
المسار …
في محاولة لاستكشاف “الأساطير والمنظورات الاستشراقية والاستعمارية” في الفكر الصهيوني، تتناول الباحثة رؤى عطاونة في مقال نشر في العدد الأخير من مجلة “قضايا إسرائيلية”، الصادرة عن مركز “مدار”، رواية ثيودور هرتسل، الأب الروحي للحركة الصهيونية، “أرض قديمة جديدة” (ألتنويلاند)، وهي رواية صدرت عام 1902، أي بعد ست سنوات على كتاب “الدولة اليهودية”. وفيها استكمل هرتسل رؤيته وتصوره اليوتوبي للدولة اليهودية الحديثة ذات الطراز الأوروبي، التي بناها على أنقاض المشهد “الديستوبي” الذي كان قائمًا في أرض فلسطين “القاحلة”، “المدمرة”، “المليئة برائحة الفقر”، و”تنبعث منها عفونة رائحة الأموات”، كما زعم.
ويتخيّل هرتسل، كما تقول الباحثة، كيف سيتحول مشهد البلاد الطبيعي بعد الاستيطان اليهودي، حيث يخلق تقسيمًا صارخًا بين عرضين: فلسطين قبل الهجرة اليهودية، وهي “الديستوبيا” الكئيبة، كما أسلفنا، وفلسطين بعد الهجرة اليهودية، وهي المدينة الفاضلة “اليوتوبيا”، وهو تصوير يحمل، برأي الكاتبة، طابعًا استشراقيًا، ويعكس تطلعات هرتسل الاستعمارية، التي تصوّر فلسطين كـ”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
ويريد هرتسل بهذه المبالغة الدراماتيكية، وفقًا للمقال، أن يؤكد على ما يمكن لليهود تحقيقه، من خلال منح الفضل للهجرة اليهودية في تحويل الأرض من الخراب إلى الحيوية، بعد أن يُظهر فلسطين كأرض مهملة وقاحلة، ليبرر المشروع الصهيوني القائم على “إعادة البناء” و”تحضير” الأرض. وهو يقدم الأرض القديمة على أنها فارغة ومقفرة، مما يبرز الإمكانات التحويلية للاستيطان الصهيوني ويصوره كمسعى نبيل وضروري.
ففي وصفه لمنظر القدس قبل عشرين سنة، وهي الفترة التي فصلت بين زيارتي بطلي قصته الأولى والثانية إلى فلسطين، أي قبل الاستيطان اليهودي، يقول: “أزقتها الضيقة تعلوها طبقة الطحلب، ترتفع الصرخات والروائح الكريهة، وهناك الكثير من مختلف الألوان وخليط من الناس البائسين: شحاذون مرضى، أولاد جياع، نساء يرفعن عقيرتهن بالصياح، وباعة متجولون تتعالى أصوات صياحهم”، منوهًا: “إن أورشليم ذات الماضي المجيد لم يكن في الإمكان أن تنحدر إلى أحط من هذا”.
أما عن مدينة يافا، فيكتب: “إنها برغم موقعها اللازوردي على ساحل البحر الذي يخطف الأبصار حقًا، إلا أن كل ما فيها كان مهملًا إلى درجة تبعث على الشفقة. كان الصعود إلى الميناء الحقير صعبًا مضنيًا، الأزقة مليئة بالروائح الكريهة، قذرة، مهملة، وحيثما كنت تتجه ببصرك لا ترى غير الفقر الذي عرفه الشرق.. ورائحة العفونة كرائحة القبور تكتم الأنفاس”.
بالمقابل، ينقل كيف انقلب المشهد رأسًا على عقب بعد الاستيطان اليهودي، حيث طغت بصورة خاصة، طبعًا، الملابس الأوروبية، على حد وصفه. كما أن المدينة صارت ذات طابع أوروبي بصورة رئيسة، الأمر الذي كان يحملك على الاعتقاد بأنك تقف في ميناء إيطالي كبير. والحركة في الشوارع، رغم تدفقها بالحياة، كانت أقل صخبًا.
أما القدس التي كانت “تعلو أزقتها طبقة من الطحلب”، فقد غدت، وفق النص الذي تنقله الباحثة من الرواية، شوارعها مبلطة كالأرصفة المخصصة للسابلة، وصارت السيارات تسير عليها بدواليبها المطاطية دون صخب تقريبًا، باستثناء صوت تحذير تطلقه صفارة، وحركة السيارات فوق جسور معلقة نبّهت الغرباء وجعلتهم يتطلّعون إلى أعلى، بينما استولى على السائرين شعور بالتسامي وهم يدخلون جوّ السلام في المدينة المقدسة. لم يجدوا بين أسوار البلدة القديمة قذارة أو ضوضاء أو روائح نتنة كما كان عليه الحال قبل عشرين سنة، وصار “يُحافظ على نظافتها وكأنها أرضية غرفة جميلة”.
