المسار : كثيرة هي القصص المأساوية التي خرجت من مركز الاعتقال في معسكر سدي تيمان، بشأن تعذيب أسرى فلسطينيين من قطاع غزة، منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن فيديو مسرباً لتنكيل وحشي بأسير تحوّل إلى أزمة إسرائيلية داخلية، وصراعات داخل جيش الاحتلال نفسه، وبين المستوى السياسي والمدعية العسكرية، وبمشاركة الشرطة الإسرائيلية والمستشارة القضائية للحكومة ووزراء وجهات أخرى، وصولاً إلى إعلان الجيش أمس الأربعاء، عن خروج المدعية العسكرية يفعات تومر- يروشالمي، في إجازة حتى يتم التحقيق من تفاصيل إضافية في القضية.
فما هي القصة، وكيف تطوّرت، ومن الضالعون فيها، ولماذا تثير عاصفة في إسرائيل؟
تعود بداية القضية إلى فيديو مسرّب من منشأة الاعتقال سدي تيمان، لتعذيب أسير فلسطيني، والتنكيل به من قبل مجموعة جنود في يوليو/ تموز 2024، وسط شبهات بإدخال أجسام إلى جسمه وتعرضه للاغتصاب. وانتشر الفيديو لاحقاً على نطاق واسع، لكن ليس هذا ما كان يهم إسرائيل، ولا ما غلب على النقاش العام فيها، بقدر ما هو الإساءة التي لحقت بسمعتها، وتعريض الجنود لخطر الملاحقة الدولية، ومن ثم تحوّل الأمر إلى أزمة داخلية بعد اقتحام المكان الذي احتجز فيه الجنود في حينه للتحقيق، من قبل من ناصروهم ودافعوا عن سلوكم ورفضوا اعتقالهم، وكان من بين هؤلاء وزراء هبوا لنجدتهم. كما أثيرت تساؤلات عدة بعد هذه التصرفات بشأن الصراع الداخلي الإسرائيلي على النفوذ، وغياب سلطة القانون، وإشاعة الفوضى، والشرخ الداخلي والجدل الذي سبق الحرب، حول مستقبل إسرائيل وهويتها واستقلالية جهازها القضائي، وهامش ديمقراطيتها وغيرها.
وفي التفاصيل، ذكر موقع واينت أن القضية بدأت من قاعدة عسكرية صغيرة جنوب بئر السبع، والتي استُخدمت منذ بداية الحرب في غزة أيضاً مركز احتجاز مؤقت لغزيين اعتُقلوا بزعم انتمائهم للمقاومة. وفي يوليو 2024، تم اعتقال عدد من جنود الاحتياط من وحدة 100 هناك، للاشتباه في قيامهم بالاعتداء على أسير فلسطيني. وبحسب لائحة الاتهام المقدّمة ضدهم، فإن خمسة منهم، بينهم ضابطان، قاموا بركل المعتقل، والدوس عليه، وسحبه على الأرض، وإطلاق صدمات كهربائية عليه باستخدام مسدس “تيزر”، بما في ذلك على رأسه، بينما كان مكبلاً ومعصوب العينين. وفي بداية التحقيق، أُثيرت أيضاً شبهات بارتكاب جرائم جنسية، لكنها لم تُدرج في نهاية المطاف بشكل رسمي، ضمن لائحة الاتهام الإسرائيلية. وقد ورد في لائحة الاتهام أن الأسير عانى من إصابات بالغة الخطورة، من قبيل كسر سبعة أضلاع، وثقب في الرئة، وتمزق في المستقيم، ونزيف داخلي.
كيف انفجرت القضية وتحولت لأزمة إسرائيلية داخلية؟
انفجرت القضية بعد مداهمة نفذتها الشرطة العسكرية للتحقيقات (مِتساح) للقاعدة العسكرية في 29 يوليو 2024. تم حينها توقيف ثمانية جنود احتياط للتحقيق، بعد أن تلقى جيش الاحتلال الإسرائيلي تقارير من منظّمات حقوق إنسان أجنبية، حول تعذيب أسرى فلسطينيين. وقد ساهم نشر فيديو لمحققين من الشرطة العسكرية وهم ملثمون داخل القاعدة، بعد وقت قصير من المداهمة، في تأجيج احتجاجات إسرائيلية من قبل الداعمين للفعل المشين، التي تصاعدت إلى حد اقتحام قاعدة أخرى، هي قاعدة “بيت ليد” العسكرية، حيث وقعت مواجهات عنيفة مع متظاهرين، بعضهم ملثمون ومسلحون.
واقتحم جنود ومدنيون قواعد عسكرية، واشتبكوا مع محققي الشرطة العسكرية، ولاحقاً وصل إلى المكان أعضاء كنيست ووزراء من اليمين، من بينهم عضو الكنيست تسفي سوكوت (من الصهيونية الدينية) ونائب الوزير ألموغ كوهين (من حزب عوتسما يهوديت – القوة اليهودية). وتعرّض صحافيون وصلوا لتغطية الأحداث للاعتداء. وأدان رئيس أركان جيش الاحتلال السابق هرتسي هليفي، الاقتحام بشدة، ووصفه بأنه “سلوك خطير ومخالف للقانون”. كما دعا وزير الأمن آنذاك، يوآف غالانت، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى تهدئة الأوضاع. ورغم ذلك، تحوّل الحدث إلى رمز سياسي للصراع بين المستوى العسكري – القضائي وبين جهات يمينية دعمت الجنود.
