المسار : يروي سكان الفاشر ومخيماتها المجاورة بشاعة انتهاكات قوات الدعم السريع وقسوة الفرار بأعجوبة من مدينة تفوح منها رائحة الموت وتتكدس فيها الجثث والأشلاء، وسط نشوة الجنود بقتل الأبرياء.
كانت مدينة الفاشر السودانية المكتظة بالسكان على مدى 18 شهراً تسير نحو نهايتها المحتومة بالوقوع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، بعد حصار مُحكم سبق الشروع في الهجوم المسلح والتسبب بمقتل آلاف المدنيين من سكان المدينة والمخيمات المحيطة. مع العلم أن حصار الفاشر لم يكن يسيراً على قوات الدعم السريع التي وجدت نفسها مضطرة إلى تطويق المدينة التي تحيطها صحراء شاسعة وجبال شاهقة، ومن ثم قتال آلاف الجنود من الجيش السوداني المتحصنين داخل مقر الفرقة السادسة، تساندهم قوات من عناصر الحركات المسلحة التي وقّعت سلاماً مع الحكومة المركزية في البلاد، بعد تمرد عسكري استمر 20 عاماً.
تقع الفاشر بولاية شمال دارفور، غربي السودان، وتحيطها ثلاثة مخيمات للنازحين الذين هجّرتهم الحروب السابقة في إقليم دارفور، ومنذ سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة صباح الأحد الماضي في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تعرّض السكان والنازحون لانتهاكات وحشية وصفها الكثيرون بأنها “جرائم قتل بدم بارد وارتكابات فظيعة تجسد حجم الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام”.
مروة سليمان، وهي الأم لستة أولاد، نزحت سابقاً إلى مخيم زمزم، شمال دارفور، الذي سيطرت عليه قوات الدعم السريع في إبريل/ نيسان الماضي، ومنه نزحت إلى داخل مدينة الفاشر. كانت تستعد ليوم آخر من أيام الجحيم التي تعيشها جراء الحصار الطويل والجوع والمرض والقصف بكل أنواع الأسلحة، لكنها فوجئت بأرتال عسكرية تقتحم الحي القريب من مقر الجيش السوداني، على وقع صراخ هستيري لقوات الدعم السريع وإطلاق الرصاص عشوائياً في شتى الاتجاهات.
تقول مروة لـ”العربي الجديد”: “خلال فترة الحصار، شاهدت حالات قتل مدنيين بمختلف المقذوفات، لكن لحظة دخولهم إلى مقر الجيش كانوا يتلذذون بقتل المدنيين وكأنهم يلهون بلعبة مسلية. كانوا يقتحمون المنازل ويطلقون الرصاص على المواطنين من مسافة صفر، ومن دون أن يوجهوا لهم أي سؤال”.
فقدت مروة في ذلك الصباح الدامي أحد أبنائها الذي لم يتجاوز عمره 28 عاماً، بينما اختبأت مع ثلاثة من أطفالها داخل أحد الأنفاق التي كانوا يعتمدون عليها للنجاة بأرواحهم من القصف المتكرر خلال أيام الحصار. وتضيف: “سمعتُ ابني يصرخ ويتوسل للجنود ألا يقتلوه، سمعت أصداء سقوطه أرضاً، بينما أنا عاجزة عن إنقاذ حياته. كتمتُ آلامي وصراخي، وحاولت النجاة بباقي أطفالي، تمنيت ألا يموت وأن أتمكن من إسعافه فور ابتعاد الجنود، لكنهم واصلوا مداهمة المنزل وسرقته، ما اضطرني للهروب خارجاً مع أطفالي في الاتجاه المعاكس”.
وتتابع الأم المفجوعة: “لا أصدق أن ولدي قُتل، كنت أرفض خروجه من الفاشر كي لا يقع في أيديهم ويلقى حتفه أسوة بغيره، لكنهم عندما دخلوا المدينة قتلوا النساء والأطفال. أثناء هروبي، صُدمت بعدد الجثث في الشوارع، سمعت استغاثات آخرين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، بينما تُرك الجرحى والمصابون لمصيرهم، كانت الدماء تسيل في كل مكان، وسط ذعر المواطنين وفرارهم في كل الاتجاهات”.
ويصف هارون حامد، الذي نجا من الموت بأعجوبة، حجم المأساة، ويقول لـ”العربي الجديد”: “خرجت من المدينة قبل يومين من سقوطها، غير أن شقيقي وزوجته رفضا مغادرة المنزل، نظراً لما كان يتم تداوله عن وقوع انتهاكات جسيمة عند الحواجز الأمنية والعسكرية ضد الفارّين من الفاشر، بينها جرائم قتل واغتصاب، لذلك فضّل شقيقي البقاء في منزله داخل المدينة”.
ويتابع: “اقتحم الجنود منزل شقيقي، واكتشفوا أنه يختبئ في إحدى الغرف، فأخرجوه وأطلقوا النار عليه، وعندما بدأت زوجته بالصراخ والعويل قتلوها هي الأخرى”. ويضيف هارون: “كانوا يسيرون من منزل إلى آخر ويقتلون المدنيين، وخلال ساعات وجيزة امتلأت الطرقات بجثث الأطفال والنساء والرجال. كانت عملية انتقامية متعمّدة بحق كل سكان المدينة، بزعم أنهم متسلحون ضد قوات الدعم السريع ويستحقون جميعهم الموت. كانوا متعطشين للدماء بعد حصارهم الطويل للمدينة التي صمدت 18 شهراً”.
