صراع بالوكالة مع جواسيس إسرائيل في غزة

المسار : تجمع عصابات إجرامية معلومات عن المقاومة في غزة، كما نشطت في عمليات خطف مطلوبين لجيش الاحتلال الإسرائيلي، من بينهم الممرضة تسنيم الهمص ووالدها الدكتور مروان المختفيان بالطريقة ذاتها في نمط تكرر أثناء الحرب.

– لم يخطر ببال الممرضة الغزية تسنيم الهمص أن نوبتها المسائية في النقطة الطبية بمخيم الأرض الطيبة غرب مواصي خانيونس، ستنتهي مساء الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2025، في مكان آخر غير منزلها، فما أن همّت بالمغادرة، حتى توقّفت شاحنة مدنية محملة بالأمتعة أمام المكان وبدت كأنها تقلّ عائلة نازحة، وفي غضون دقائق قليلة تحول المشهد إلى عملية اختطاف محكمة، نفّذتها مليشيا متعاونة مع الاحتلال، خرج أفرادها من الشاحنة وفق ما تؤكده عائلتها وشهود عيان.

اقتيدت الممرضة العشرينية إلى جهة مجهولة، قبل أن يتبين لاحقًا أنها معتقلة في سجن عسقلان الإسرائيلي في ظروف قاسية، وجاءت هذه الحادثة بعد شهرين ونصف من اختطاف والدها الطبيب مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية في قطاع غزة، بالطريقة ذاتها.

أثارت حادثتا اختطاف الطبيب وابنته صدمة واسعة داخل عائلة الهمص، لكنّ الأخطر أنهما لم تكونا معزولتين، إذ تشير بيانات المكتب الإعلامي الحكومي التي حصل عليها “العربي الجديد” إلى تصاعد غير مسبوق في عمليات الخطف خلال النصف الثاني من العام الجاري، بلغ ضحاياها نحو 300 مواطن، بينهم 200 خُطفوا من داخل مراكز المساعدات الأميركية، ومئة آخرون في حوادث متفرقة.
نمط إجرامي متكرر ومنظم

تتورط مجموعات إجرامية خارجة عن القانون تعمل تحت مظلة الاحتلال الإسرائيلي في عمليات الخطف في غزة، خصوصا في المناطق التي انهارت فيها الخدمات الأمنية بفعل العدوان وكثافة القصف، ما أوجد بيئة فوضى استغلتها تلك المجموعات بحسب ما يكشفه مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة والذي يعتبر أن الأرقام الصادمة تدل على “نمط متكرر ومنظم” لعمليات الاختطاف.
عمليات الخطف جرت بإسناد من جنود الجيش الإسرائيلي
وجنّد الاحتلال خلال عام 2025 ست عصابات وسلحها، وفي الوقت الحالي بقيت أربع منها نشطة وهي: عصابات ياسر أبو شباب المتمركزة شرق رفح، وحسام الأسطل الملقب “أبو سِفن” في قرية قيزان النجار ومناطق جنوب وشرق خان يونس، وتشمل التشكيلات المسلحة أيضا عصابة في شرق غزة تضم أفرادا من عائلة المنسي وأخرى تضم بعض المنتمين إلى عائلة حلس.