لماذا نُقلت التحقيقات من الجيش إلى جهات مدنية؟
أعلنت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف – ميارا، أمس عن فتح تحقيق جنائي في أعقاب معلومات جديدة تم الحصول عليها، ويُدار التحقيق من قبل قسم التحقيقات والاستخبارات في الشرطة، وبمرافقة نيابة الدولة. وقالت إن القرار اتُّخذ لتفادي وضع “يُحقق فيه الجيش مع نفسه”، نظراً لأن الشبهات تتعلق بعناصر من النيابة العسكرية ذاتها. وأشارت إلى سببين أساسيين لهذا القرار، أحدهما المعلومات الجديدة التي جُمعت في الأشهر الأخيرة، وثانيهما الحاجة إلى الحفاظ على ثقة الجمهور بأن التحقيق يُدار خارج المنظومة المشتبه بتورطها في التسريب.
ما هي الشبهات ضد المدعية العسكرية العامة ومحيطها؟
تتمثل الشبهة في أن جهات من المحيط القريب للمدعية العسكرية كانت متورّطة في تسريب الفيديو أو كانت على علم به. الجيش الإسرائيلي لم يستبعد بعد احتمال أن المدعية نفسها صادقت على التسريب، رغم أنها في هذه المرحلة لا تُعتبر مشتبهاً بها، بل تُعد شاهدة. يقدّر مسؤولون قانونيون في الجيش أنه لو كانت هناك شبهات جدية بشأن سلوكها، لما كانت خرجت في إجازة، ومن المتوقع أن تدلي بإفادتها قريباً. مع هذا أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي اليوم بأن المدعية قد تكون ضالعة بنفسها في قضية التسريب.
كاتس يناقض رواية الجيش؟
يكمن أحد الانقسامات المركزية حول قضية التسريب والتعامل معها، في التباين ما بين تصريحات الجيش وتصريحات وزير الأمن يسرائيل كاتس. وفقاً لبيان الناطق باسم الجيش، فإن تومر يروشالمي طلبت بنفسها الخروج في إجازة، بهدف الحفاظ على نزاهة التحقيق واستقلالية المحققين. وجاء في البيان: “رئيس الأركان صادق على طلبها حتى يتم التحقق من التفاصيل”. في المقابل، قال كاتس إنها في إجازة بأمر من رئيس الأركان، وإنها “لن تعود إلى منصبها حتى انتهاء التحقيق”. وكتب أن الأمر يتعلق بـ”افتراء خطير ضد جنود الجيش الإسرائيلي”، وأضاف: “أنا أؤيد القرار بكل قوة”.
التحقيق الجنائي ضد المتورطين في اقتحام القاعدة العسكرية لا يزال جارياً بالتوازي مع هذه التطورات. في شهر مارس/ آذار الماضي صادقت المستشارة القضائية للحكومة والمدّعي العام للدولة، عميت آيسمان، على استدعاء وزير التراث عميحاي إلياهو (من حزب عوتسما يهوديت) وأعضاء الكنيست نيسيم فاتوري (الليكود) وتسفي سوكوت (الصهيونية الدينية) للتحقيق معهم بصفتهم مشتبها بهم، وذلك على خلفية الاقتحام. الثلاثة هاجموا القرار، وأعلن إلياهو وفاتوري أنهما “لن يحضرا تحقيقاً سياسياً”، على حد تعبيرهما. وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، رئيس حزب “عوتسما يهوديت”، ادّعى حينها أن الأمر يتعلق بتطبيق انتقائي للقانون ضد شخصيات يمينية.
في شهر إبريل/نيسان، تم استدعاء نائب الوزير ألموغ كوهين للإدلاء بشهادة مفتوحة في القضية، لكنه رفض الحضور. وقبل ثلاثة أيام، تم استدعاء عضو الكنيست سوكوت مجدداً للتحقيق معه بوصفه مشتبها به، وتم تحديد موعد التحقيق ليوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وفي مارس أيضاً، أصدرت الشرطة بياناً استثنائياً هاجمت فيه النيابة العامة والمستشارة القضائية للحكومة، بسبب إبلاغهما الجمهور عبر وسائل الإعلام عن التحقيق مع الوزراء، قبل أن يتوجها مباشرة إلى المفتش العام للشرطة.
لماذا يُعتبر التحقيق حساساً إلى هذا الحد في إسرائيل؟
القضية تمس جوهر الصراع الذي يرافق الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب، وفق موقع واينت العبري، وهو “الخط الفاصل الدقيق بين التحقيق في مخالفات خطيرة يُزعم أن جنوداً ارتكبوها، وبين الخشية من تجريم الجنود خلال العمليات القتالية”. وحالياً، ومع تركّز التحقيق على النيابة العسكرية نفسها، وهي الجهة المسؤولة عن الرقابة القانونية داخل المنظومة العسكرية، فإن الأمر يُعد أزمة ثقة غير مسبوقة، تهز واحدة من الأذرع المركزية في الجيش الإسرائيلي.

