“غلطة تراجيدية”.. إسرائيل “تأسف” ولا تعتذر عن جريمة قتل المدنيين في مشفى كمال ناصر.. عذر أقبح من ذنب

وديع عواوده

المسار : ضمن ردود الفعل الإسرائيلية على مذبحة مستشفى كمال ناصر في خان يونس أمس، وصفها رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو بـ”الغلطة التراجيدية”، معبّرًا عن “أساه” على حدوثها. وسبقه قائد الجيش أيال زامير، الذي دعا للقيام بالتحقيق فيها بأسرع وقت، معربًا، هو الآخر، عن “الأسى”، لكنهما لم يعتذرا عنها، وهكذا بقية المسؤولين السياسيين والعسكريين.

في حصيلتها، تسبّبت الجريمة الجديدة بقتل 20 مدنيًا، بينهم صحافيون ومسعفون وموظفون في الدفاع المدني وعشرات الإصابات. وسبقتها جرائم مختلفة أدّت لقتل أكثر من 240 صحافيًا في القطاع منذ بدء الحرب، علاوة على قتل المسعفين ومذابح البحث عن الطحين.

 رسميًا، ساقت إسرائيل رواية لا تصدقها حتى جهات داخلها، مفادها أن خطأ وقع، وأن “حماس” نصبت كاميرا مراقبة في سقف المستشفى، في محاولة مفضوحة لتحميلها مسؤولية المذبحة، التي تعرّض فيها المستشفى لقذيفة دبابة وليس لطائرة مسيّرة فحسب.

لولا الكاميرا التي وثّقت وفضحت الجريمة بالبث الحي والمباشر، لما صدرت حتى بيانات “أسى”، ومن المرجح جدًا القول إن الضحايا ليسوا صحافيين بل هم “إرهابيون” يحملون بنادق لا كاميرات، على غرار مزاعم ممجوجة سابقة. تبقى التبريرات الإسرائيلية الرسمية وشبه الرسمية هذه المرة أيضًا هشّة وعذرًا أقبح من ذنب، وتحوم حولها الكثير من التناقضات والأسئلة التي تفضح الأكاذيب، منها على سبيل المثال ـ وجدلاً ـ إذا كان القصف يستهدف الكاميرا أعلى المستشفى، فلماذا لم يُطلب من المستشفى إزالتها؟ ولماذا لم تُستخدم ذخيرة موضعية لإزالة الكاميرا؟ ولماذا تمّ القصف مرتين؟ كيف، ولماذا قتل جيش الاحتلال 245 صحافيًا فلسطينيًا؟ هل كانوا جميعهم “إرهابيين” أو بالخطأ؟ وما هو صحيح بشأن الصحافيين، صحيح بالنسبة للأطباء والممرضين والمستشفيات التي تمّت إبادة معظمها. وإذا كانت المزاعم صحيحة بتشكيل طاقم تحقيق بقتل الصحافيين، أمس، كما زعم زامير، فماذا كانت نتائج طواقم تحقيق مماثلة أُعلن عنها في الماضي بعد كل جريمة قتل مدنيين؟

الكاميرا تفضح

لولا عين الكاميرا التي كانت حاضرة ووثقت الجريمة، لعوملت هي الأخرى بالإنكار والتجاهل التام. وسبق أن حذّر رئيس حكومة الاحتلال الراحل شيمون بيريز من أن الكاميرا أخطر أنواع الأسلحة المتوفرة بيد الفلسطينيين، معلقًا بذلك على فضح جرائم الاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الرواية الإسرائيلية في العالم، وذلك بعد انفجار الثورة الرقمية وكثرة التوثيق في الأراضي الفلسطينية. مقابل محاولة تلطيف وتبرير الجريمة وتبني رواية جيش الاحتلال من قبل معظم وسائل الإعلام العبرية، تسميها صحيفة “هآرتس” العبرية، اليوم الثلاثاء، باسمها في افتتاحية بعنوان “جريمة بالبثّ الحي”. وتنسف “هآرتس” الرواية الإسرائيلية الرسمية فتقول بلغة ساخرة: “هكذا تعمل الطريقة؛ يقصفون مستشفى.. يقتلون صحافيين وعندها يعربون عن أسى. الإستراتيجية الدعائيةـ الإعلامية شفافة ومفضوحة، هذه ليست جريمة حرب لأن الجيش “يأسف” على ما حدث. لا قيمة لتعبير الجيش عن “الأسى” حينما تتكرر هذه الظاهرة. إذا كانت هذه هي صورة الجيش مع حرصه على عدم المساس بأبرياء، فإن وضعه صعب: إما أنهم يكذبون أو يشوهون الحقيقة أو كلاهما معًا.. وهذه ليست الجريمة الأولى”.