أما العصابة التي يتحدر قادتها وعناصرها من عائلة دغمش فجرى تفكيكها بعد مهاجمة أوكارها عقب وقف إطلاق النار في غزة، إذ هاجمت قوة كبيرة من قوة رادع، وهي وحدة خاصة شكلتها وزارة الداخلية في غزة لمكافحة التجسس والأنشطة غير القانونية، مجمعاً للعصابة في حي الصبرة جنوبي مدينة غزة، مساء الثاني عشر من أكتوبر الجاري، وخاضت مواجهات مسلحة عنيفة معها استمرت أكثر من 6 ساعات، انتهت بمقتل أكثر من 25 من عناصر العصابة، بينهم حسام دغمش المسؤول الميداني في حي الصبرة، وهو المسؤول المباشر عن اغتيال الصحافي صالح الجعفراوي، كما اعتقلت رادع 60 آخرين، وعثرت الأجهزة الأمنية على أسلحة وكميات كبيرة من التموين والسولار، ومركبات دفع رباعي، وأجهزة اتصال حديثة مربوطة بأنظمة مخابرات الاحتلال، وذخيرة، مصدرها جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانت تُنقل إلى العملاء خلال الفترة الماضية، وجرت مصادرتها، وفق ما أعلنته رادع في بيان مقتضب. كما تفتتت عصابة من المنتمين إلى عائلة جندية بعد اعتقال قادتها وعناصر منها واندمج الآخرون في عصابات أخرى بحسب مصادر أمنية متطابقة رفضت الكشف عن هويتها حتى لا يستهدفها الاحتلال.

والمشترك بين تلك العصابات أن قادتها ذوو سوابق جنائية وأمنية، وغالبيتهم فروا من السجون مع اندلاع الحرب، وبدأت أنشطتهم بسرقة شاحنات المساعدات وقطع الطرق قبل أن يتحولوا إلى جواسيس بيد الاحتلال، كما هو الحال مع ياسر أبو شباب الذي كان موقوفًا في قضايا مخدرات وتخابر، والأسطل المحكوم بالإعدام لدوره في اغتيال العالم الفلسطيني فادي البطش بماليزيا عام 2018 قبل أن يُعتقل لاحقا في غزة.

توصلت المصادر الأمنية إلى ضلوع العصابات في عمليات الخطف بعد التعرف على هويات بعض منهم في حوادث مختلفة منها واقعة اختطاف الممرضة تسنيم الهمص، التي نفذتها مجموعة بقيادة شخص من خانيونس وهو عضو في عصابة الأسطل المتعاونة مع مجموعة أبو شباب، وهو من سحب الهمص بالقوة إلى الشاحنة، وتشير المصادر إلى أن هذا الشخص مرتبط بمخابرات الاحتلال (الشاباك) ومتورط بالتنسيق مع مليشيات أخرى في القطاع. كما كُشفت هويات سبعة عناصر من عصابات مسلحة شاركوا في خمس عمليات اختطاف وإطلاق نار، إما من خلال اعترافات ميدانية أو التعرف عليهم أثناء التنفيذ، وانتهت جميعها بتسليم المختطفين للاحتلال.

عمليات ميدانية بإسناد جوي إسرائيلي

لم تكن عمليات الخطف في غزة مجرد اقتحامات خاطفة، بل سيناريوهات ميدانية محكمة تجمع بين التمويه المدني والإسناد الجوي الإسرائيلي، وفق إفادات المصادر الأمنية وروايات شهود العيان، ويستعيد الغزي الثلاثيني أحمد نصر المقيم في خيمة بمنطقة فِش فريش جنوب خانيونس، مشهد اختطاف الطبيب مروان الهمص صباح 21 يوليو/تموز الماضي، قائلا لـ”العربي الجديد”: إن مركبة دفع رباعي بيضاء بلا لوحات توقفت قرب سيارة تابعة لوزارة الصحة، وترجّل منها أربعة مسلحين بملامح عربية بدوية، أطلقوا النار باتجاه استراحة صغيرة كان يجلس فيها الهمص مع مرافقه والصحافي تامر الزعانين، الذي استشهد على الفور، وحاول الهمص المقاومة، فأطلقوا النار على قدمه، قبل أن يحملوه عنوة إلى المركبة التي انطلقت بسرعة باتجاه محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الخاضع لسيطرة الاحتلال.
ويُعدّ تنكّر أفراد من القوات الإسرائيلية أو أي جهة تعمل لصالحها بصفة مدنيين لاستدراج أشخاص واعتقالهم عملاً يدخل في نطاق الغدر المحظور في القانون الدولي الإنساني وفقًا للمادة 37 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والقواعد العرفية التي أقرّتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إذ يُستغل مظهر الحماية الذي يمنحه القانون للمدنيين لخداع الطرف الآخر، وإذا أدى هذا السلوك إلى قتل أو جرح المستهدف، مدنيًا كان أو مقاتلًا، يُعدّ جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بحسب توضيح ليما بسطامي، مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