بحرقة، تتحدث زينب إبراهيم عن زوجها الذي قُتل أمامها عند الساتر الترابي الذي كان يحيط بالمدينة ويحرسه آلاف الجنود من قوات الدعم السريع، والذي يُعرف بـ”حاجز الموت”، حيث تحول إلى ساحة لإعدام المدنيين الفارّين من آلة القتل العشوائي، وتقول لـ”العربي الجديد”: “هربنا فور دخول الجنود إلى المدينة، كان زوجي يحمل أغراضنا البسيطة في كيس قديم مهترئ، قبل أن يوقفنا المسلحون عند الحاجز الترابي. شتمونا بألفاظ عنصرية وعزلوا النساء عن الرجال. وبعد تفتيش النساء تفتيشاً دقيقاً وصل إلى حد التحرش الجنسي، سمحوا لهنّ بالمغادرة، واحتفظوا بالرجال الذين تجاوز عددهم 70 رجلاً. اعتقدنا أنهم سيطلقون سراحهم ويلحقون بنا، لكن بعد خطوات قليلة سمعنا صوت الرصاص ينهال عليهم، قتلوهم جميعاً، وتركوا جثثهم في العراء”.
وتتابع زينب: “كانت رائحة الموت على بُعد خطوة، وكان الجميع في عداد الموتى، حتى الأحياء منهم، مع محدودية فرص النجاة، أو حتى استحالتها. لاحظنا نشوة الجنود بقتل الأبرياء، حيث كانت أسلحتهم مليئة بالرصاص، وبعد انتهاء معركتهم مع الجيش السوداني، قرروا إفراغها في صدور المواطنين ورؤوسهم، كانوا يتسابقون على القتل والإجرام”. وتختم بالقول: “لم أتوقع قسوة وفظاعة بهذا الحجم، شاهدتهم يقتلون النساء والأطفال والرجال، وحتى الدواب القليلة التي كان تحمل أغراض النازحين والفارّين”.
وتسرد عائشة يعقوب مأساتها أثناء محاولتها الهروب مع عشرات النازحين، وتقول لـ”العربي الجديد”: “صادفنا جنوداً يقودون عربة قتالية، فأطلقوا النار علينا من مدفع رشاش، وهو أحد أكثر أنواع الأسلحة فتكاً، غير أننا نجونا بأعجوبة، علماً أن عدداً كبيراً من النازحين الذين كانوا خلفنا سقطوا ضحايا هذا السلاح، وتركناهم يسبحون في برك من الدماء. سمعنا صيحات الجنود المنتشية بالانتصار بعدما حصدوا أرواح نساء وأطفال أبرياء”.
وكانت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان قد أعلنت، أول من أمس الأربعاء، في بيان لها أن “مجزرة الإبادة والتطهير الإثني في الفاشر أدت إلى مقتل ألفَين من المدنيين خلال الساعات الأولى لدخول قوات الدعم السريع إلى المدينة، وإلى تصفية أبرياء عبر حرقهم أحياءً، فيما يُقدر أن 177 ألف مدني ما زالوا محاصرين، ويُعتقد أن معظمهم تعرضوا لعمليات قتل جماعية، كما حُرق المدنيون الذين خرجوا بسياراتهم أحياءً بداخلها”.
وكشفت اللجنة في بيانها ذاته عن نزوح ما يُقدر بـ28 ألف شخص خلال 48 ساعة فقط، وسط هجمات على طرق الهروب التي تمنع المدنيين من الوصول إلى مناطق آمنة، حيث وصل ما يفوق الألف شخص إلى مدينة طويلة، وهم يعانون من الإصابات والجوع والعطش.
وتؤكد نقيبة الأطباء السودانيين هبة عمر أن الأوضاع في مدينة الفاشر مأساوية، وتقول لـ”العربي الجديد”: “آلاف المدنيين ما زالوا في المدينة يعانون الجوع، وهم عرضة للقتل باستمرار، بينما سُجلت العديد من حالات التصفية الميدانية وذبح المواطنين”.
واتهمت شبكة أطباء السودان قوات الدعم السريع بتصفية مئات المدنيين خلال ثلاثة أيام في الفاشر، وأفادت في بيانها بأنهم جميعاً جرت تصفيتهم أثناء خروجهم من المدينة هرباً من الاشتباكات التي وصلت لذروتها. وفي حديثه لـ”العربي الجديد”، يصف الناطق باسم الشبكة محمد فيصل أحداث الفاشر بأنها “جريمة على أساس عرقي وإثني، وهي جريمة ضد الإنسانية، ومجازر لا يمكن السكوت عنها، حيث قُتل المواطنون في الطرقات وداخل المنازل أثناء فرارهم، وجرى توثيق الجرائم في فيديوهات ونشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي”. ويؤكد فيصل أن “قوات الدعم السريع قتلت عشرات المُصابين والمرضى داخل المستشفى السعودي في المدينة وداخل مستشفى الفاشر، كما أنها اقتحمت العيادات الخارجية وصفّت الجرحى والمرضى والمرافقين، واختطفت عدداً من الأطباء من أماكن عملهم، وطالبت بفدية لإطلاق سراحهم”.
بدورها، أعلنت منظمة الصحة العالمية، الأربعاء، مقتل أكثر من 460 مريضاً ومرافقاً في المستشفى السعودي في الفاشر. وكتب المدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس على منصة إكس: “نشعر بالفزع والصدمة إزاء التقارير التي تفيد بمقتل 460 من المرضى والمرافقين في المستشفى السعودي بالفاشر، واختطاف العاملين الصحيين في الهجمات الأخيرة”.

