلسطيني في نضاله. جاءت الأغنية في صيغة هتافية وتشاركية، بأصوات مايا براون ونعوم ليرمان، وبتكرار لحني بسيط يسهل غناؤه جماعياً، ليبدو ترنيمة احتجاجية مفتوحة.
في أغنية “من أصدر الحكم”، غنّى دانيال خان بروح الفولك، متسائلًا: “من قال إننا في حاجة إلى هذه الأرض؟ ومن دفع روحه ثمناً لهذا الطين؟”. تميزت الأغنية بتوزيع درامي قادته آلات البيانو، والأرغن، والكمان والكلارينت، وجاءت الجمل اللحنية قصيرة وتدريجية، بما يشبه حواراً داخلياً مع الذات والتاريخ.
ورغم الحزن الذي يطغى على الألبوم، أهدت إيزابيل فري أغنية احتفالية بعنوان “تحيا الحياة”، تشيد فيها بالصمود الفلسطيني بكل تفاصيله: من الأرض والبحر إلى الشعراء والمعلمين والمُسعفين. تقول كلماتها: “تحيا فلسطين، تحيا عائلاتها، يحيا الشهداء، تحيا العودة…”. جاء اللحن بسيطاً ومفرحاً، يدور حول مقام الماجور بإيقاع ثابت معتدل.
تُمثّل أغاني هذا الألبوم إعادة صياغة للأغنية اليديشية التقليدية، إذ وُظّفت عناصر من الصلوات العبرية، ومراثي تيشا بآف، وقصائد الاحتجاج السياسي، لخلق خطاب فني معاصر يقف في وجه العنصرية والإبادة والاحتلال. من خلال أصواتهم، جعل الفنانون من الفلسطينيين أبطالاً في هذه المراثي الجديدة، وكأنهم يعيدون تعريف مفهوم “الشعب المضطهد” خارج الإطار الصهيوني. بهذا المشروع الجريء، تُعيد اليديشية مكانتها بوصفها لغة مقاومة وليست لغة طائفية، وتثبت أن للفن ذاكرة، وأن الغناء يمكن أن يكون سلاحاً ضد الظلم، وقُبلة للحياة في قلب المأساة.