في هذه الوقائع يتضح عمل العصابات “بدعم وإسناد جوي مباشر من الاحتلال” بحسب الثوابتة، مشيرا إلى أن الغارات المنفذة لتغطية عمليات الخطف أو الاغتيال “تُعدّ جريمة حرب مركبة، تجمع بين القصف العشوائي واستهداف المدنيين عمدا”.

ومن بين 300 حالة اختطاف وثّقها المكتب، سُجلت أربعة حوادث هي الأخطر: اختطاف الدكتور مروان الهمص أثناء جولته على مستشفى ميداني، واختطاف ابنته تسنيم، واختطاف زوجة وطفل الشهيد أحمد سرحان بعد مقتله، إضافة إلى إعدام الصحافي والناشط صالح الجعفراوي في حي الصبرة في 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وفق غازي المجدلاوي، منسق المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسرا (غير حكومي). موضحا أن جميع المختطفين يُنقلون مباشرة إلى داخل الأراضي المحتلة، حيث يُحتجزون “في معسكرات أو قواعد عسكرية” لفترات طويلة، دون تهم أو تواصل مع ذويهم، في ظروف توصف بأنها اختفاء قسري ممنهج.

ووفق بسطامي فإنه في حالة الطبيب مروان الهمص وابنته الممرضة تسنيم، يُشكّل اعتقال العاملين في الوحدات الطبية دون أساسٍ قانونيٍّ مشروع، أو إساءة معاملتهم، أو استغلال التخفي بصفة مدنية لسلبهم الحماية المقرّرة لهم، انتهاكا جسيما لأحكام القانون الدولي الإنساني، وجريمة بموجب نظام روما الأساسي، فالعاملون الطبيون يتمتّعون بحماية خاصة بموجب اتفاقيات جنيف، ولا يجوز المساس بهم أو تقييد حريتهم، وعدم تقديم معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم، أو حتى رفض الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم، يُعدّ اختفاءً قسريا وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي.
خطف الباحثين عن المساعدات

يقول صالح الهمص، مدير التمريض في مستشفى غزة الأوروبي، إن اختطاف الممرضة تسنيم الهمص، التي لم تمارس أي نشاط سياسي، “يأتي في إطار محاولة ابتزاز والدها والضغط عليه لانتزاع اعترافات”، واصفا الحادث بالخيانة الإجرامية، وأوضح أن العائلة وجهت رسالة احتجاج عاجلة إلى منظمة الصحة العالمية ومؤسسات أممية مطالبة بالتحرك للإفراج عنهما.

ومن بين أخطر أساليب العصابات العاملة تحت مظلة الاحتلال، استغلال مراكز توزيع المساعدات كمصائد بشرية وفق الثوابتة، فالشاب محمود عمر، الذي اختُطف برفقة 25 شخصا أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات في مركز تابع لمؤسسة غزة الإنسانية شمال رفح مطلع يوليو الماضي، يروي لـ”العربي الجديد” كيف “داهمهم مسلحون يحملون بنادق كلاشنكوف وأحاطوا بهم قبل اقتيادهم إلى مركز احتجاز يبعد نحو كيلومتر واحد فقط عن موقع التوزيع”. ويضيف عمر أن المجموعة “تعرضت للضرب والإهانة والشتم”، قبل أن يحضر ضابط مخابرات إسرائيلي استخدم حاسوبًا محمولًا للتحقق من هوياتهم، فأُفرج عن عدد منهم، بينما نُقل خمسة شبان إلى جهة مجهولة بعد تقييد أيديهم وعصب أعينهم.