◾لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع الباحثة رؤى العطاونة:
في عنوان المقال جمعتِ بين “الأساطير”، والمقصود الرواية التوراتية التي وظّفتها الصهيونية لتجنيد اليهود، وبين المنظورات الاستشراقية الاستعلائية التي انطلقت منها في النظر إلى شعب فلسطين وشعوب المنطقة، وبين الأفكار الاستعمارية. وهي ثلاث مكونات شكّلت الصهيونية حتى قبل أن تتحوّل إلى مشروع عملي؟
عطاونة: صحيح، وتناولت ثلاثة محاور؛ الأول هو الصهيونية المسيحية والعلاقات بين المسيحية الصهيونية واليهود، والتي تجسّدت في رواية هرتسل من خلال العلاقة بين بطلي القصة “المسيحي” و”اليهودي”، ورحلتهما الطويلة المشتركة التي عرّجا خلالها، في الذهاب والإياب بعد غياب 20 سنة، على فلسطين، ونقلا – أو نقل هرتسل بواسطتهما – مشهد فلسطين قبل الاستيطان اليهودي وبعده.
المحور الثاني هو العلاقات اليهودية – العربية، حيث حاول هرتسل الإيحاء بأن العرب، والمقصود سكان فلسطين، متصالحون وراضون عن الاستيطان اليهودي والمشروع الصهيوني في فلسطين. أما المحور الثالث فهو المشهد الطبيعي لفلسطين، وكيف تخيّله هرتسل وصوّره في الحالتين: الأولى قبل الاستيطان اليهودي، والثانية بعده.
كيف كانت فلسطين “ديستوبيا”، على حد زعمه، مكانًا “مدمرًا، قذرًا، مليئًا بالعفونة”، وبعد استيطان اليهود فيها صارت “يوتوبيا”، مدينة فاضلة يحلم بها كل يهود العالم. وفي هذا المحور استخدمت تقنية الذكاء الاصطناعي في إنتاج صور مُصنَّعة تعكس واقع فلسطين في الحالتين: الأولى، مدينة “مدمّرة وقذرة” كما وصف حال القدس ويافا، والثانية مدينة أوروبية حديثة ونظيفة على غرار باريس ولندن. حيث ترجمت تقنية الذكاء الاصطناعي الكلمات التي وصف بها هرتسل واقع البلاد قبل وبعد الاستيطان اليهودي إلى صور فوتوغرافية طبيعية، وكانت النتيجة مذهلة.
لا شك أن هرتسل كان متأثرًا بالفكر الاستعماري الذي كان سائدًا في أوروبا في ذاك العصر؟
عطاونة: غسان كنفاني في كتابه “قراءات في الأدب الصهيوني”، الذي اعتمدت عليه، تحدّث كثيرًا عن دور الأدب الصهيوني في الترويج للحركة الصهيونية قبل مجيئها، وكيف لعب دورًا كبيرًا في وضع البنية الفكرية الأساسية لهذا المولود. وقد اعتمد على تصوّرات استشراقية استعمارية تفيد بأن حتى السكان الموجودين في فلسطين سيسعدون بوجود الدولة اليهودية، لأنها ستجلب “التطور” و”الحضارة” إليهم، بعد أن كانوا فقراء لا يستطيعون الاهتمام بأراضيهم، وهو ما يظهر بوضوح في رواية هرتسل “أرض قديمة جديدة”.
الرواية واضحة وصريحة وترسم أهداف الحركة الصهيونية التي تُرجمت لاحقًا، والتي تنطلق من أن “هذه الأرض مدمرة وهي أرض مقدسة”، و”يجب علينا نحن اليهود إعادة إحيائها لأجلنا، لأن هذا هو العهد الإلهي الذي أوقفها لنا”.
والغريب أن هرتسل، مثله مثل سائر أقطاب الحركة الصهيونية الأوائل واللاحقين، كانوا علمانيين لا تربطهم صلة بالدين اليهودي، وهم في ذات الوقت يوظفون الأسطورة التوراتية تلك لخدمة أهدافهم الاستعمارية. وهرتسل ذاته وُلد لعائلة برجوازية لم تتعرض لهذا النوع من الاضطهاد الذي كان يتعرض له اليهود في أوروبا حينه.
أشرتِ إلى العلاقة الداعمة من قبل الصهيونية المسيحية للفكرة الصهيونية، وهو ما يظهر في الرواية من خلال علاقة “النبيل الألماني المسيحي” الذي يعيش في أمريكا ويملك الكثير من المال، ويريد أن يذهب في رحلة إلى جزيرة ويبحث عن رفيق، فاختار أن يكون هذا الرفيق يهوديًا، وهو من يقترح عليه أن يعرّجا، على ما وصفها مخاطبًا اليهودي، بـ”أرض آبائك وأجدادك”، ويقصد فلسطين؟
عطاونة: صحيح، هو من عرض عليه ذلك، حتى إن اليهودي يجيبه بسذاجة عندما يقول له: تعال نزور “أرض آبائك وأجدادك”، فيقول له: تقصد أن نعود من حيث خرجنا؟ لأننا خرجنا للتو. فيرد عليه: لا، أقصد أن نذهب إلى فلسطين.