تأثيرها على الحرب

“هآرتس”، التي تواصل رفضها بشكل عام الانخراط في جوقة الإعلام العبري المتبني للرواية الرسمية، وأحيانًا يكون أكثر تطرفًا وفظاعة منها، كما تجلى بأمنيات بعض الصحافيين الإسرائيليين منذ بدء الحرب باتساع المقابر الفلسطينية كل يوم، تخلص (هآرتس) إلى الدعوة لوقف الحرب فورًا، وترى أن على إسرائيل أن تستيقظ من أحلامها وكوابيسها وأطماعها باحتلال مدينة غزة، وعقد صفقة والانسحاب من القطاع الآن. “الهجمة على المستشفى، أمس، ينبغي أن تؤشر إلى نهاية الحرب”. وهذه إمكانية لا يستبعدها محللها العسكري عاموس هارئيل، الذي يقول إنه رغم اللامبالاة الإسرائيلية حيال الحادثة في خان يونس “يمكن أن تؤثر على استمرار الحرب”. في الواقع، لا يبدو التأثير على مستقبل الحرب حاسمًا، نظرًا لحقيقة أن ردود فعل الحكومات في العالم حتى الآن (بخلاف الردود والتغطيات الإعلامية وغير الرسمية الحادة ضد إسرائيل) لا تتجاوز التنديد، بعكس عملية طرد أستراليا للسفير الإيراني أمس، على سبيل المثال.

وعن قتل الصحافيين والمسعفين، يستخف هارئيل أيضًا بالمزاعم الإسرائيلية الرسمية: “بعدما أعلن الجيش مسؤوليته عن قتل صحافيين، هذا الشهر، (في إشارة إلى أنس الشريف ورفاقه)، بات من الصعب قبول ادعائه بأن ما حصل في المستشفى أمس خطأ جديد”، لافتًا إلى مقتل عشرين نتيجة قذيفة واحدة، وأنه من الصعب نفي إمكانية إطلاق نار أكثر مما يزعمه الجيش. في تلميح إلى مذبحة قانا الأولى في جنوب لبنان، خلال حملة “عناقيد الغضب” التي اضطرت إسرائيل برئاسة بيريز لوقفها بعد المذبحة التي قتلت وأصابت نحو 200 لبناني، يقول هارئيل إنه ذات مرة كانت مثل هذه الحادثة توقف الحرب، غير مستبعد أن تقود المذبحة الجديدة لوقف الحرب المتوحشة الحالية.

من جهته، يزعم المحلل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بن درور يميني أن الجانب الإسرائيلي محق في جوهر روايته، لكنه غبي في تصرفه.

وهكذا أيضًا منظمة الصحافيين الإسرائيليين قالت في بيانها إنها تأسف لقتل صحافيين، لكنها تبنّت، من جهة أخرى، الرواية الرسمية التي تحمّل “حماس” مسؤولية الدم بتداخل عناصرها بين المدنيين.

وكذلك، يطغى على مزاعم يميني خطاب الربح والخسارة، أكثر من معايير المهنية والأخلاقية في بيان منظمة الصحافيين بتركيزها على أن “الحادثة” تلحق ضررًا فادحًا بإسرائيل في العالم.

الشهيد كمال ناصر

يُشار إلى أن مستشفى كمال ناصر، المستشفى الوحيد الذي يعمل (جزئيًا) في جنوب القطاع، قد بُني قبل عدة عقود في خان يونس، وهو على اسم المناضل الشهيد كمال بطرس ناصر، الذي ولد عام 1924، وترعرع في غزة وبير زيت، وهو كاتب وشاعر وصحافي شغل رئاسة دائرة الإعلام الفلسطيني، الملقب بـ”الضمير”، ولقبه الشهيد صلاح خلف (أبو إياد) بـ”ضمير الثورة” بسبب استقامته وأخلاقه العالية. ودرس كمال ناصر في القدس، وأنهى دراسته العليا في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1945، وقُتل فيها، حيث اغتالته إسرائيل في نيسان 1973 في شارع فردان في بيروت مع رفيقيه كمال عدوان وأبو يوسف النجار داخل شققهم وأمام زوجاتهم، في عملية قادها إيهود باراك، وسميت إسرائيليًا بـ”ربيع الشباب”. والمفارقة أن الفلسطينيين بنوا 3 مستشفيات تحمل أسماءهم داخل قطاع غزة تعرضت كافة للقصف الإسرائيلي. كمال ناصر، الذي كتب القصائد، ترك ديوانًا شعريًا بعنوان “جراح تغنّي”، وعمل أيضًا محررًا في صحف ومجلات الثورة الفلسطينية، آخرها مجلة “فلسطين الثورة”، وكان آخر ما كتب فيها افتتاحية تشبه الوصية، بعنوان: “القيادات تتغير والأشخاص يزولون وتبقى القضية أكبر من الجميع”.

المصدر : القدس العربي

Share This Article