200 ضحية خطفتها العصابات من مراكز المساعدات الأميركية
شهادة أخرى يقدمها محمد الشاعر، الذي كان بانتظار شاحنات المساعدات قرب مفترق موراغ في رفح خلال الشهر ذاته، حين فتح مسلحون النار من مركبة قدمت من داخل المدينة، ما دفعه وعددا من الشبان للاختباء في حفرة قريبة، ويقول الشاعر: “سمعناهم يشتموننا وينعتوننا بكلاب حماس”، ويهددوننا بالقتل، قبل أن يعودوا إلى داخل رفح المعزولة”.

هذه الوقائع، وفق الثوابتة، “تؤكد أن العصابات تستخدم المساعدات أداة لاستدراج المدنيين، تمهيدا لاعتقالهم أو تصفيتهم تحت غطاء العمل الإنساني”، في نمط وصفه بأنه “جريمة مزدوجة تجمع بين الخداع الإنساني والانتهاك العسكري”.

جمع المعلومات عن المقاومة

في 13 سبتمبر/أيلول الماضي، ألقى عناصر من المقاومة القبض على ثلاثة أفراد من عصابة تنشط في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، متهمين باختطاف مقاومين من المدينة، وأعدموهم ميدانيا كما ينقل محمود مروان، أحد شهود العيان، قائلا: “وقف ملثم مسلح وقال أمام الناس: هذا مصير من يتعاون مع الاحتلال، هؤلاء من مجموعة المتعاون أبو جندية، المختبئ شرق الشجاعية وسنصل إليه”.

ونفذ عناصر المقاومة في مساء 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025، عملية إعدام أخرى شملت 8 أشخاص من عصابات الاحتلال الناشطة في حي الصبرة، بعد انتهاء التحقيق معهم وثبات تورطهم في قضايا اختطاف وإعدام مقاومين، وفق مصادر في وحدة رادع، ذكرت أنه خلال الفترة بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول الماضي، اختطفت عصابات تابعة للاحتلال 5 مقاومين، ثلاثة منهم وسط القطاع، مضيفة أن هذه العصابات لا تكتفي بتنفيذ عمليات الخطف، إذ نشطت مؤخرا في جمع معلومات للاحتلال عن أماكن أسراه وأنفاق المقاومة، ويقوم أفرادها بتمشيط وتطهير منازل قبل دخول جيش الاحتلال إليها، واستهدفتهم المقاومة في شهر مايو/أيار الماضي، بتفجير منزل مفخخ شرق رفح، ما تسبب بمقتل وإصابة عدد منهم ولن تتوقف قبل القضاء عليهم.

وبالتزامن مع عملية غزة، نفذت الأجهزة الأمنية عملية نوعية في خانيونس جنوبي القطاع أُعدم خلالها العميل أحمد زيدان الترابين، الذي يُعد الذراع الأيمن للمدعو ياسر أبو شباب، وفق ذات المصادر.

وبحسب الثوابتة ما يحدث هو تطبيق للقانون، وملاحقة من جندهم الاحتلال، ولا يمكن وصف ذلك على أنه بداية لحرب أهلية، خاصة أن ما يحدث يحظى بدعم ومباركة سكان القطاع، مؤكدا أن التهدئة تخلق فرصة لملاحقة العملاء والخارجين عن القانون، وتصعب تحركهم، وهو ما تؤكده مصادر أمنية في غزة، متوعدة العصابات بعدم التوقف عن ملاحقتها، ما اضطرها للفرار إلى شرق القطاع، حيث المناطق التي تخضع لسيطرة الاحتلال، إذ تتمركز شرق رفح عصابة المدعو ياسر أبو شباب، وشرق خان يونس عصابة المدعو حسام الأسطل، بينما سلم العشرات من عناصر المليشيات أنفسهم للأجهزة الأمنية.

Share This Article