وكأن الفكرة الاستعمارية بدأت من هناك: أنتم، تعالوا نذهب بكم إلى فلسطين، وستَرَون كم ستفعلون في هذا السياق. وحول هذه الزيارة، التي تبدو لأول وهلة كأنها عرضية، إلى جانب رحلتهما إلى الجزيرة التي استمرت 20 عامًا بالكامل، تدور أحداث القصة “أرض قديمة جديدة”، ويُنسَج التصوّر اليوتوبي عن الدولة اليهودية.
التصوّر لم يأتِ من فراغ، فقد ارتكز إلى تجارب استعمار استيطاني سابقة حضرت في التاريخ الأوروبي القريب، لكن الغريب هو الموقف المرحّب، كما يصفها، من “الأقليات العربية” في فلسطين، الذي تعرضه الرواية؟
عطاونة: هرتسل أناب شخصية واحدة لتمثيل السكان الأصليين، الذين نعتهم بـ”الأقليات العربية” في فلسطين، وهي شخصية “رشيد بك”، حيث رحّب من خلالها بما أسماه “المجتمع الجديد” المتمثّل بالاستيطان الصهيوني، “الذي ساعدنا في بناء هذه الأرض في وقت لم يكن باستطاعتنا فعل ذلك”. فهو اختصر جميع الفلسطينيين في البلاد بشخصية جرى توظيفها في التعبير عن النظرة الاستشراقية الاستعلائية، التي تنظر إلى شعوب الشرق على أنهم دون البشر في الغرب، والتي ينطلق منها الفكر الاستعماري في تبرير اغتصاب أرض الآخرين ومحوهم أو استعبادهم.
الأفكار الاستشراقية والاستعمارية ظاهرة جيدًا للعيان في الرواية، وهي تكشف خلفية هرتسل القادم من البرجوازية الأوروبية المرتاحة، التي لا تعاني أي نوع من الحاجة المادية أو المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، وتفضح في ذات الوقت مصادر الفكرة الصهيونية، التي لم تكن وليدة احتياجات اليهود ومعاناتهم كما تدّعي، بل نتيجة طموحات هذه الطبقة الاقتصادية وامتزاج مصالح مكوّناتها اليهودية والمسيحية وأطماعها العابرة للحدود.
لكن، بغضّ النظر عن كل شيء، فإنّ هناك تطابقًا كبيرًا بين “الرؤيا” التي نسجها هرتسل وبين ما حدث في الواقع لاحقًا؟
عطاونة: للأسف، أنا أيضًا تساءلت في نهاية المقال: هل يمكن اعتبار هرتسل “رؤيويًّا” لأنه رسم كل هذه الخطة، “أن يأتي باليهود ويبنوا هذه المدينة الحديثة.. في فلسطين”، ويُقيموا علاقات مع العرب؟ ربما هو قصد العرب في فلسطين فقط، وليس العلاقات الاقتصادية الواضحة مع العرب في الأقطار المجاورة أيضًا. هو استطاع أن يرسم هذا الواقع بشكل تفصيلي، وهذه الرواية أثّرت على الرأي العام في أوروبا بشكل كبير، ومن هنا كانت تنبع أهميتها وخطورتها بالنسبة لنا.
في كتابه الأول الدولة اليهودية كان أقل دقة؟
عطاونة: صحيح، في كتابه الأول رسم معالم طريق لما يمكن أن تكون عليه الدولة اليهودية، بينما فصلها هنا بشكل واضح وصريح، برزت فيها العناصر الرئيسية الصهيونية، وعلى رأسها المطامع الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين تحديدًا، وعرّى العلاقة الوثيقة مع التاريخ والفكر الاستعماري الأوروبي، إلى جانب البُعد الديني المسيحي اليهودي، وضرورة توظيفه لتنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين.
كما أن المشهد اليوتوبي للمدينة/ الدولة الحديثة المزدهرة، التي سيتم بناؤها في فلسطين وتعيش مع جيرانها العرب بسلام وأمان، والتي ستشكّل درب الخلاص لليهود من الظلم الذي لحق بهم في أوروبا، رسم هذا المشهد كان ضروريًّا ولعب دورًا أساسيًّا في تجنيد اليهود حول هذا المشروع.
رؤى عطاونة: طالبة ماجستير في الدراسات الإسرائيلية بجامعة بيرزيت، وحاصلة على منحة زمالة تدريبية في البرنامج. تتركز اهتماماتها البحثية على الأدب والاستعمار، والعلاقة بين اللغة والسلطة، وتتمحور رسالة الماجستير الخاصة بها حول استكشاف المصطلحات والمفاهيم المناهضة للاستعمار التي يستخدمها الفلسطيني للتعبير عن حياته المعاشة.